بعد هزيمةِ الخامس من حزيران عام 1967 وما أفرزته من نتائجَ عسكريّةٍ وسياسيّةٍ واجتماعيّةٍ وفكريّة، تم طرح تساؤلاتٍ عميقةٍ حولَ الفكر القومي العربي ومستقبله خاصةً بعد حالة المد القومي الذي شهدته الساحة العربية بعد صعود التجربة الناصرية وتأميم قناة السويس وعدوان 1956 على مصر والوحدة السورية المصرية عام 1958.
وتزايدت التساؤلات حول مصير الفكر القومي العربي بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد و أوسلو ووادي عربة وبلغت هذه التساؤلات والأسئلة ذروتها بعد احتلال العراق عام 2003 وبعد ما سمي بالربيع العربي عام 2011 الذي كان من نتائجه تدمير عدد من البلدان العربية بمشاركة من بعض الأنظمة العربية مما جعل البعض يروج لمقولة هل آن الأوان للقول وداعًا لشعار الوحدة العربيّة ووداعًا للفكرة القوميّة ووداعًا لوجود أمة عربيّة واحدة، وبات البعض يعيش حالة من الإرباك والتشتت الفكري ويطرح تساؤلات جادة حول الواقع العربي والفكر القومي ومستقبل الأمة العربية ومستقبل أجيالها.
وجاء مونديال 2022 الذي جرى في دولةٍ عربيّةٍ لأوّل مرّة ليشكّل فرصةً مذهلةً واستثنائيّة، كانت جماهير الأمة العربية بأمس الحاجة لها للتعبير عن مشاعرها الصادقة ومعدنها الأصيل وتمسكها العميق بعروبتها وبتلاحمها ووحدة أهدافها ومصيرها وتمسكها الذي لا يتزعزع بقضية فلسطين، واستمرار إيمانها بأنها القضية المركزية للأمة العربية من محيطها إلى خليجها، وما رفع علم فلسطين في الملاعب والساحات إلا التعبير الحاسم عن رفض التطبيع الذي أقدمت عليه بعض الأنظمة الرجعيّة التابعة والخانعة، وسحب أي شرعيّة عن هذا التطبيع الخياني.
إنّ التفاف الجماهير العربية بدءًا من فلسطين و القدس وغزة وحيفا وأم الفحم مرورًا بكل العواصم العربيّة دون استثناءٍ حول فريق العرب، الفريق الرياضي المغربي بنجومه اللامعين قد أكد وحدة مشاعر الأمة العربية من موريتانيا وحتى البحرين، وأكد وحدة الهوية والانتماء والمصير.
إن ما جرى في الدوحة أكد مجموعة من الحقائق الساطعة لا يمكن لأحد نكرانها.
الحقيقة الأولى:
هي أن فكرة القومية العربية والعروبة ما زالت حية ومتوهجة في عقل وقلب المواطن العربي الذي برهن من خلال التفافه حول الفريق الرياضي للمغرب، أن كل محاولات تكريس النزعة ال قطر ية والإقليمية سيكون مصيرها الفشل وأن وحدة اللغة والدين والثقافة والتاريخ المشترك والجغرافيا والمصير الواحد الذي يجمع الأمة هو أقوى من كلّ محاولات تشويه هذه الحقائق.
لقد أكد المواطن العربي في كل أرجاء الوطن العربي الكبير أن الوحدة العربيّة ما زالت حلم وهدف ومشروع وأن الجماهير لن تتخلى عن هذا الهدف رغم كل حالة التمزق والانهيار الذي يشهده النظام الرسمي العربي وإذا كان هذا الانتصار الرياضي لأسود أطلس قد خلق كل هذه الحالة والتفاعل على المستوى الشعبي، فكيف سيكون الأمر إذا تم تحقيق انتصارات عسكرية وسياسية؟
الحقيقة الثانية:
هي أن قضية فلسطين كانت ولا زالت وستبقى هي القضية المركزية لأبناء الأمة العربية رغم انشغال المواطن العربي بهمومه ومشاكله الكبرى، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إن رفع العلم الفلسطيني في الملاعب والساحات والشوارع له معنى كبير وعميق بأن القضية الفلسطينية لا يمكن أن تموت وستبقى حية إلى أن تتحقق أهداف الشعب الفلسطيني في العودة والحرية والاستقلال وتحرير كامل تراب فلسطين.
الحقيقة الثالثة:
هي أن التطبيع مع الكيان الصهيوني لا يحظى بأي شرعية من الجماهير العربية وأنه فعلٌ خيانيٌّ من مجموعاتٍ حاكمةٍ وأنظمةٍ تابعةٍ لا تمثّل بأي شكل من الأشكال إرادة الجماهير العربية التي قالت كلمتها بكل وضوح وشجاعة بأنها كانت وستبقى مع شعب فلسطين ومقاومته الباسلة.
ولا شك أن ما شاهدناه خلال الأسابيع الماضية سيكون له انعكاسات إيجابية كبيرة بالنسبة للشباب والجيل الفلسطيني الجديد، الذي يؤسس لمرحلة جديدة في الكفاح الوطني المتواصل للشعب الفلسطيني يقوم على قاعدة إعادة الاعتبار لمعنى فلسطين وتحرير كل ذرة من ترابها.
ارتباطا بما سبق، فإن الفكر القومي العربي لا زال راسخاً وبعمق في أذهان الجماهير العربية على امتداد الأرض العربية، لكن هذا الفكر يحتاج الى تطوير وتجديد واستخلاص دورس المرحلة الماضية، ولذلك نعيد اليوم نشر مقال تم كتابته لمجلة الهدف عام 1995 تحت عنوان (الفكر القومي العربي وضرورات التجديد) والذي لازال يكتسب راهنية تنطبق على واقعنا في اللحظة السياسية الراهنة.
مثل الفكر السياسي القومي ولا زال محوراً أساسياً في العقل العربي واتجاهات تفكيره، فعلى مدى عقود طويلة تكون تراث ضخم من الآراء والأفكار حول القومية وضرورات الوحدة العربية.
تبلور الفكر القومي العربي المعاصر مع تصاعد نضال الشعب العربي ضد الاستبداد العثماني والتوسع الاستعماري الأوروبي وضد الغزوة الصهيونية الاستيطانية في فلسطين، وأصبح هذا الفكر حقيقة موضوعية تترسخ معالمها وتنمو مقوماتها من خلال النضال العربي من أجل التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والوحدة. تعاظمت قوة الحركة القومية العربية مع نهاية الحرب العالمية الثانية وأفلحت في تحقيق الاستقلال السياسي لمعظم البلدان العربية، كما تعاظمت مكانة حركة التحرر الوطني في المرحلة الناصرية، وشهدت المنطقة العربية حالة مد قومي عارم توّج بوحدة مصر و سوريا عام ١٩٥٨ ممـا أقلق الدوائر الامبريالية والصهيونية التي كانت تعد العدة وتتربص الفرصة المناسبة لتطويق عبد الناصر موجهة ضربتها الكبرى في عدوان حزيران ١٩٦٧ الذي كشف عجز وأمراض الواقع العربي ومشكلاته الخطيرة.
هذا العدوان أحدث زلزالاً هائلاً في المنطقة العربية وترتب عليه سلسلة من الانهيارات المتتالية التي عبرت بوضوح عن مظاهر أزمة عميقة وشاملة سياسية. واقتصادية واجتماعية يعيشها الوطن العربي كان من أبرز نتائجها وتجلياتها إفراز اتفاقيات كامب ديفيد واتفاق غزة أريحا والمعاهدة الملكية الهاشمية الاسرائيلية إضافة لحروب وصراعات داخلية عربية - عربية لا زالت قائمة ستضع العرب في حال استمرارها على هامش التاريخ.
الأزمة مستحكمة ومتعددة الأبعاد يأتي في مقدمتها المخاطر التي تهدد الاستقلال الوطني والاستقرار الاجتماعي، وتظهر أبرز المخاطر من تصاعد التدخل الأجنبي المباشر في العديد من البلدان العربية وتفشي أعمال العنف والعنف المضاد في عدد آخر من البلدان. ويمثل البعد الاقتصادي في الأزمة بعداً بالغ التأثير فرغم الموارد الضخمة الكامنة لاقتصادات الوطن العربي ككل، ولدى بعض بلدانه فإنها في مجموعها تعاني مشكلات التخلف الاقتصادي وضعف التنمية والتبعية. ورغم الأموال والإمكانيات العربية يقع العديد من البلدان العربية في دائرة ازمة الديون وتعتبر بعض الأقطار العربية من بين الدول الأكثر مديونية عالمياً، حيث تعادل ٨٠٪ من الناتج القومي لهذه الدول وهناك دول عربية تجاوزت ديونها ۱۰۰% من الناتج القومي. إن نظرة مدققة للمشهد العربي الذي نعيش تشير إلى واقع مؤلم ومذهل، خاصة بالنسبة للأجيال الشابة التي فقدت الثقة وبدأت تعيد النظر في كل شيء، حتى في المسلمات إنها تتساءل عن هويتها فمن نحن وماذا نريد وكيف يمكن أن نواجه؟
وفي مثل هذه المنعطفات التاريخية الكبرى وفي مراحل الأزمة والتراجع تشعر الأمم والمجتمعات بحاجتها إلى المراجعة وتأكيد الهوية واستخلاص الدروس تستذكر تاريخها وحضارتها وثقافتها وتراثها للدفاع عن حاضرها ومستقبلها. الهجوم الامبريالي الصهيوني الشامل لا يستهدف السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية على مقدرات العرب فحسب، بل يسعى إلى تأكيد انتصاره الايديولوجي ومحاربة وتشويه وتهديم كل فكر مناهض له. والفكر القومي العربي كان مناهضاً للاستعمار ولا يزال وإن قلت فاعليته بسبب المأزق الذي يعيشه. فلا شك أن هذا الفكر تعرض لضربات شديدة ويعاني أزمة بسبب عدم قدرته على تجسيد الشعارات والأهداف الكبرى التي طرحها. ولكن لا شك كذلك ورغم الأزمة، فإن الفكر القومي يستند إلى أسس موضوعية مرتبطة بمصالح الشعب العربي ومستقبله يستند إلى أسس راسخة لا يمكن تجاوزها:
وحدة اللغة والتاريخ والجغرافيا والثقافة والحضارة والمصير المشترك والمخاطر المحدقة. وهذه الأسس وحدت العرب عندما توفر العامل الذاتي ولكن عندما كان الخلل يصيب هذا العامل فإن الصورة تختلف تماماً ويذكرنا التاريخ العربي بأنه لم تكن هناك ديمومة لما يمكن أن يسمى (حالة وحدة، أو حالة تجزئة، فالشواهد التاريخية تؤكد هذا المنحى. فليس صحيحاً أن الوطن العربي كما نعرفه اليوم ظل في حالة وحدة شاملة معظم تاريخه، كذلك لم يبق مفتتاً ومجزءاً طوال تاريخه. بل إن التوحد كعملية مجتمعية سياسية كان يمثل اتجاهاً تاريخياً مستمراً وكان التفتت أيضاً كعملية مجتمعية سياسية يمثل اتجاهاً تاريخياً مضاداً، والعمليتان سادتا التاريخ العربي من خلال جدلية مستمرة. وأهم من ذلك بالنسبة إلى المستقبل هو التأكيد على أن عوامل التوحد موجودة بالقوة نفسها التي توجد بها عوامل التفتت في التجزئة الظاهرة في الوقت الحاضر.
إن القول بأزمة وتراجع الفكر القومي لا يعني سقوط مفاهيمه ومنطلقاته الأساسية. فمقولاته الأساسية حول الوحدة والتحرر والاستقلال الاقتصادي والاجتماعي وتحرير فلسطين لا زالت تشكل محور وجوهر طموحات وتطلعات الجماهير العربية. وتشكل مهمات أساسية كبرى يتوجب التصدي لها كونها ضرورات موضوعية ترتبط بمصالح الشعب العربي وأهدافه. وإن كانت بحاجة إلى التجديد والتطوير الملموس الذي يأخذ بعين الاعتبار تاريخ الفكر القومي العربي وتجاربه الماضية، هذا الفكر الذي يراجع مسيرته ويعيد قراءة تاريخه على ضوء تجارب الماضي ومعطيات الواقع الراهن مما يفتح الطريق أمام بلورة مشروع عربي قومي حضاري يمكن أن يوحد جهود وطاقات مختلف التيارات الفكرية السائدة المناهضة للإمبريالية والصهيونية والرجعية والداعية للتحرر والديمقراطية والعدالة والوحدة.
لقد سادت الفكر القومي العربي المعاصر في مرحلة الخمسينات والستينات نزعة رومانسية وعاطفية، رفعت شعارات كبرى ونبيلة التفت حولها الجماهير العربية. لكن لم يجر التدقيق والدراسة في العناصر والعوامل الأساسية التي يمكن أن تجعل من هذه الشعارات ومن الحركة الجماهيرية الواسعة قوة مادية لتغيير الواقع.
صحيح أن الحركة القومية حققت انجازات ومكتسبات ملموسة لكنها لم تنجح في تحقيق هدفها الأساسي بإنجاز الوحدة.
إن بناء المشروع الحضاري القومي العربي بات يتطلب استخلاص العناصر التي يمكن أن تؤسس لرؤية أكثر وضوحاً ورسوخاً للفكر القومي ارتباطاً بدروس الماضي وتحديات الحاضر والمستقبل التي يفرضها الواقع العالمي والعربي الجديد. فما هي أبرز الاستخلاصات؟
أولاً: الـبـعـد الديمقراطي في الفكر القومي
الفكر القومي لم يعتن ويبلور بشكل واضح طبيعة الدولة القومية وطبيعة العلاقة بين الأقطار وتكوين السلطة والسبل الديمقراطية للوصول إلى الوحدة العربية ولم يربط غالبية رواد الفكر القومي بين الثورة القومية الوحدوية والديمقراطية. وأكثر من ذلك فقد تمحور الفكر القومي حول شعارات استراتيجية بعيدة المدى دون تحديد الطرائق والسبل الواقعية الممكنة لتحقيقها، كان يرى الأهداف البعيدة ولا يرى الوسائل المفضية لها، فقدس الوحدة والعروبة ونسي الواقع وتعقيداته.
ومن جهة أخرى فإن غياب الفهم السليم للديمقراطية أدى إلى بروز الاحتراب والتقاتل والصراع بين التيارات الفكرية والسياسية العربية القومية والماركسية والاسلامية حيث لم تنشأ علاقة ديمقراطية سليمة بين هذه الاتجاهات مما أضعفها جميعها في مواجهة التناقض الأساسي مع الاستعمار.
لا شك أن غياب وتغييب الديمقراطية شكل أحد أهم العوامل في عدم نجاح المشروع القومي العربي المعاصر وعدم قدرته على تحقيق أهدافه، وهذا لعب دوراً أساسياً في موقف اللامبالاة الذي تقفه قطاعات جماهيرية عربية واسعة من القضايا العامة سواء كانت قطرية أم قومية. وبالتالي فإن الدرس الأساسي المستخلص هو ضرورة الربط الجدلي الوثيق بين الوحدة والديمقراطية لكي لا تبقى العوامل السياسية والاقتصادية رهناً بمواقف الحكام العرب وامزجتهم ومصالحهم الخاصة أي لا بد من المشاركة الشعبية في القرار السياسي واشراك الانسان العربي في تقرير مصيره ومستقبله من خلال نهوضه ومشاركته الفاعلة فلا نهوض للحركة الشعبية في غياب الديمقراطية.
إن الفكر القومي العربي لن يستطيع تجديد نفسه واستعادة فاعليته ونهوضه ما لم ينجح في اعتماد الديمقراطية بمفهومها الشامل كركيزة أساسية من ركائزه
ثانياً: البعد الثقافي
لا شك أن التحدي الثقافي الذي يواجه العرب في الظروف الراهنة كبير وخطير خاصة بعد التطورات الهائلة على صعيد الثورة العلمية التكنيكية، حيث نعيش اليوم عصر اختراق الحدود والعقول. وفي ظل غياب المشروع الحضاري القومي، فإن المواطن العربي سيكون مهياً لاستقبال ما يتعرض له من تعبئة اعلامية وثقافية مرتبطة بالهجوم الامبريالي الصهيوني الشامل على المنطقة العربية والهادفة إلى تسميم العقول وتشويه المفاهيم في محاولة لسحق الشخصية والهوية العربية واستبدالها بهوية شرق أوسطية، حيث وصلت العنجهية والغطرسة الصهيونية إلى حد مطالبة شمعون بيريز بانضمام اسرائيل إلى جامعة الدول العربية وتغيير اسم الجامعة، ليصبح جامعة الشرق الأوسط.
هذا الهجوم الشامل والمترابط عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، يتطلب مواجهة شاملة ويكتسب البعد الثقافي في هذا السياق أهمية محورية لأن الجبهة الثقافية تشكل السياج الحامي لوجودنا الحضاري وهويتنا ومستقبل أجيالنا. فمن المعروف أنه في عصور التقدم والازدهار كانت الثقافة العربية تزدهر وتتقدم وفي عصور التخلف والانهيار كانت الثقافة العربية تتخلف وتتدهور شانها في ذلك شأن كل ظاهرة اجتماعية. وفي الظروف الراهنة تشهد الساحة العربية حالة جدل عميقة تطال مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية السائدة حيث ينكفئ البعض ويندفع باتجاه العودة إلى الماضي والتشبث به تحت شعار فشل الفكر القومي والماركسي ويندفع البعض الآخر باتجاه المستقبل وقبول
التحدي المطروح من جانب ثقافات العصر.
يقول الدكتور عابد الجابري: إن الواقع الفكري الثقافي العربي يعاني من ثنائية حادة بين ما هو تقليدي وما هو عصري على جميع المستويات. ثنائية تزداد تفاقماً لتكرس في المجتمع العربي انشطاراً خطيراً وقطيعة فظة بين القديم التليد والجديد الحديث. تحولت في بعض الأقطار العربية إلى حرب أهلية بين الطرفين أحدهما يرفع شعار الأصالة، وهم الأصوليون بينما يلوح الآخر براية الحداثة والتجديد.
وهنا يندفع أمامنا سؤال كبير الا يمكن المواءمة بين الأصالة والتجديد؟ الا يمكن الاستناد للموروث الحضاري ومجاراة روح العصر؟
لقد وقع المفكرون العرب من مختلف الاتجاهات خلال العقود الماضية بأخطار كبيرة عندما ركزوا على عوامل الخلاف والصراع الفكري ووضعوا أسواراً صينية وخنادق متقابلة تمترس كل طرف وراءها دون رؤية ودراسة ما يطرحه الجانب الآخر.
إن نظرة جديدة ورؤية جديدة لا بد أن تتبلور، تنطلق من عناصر اللقاء والتوافق، فلا تعارض بين القومية والإسلام ويمكن للمشروع الحضاري النهضوي العربي أن يستوعب مختلف الاتجاهات الفكرية، إذا أدركت جميعها مستوى التحديات والمخاطر المحيطة، وإذا انطلقت من رؤية علمية منفتحة وغير متعصبة لا تضع أسواراً وقيوداً بين الحفاظ على كل ما هو ايجابي في الموروث الحضاري للأمة العربية وبين متطلبات العصر والمستقبل وأهمية وجود التعددية الفكرية والسياسية وتنوع الآراء والأفكار وتفاعلها السليم.
لقد جهد الاستعمار لمواجهة الدين والاسلام السياسي مع القومية العربية وعمل كل ما يستطيع لاستغلال وتعميق النزاعات الفكرية والسياسية والمذهبية والدينية في المنطقة والرد على ذلك يكون من خلال قيام نوع من التفاهم والتنسيق بين التيارات السياسية حول قضايا وأهداف وطنية وقومية تفرضها التحديات والظروف الراهنة التي تواجه الأمة العربية قضية فلسطين الاستقلال الاقتصادي والتنمية المستقلة عدم التبعية مواجهة التطبيع وثقافة الاختراق. وخطر الصهيونية.
إن انتماء الانسان العربي يتحدد من خلال دوائر عدة في وقت واحد فهو ينتمي إلى قطر عربي بعينه وهذه دائرة أولى. وهو من خلال انتمائه لهذا القطر ينتمي إلى الوطن العربي ككل باعتبار ذلك القطر جزءاً من هذا الوطن القومي وهذه دائرة ثانية. وهو ينتمي في الوقت نفسه إلى الحضارة العربية الاسلامية التي يعيش في ظلها الوطن العربي وهذه دائرة ثالثة. وأخيراً هو ينتمي إلى الانسانية جمعاء مختلف امم العالم وشعوبها وهذه دائرة مع رابعة وليس هناك من تناقض بين الانتماء لهذه الدوائر معاً، الوطنية منها والقومية والحضارية الاسلامية والانسانية إن أحد الدروس المستخلصة من تجربة النضال القومي ضرورة تأسيس علاقة سليمة وعلمية مع التراث والبعد الثقافي فلا تعارض بين الاسلام والقومية لأن الاسلام من صلب التراث العربي شرط الفهم السليم للإسلام والقومية.
ثالثاً: البعد الاجتماعي والاقتصادي
القومية العربية ذات المضمون التقدمي في زمن الامبريالية لا يمكن أن تعني إلا التحرر من السيطرة الأجنبية في ترابطها الداخلي والخارجي، وهو ما يدفع الحركة القومية إلى أن تصبح حركة الجماهير الواسعة وكل من له مصلحة في الحرية والاستقلال والتقدم. إن معظم أقطار الوطن العربي تعاني من حالة التبعية والارتهان للسوق الرأسمالية فقد حقق كل بلد عربي تنمية منفصلة عن التنمية التي جرت في البلدان العربية الأخرى. وجرت هذه التنمية القطرية بالتعاون والارتباط مع السوق الرأسمالية العالمية بحيث تقوى وتعمق اندماجه فيها. وكشف ذلك عن قوة المصالح الاقتصادية والاجتماعية
لسياسية لبعض الفئات والشراء الاجتماعية المتنفذة في كل قطر عربي على حده وهي فئات تعتبر التكامل الاقتصاد ضاراً بمصالحها الضيقة وتتحرك بهمة لابقا التجزئة على حالها.
لقد سادت معظم الأقطار العربية برجوازي ذات طبيعة رأسمالية مشوهة وطفيلية، تربع اطماعها الاقتصادية مباشرة بحركة رأس المال العالمي، وبعد قيامها بتشويه الاقتصاد العربي، فإنها مسؤولة أيضاً عن تشو التطور الاجتماعي العربي، بحيث نشأ مجن استهلاكي يتسم بضعف المشاعر الوطني وانحسار الروابط القومية.
في ظل هذا الواقع، فإن الامبريالية والصهيونية تسعيان لإقامة ما يسمى بالسوق والنظام الشرق أوسطي الهادف إلى تفتي الكيان العربي لتدعيم المصالح الأميركي وتغيير بنية المنطقة العربية لدمج اسرائيل فيها وتأمين توسعها الاقتصادي مع بتفوقها العسكري لمواجهة أي نهوض قوم عربي مستقبلاً، ومحاولة تحويل اسرائيل دولة اقليمية عظمى بعد أن يكون مشر السوق الشرق أوسطي قد قلب المواز الجغرافية والسياسية والقومية والاقتصاد المنطقة لصالحها، أي احتواء الو العربي وعرقلة شروط نموه وتقدمه المست لتكريس واقع القطرية والتجزئة واحدة المزيد من التشرذم والانقسام من خلال فرق وقائع اقتصادية وسياسية واجتماع وثقافية العرقلة ومحاربة فكرة الوحدة العرب عبر محاولة ضرب اسسها المادي والموضوعية بهدف تحقيق جملة من الأهداف في مقدمتها:
أحكام واستمرار السيطرة الأميركية على الثروة النفطية العربية إنتاجاً وتسويقاً وتوزيعاً، والهيمنة على ما يسمى بالنص العالمي الجديد من خلال تأمين عوامل الضغطـ على أوروبا واليابان وإقامة نظام اقليمي يؤمن حماية الأنظمة الرجعية التابعة وإحداث المزيد من الإخلال بميزان القوى في المنطقة للحفاظ على التفوق الاسرائيلي وتصفية القضية الفلسطينية، والعمل على اضع ومحاصرة جميع القوى العربية الوطنية رسمياً وشعبياً، وتطبيع علاقات الكي الصهيوني مع المحيط العربي، وتأجيج الصراعات العربية ومواجهة العرب بالعرب إن التطورات المتلاحقة والانتكاس الخطيرة التي عاشتها حركة التحرر الوطني العربي خلال العقود الأربعة الماضية، جع بعض القوى الطبقية العربية المرتبط بمصالح الرأسمالية العالمية تطرح بصي مباشرة أن مبدأ الوحدة العربية والتكـامل الاقتصادي العربي قد ثبت فشله، وأن الحديث عن عمل عربي مشترك وأمن عربي مشترك قضية أصبحت من مخلفات الماضي، وبالتالي فإن هذه القوى ترى مصلحتها في التسليم بالتبعية المطلقة والحماية الأجنبية ومواجهة فكرة الوحدة العربية.
إن المضمون الاجتماعي والاقتصادي لحركة القومية العربية لم يعد من الممكن إغفاله أو طمسه، فالقضية القومية اليوم باتت قضية وطنية ذات مضمون اجتماعي واقتصادي متقدم، وهذا درس أساسي على الحركة القومية استخلاصه من التجارب السابقة. أي ضرورة الربط بين النضال القومي العربي والنضال الطبقي، حيث تبلورت مصالح مادية لا بد من رؤيتها عند الحديث عن النضال القومي بهدف تحديد القوى الاجتماعية ذات المصلحة الحقيقة في تحقيق الوحدة.
فالصراع من أجل الوحدة العربية بات يتخذ شكل صراع اجتماعي بين الجماهير الواسعة الفقيرة من الشعب العربي والطبقات المستغلة سياسياً واقتصادياً، الساعية لتكريس واقع التجزئة والقطرية حفاظاً على مصالحها الضيقة.
رابعاً: العلاقة بين الوطني والقومي
جدل العلاقة بين الوطني والقومي، أي إشكالية الخصوصية القطرية والتكامل القومي، تعتبر من الاستخلاصات الهامة والأساسية التي أفرزتها تجربة العمل القومي والفكر القومي خلال المرحلة الماضية.
لم يتم إقامة علاقة صحيحة بين القطري والقومي، كما لو كانت المجتمعات العربية متماثلة كل التماثل، لا خصوصية تفصل بينها ولا اختلاف يميز مجتمعاً عن آخر، علماً أن عديداً من التمايزات والاختلافات قائمة بين هذه المجتمعات مع إدراكنا لدور الاستعمار في تضخيمها وتسعيرها، الأمر الذي يفرض بالتالي ممارسة وبلورة رؤية علمية لعلاقة سليمة بين البعدين، فالبعض ركز على العامل القومي متجاهلاً الخصوصيات القطرية والبعض الآخر ركز على القطري مبالغاً في الخصوصية ومهملاً للعامل القومي.
إن تجربة النضال الوطني الفلسطيني أفرزت بالملموس أن اهمال وتغييب البعد الوطني في الصراع مع الصهيونية واسرائيل خطأ جسيم. لكنها برهنت بذات الوقت أن تغييب واضعاف البعد القومي العربي لهذا الصراع، تحت شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل خطأ كبير واستراتيجي تدفع ثمنه الحركة الوطنية الفلسطينية اليوم ثمناً باهظاً كان من نتائجه مأساة اتفاق أوسلو - واشنطن بكل ما يحمله من نتائج مدمرة على الصعيد الوطني والقومي.
لا بد من إقامة علاقة جدلية وثيقة بين البعدين. وهنا لا بد من التحذير من المبالغة في الخصوصيات القطرية لأن كثيرين وجدوا في ابراز مقولتي الخصوصية القطرية واختلاف الظروف الاقليمية ما يبرر العجز عن تحقيق الطموحات الوحدوية وتكريس واقع التجزئة.
علينا أن ندقق جيداً في أطروحات الخصوصية واختلاف الظروف وتفاوت التطور.
لا لنتجاهل ذلك في تحليلنا وتشخيصنا للواقع الملموس ورؤيتنا للمعطيات والعوامل الموضوعية والذاتية المعرقلة للوحدة. بل لنواجه ذلك في تحليلنا ونضالنا بصورة علمية سليمة. فالمعطيات والواقع العربي والعالمي الراهن يضع القوى العربية المناضلة أمام تحديات جديدة لم يكن يواجهها الفكر القومي العربي في فترات صعوده الأولى. الأمر الذي يفرض تطوير الفكر القومي فلا يكتفي بمقولاته السابقة وإنما يضيف لها مقولات جديدة مثل العقلانية، التعددية الفكرية والسياسية العلمانية، الديمقراطية الحداثة وكل هذه العناصر ضرورية لتجديد وإحياء الفكر القومي بعيداً عن زمن البديهيات الذي كان يعتبر الوحدة العربية في متناول اليد وتحرير فلسطين من الصهيونية شأناً قادماً وقريباً. إن تعقيدات وخطورة الوضع الذي نعيش كما الغطرسة الصهيونية والامبريالية تستلزم تضافر جهود وإمكانيات جميع الأطراف المعنية بنهوض قومي عربي جديد أفراداً وأحزاباً ومؤسسات فنهوض كهذا يستلزم حواراً مسؤولاً وتفاعلاً جماعياً بين الساسة والمثقفين والأحزاب وكل من هو حريص على مواجهة الواقع المتردي ومقاومته.
لقد تمكنت الامبريالية والصهيونية العالمية، من خلال هجومها المتواصل والكثيف على الوطن العربي، ومن خلال زرعها لإسرائيل في قلب هذا الوطن من الإبقاء على واقع التجزئة والتخلف والتبعية، واستمرار احتلال فلسطين وأجزاء من الأراضي العربية. واليوم ينتقل الهجوم إلى مستويات نوعية جديدة، لم يعد المواطن العربي قادراً على متابعتها وهو في حالة ذهول شديدة. وما كان لكل ذلك أن يتحقق لولا استناد الامبريالية والصهيونية العالمية لاستراتيجية عمل شاملة، مبرمجة ومدروسة، ترتكز لمجمل طاقات وامكانيات المعسكر المعادي. ولولا استنادها بذات الوقت لضعف وقصور وتشوه العامل الذاتي العربي وعجزه عن بلورة استراتيجية مجابهة مجتمعية شاملة ترتكز لمجمل طاقات وإمكانيات الشعب العربي. فهل تستطيع الأمة العربية وقواها الحية بناء هذه الاستراتيجية القومية، العلمية الشاملة، التي تشكل بداية الهجوم المضاد لينتزع العرب مكانهم اللائق من هذا العالم.
مراجع:
- مستقبل الأمة العربية – التحديات والخيارات –: مركز دراسات الوحدة العربية، ص 64.
- د. عابد الجابري: صحيفة تشرين 22/12/1994، عدد 6116.
- القومية العربية والإسلام – ندوة: مركز دراسات الوحدة العربية، ص 49.