كاتبٌ صحفيّ/ بريطانيا
لم تأتِ التّحوّلاتُ التي تشهدُها إسرائيلُ نتاجَ جولةِ الانتخابات الأخيرة فقط، شكلًا يستدعي مفاجآتٍ تنتجها الصناديق أحيانًا، ولم تكن وليدةَ أحداثِ السنوات الماضية، بل نتاجُ التطوّر الطبيعي الذي يعود زاحفًا بهدوءٍ نحو أدراجه، فقد وقف هرم بورخوف على رأسه طويلًا، وها هو يعود لمنابعه الثقافيّة والفكريّة.
لم يكن قرارُ المحكمة بعدم صلاحيّة تعيين زعيم حركة شاس أرييه درعي وزيرًا في الحكومة جزءًا من أزمةٍ تتعلّقُ بفساد وزير أشغل السياسة الإسرائيليّة والنيابة بجرائم تحقيقاته خلال ربع القرن الأخير منذ أنّ تمَّ اعتقاله في سجن مسعياهو قبل أكثر من عقدين بعد تهمة الفساد الأولى، بل كان القرارُ وكذلك ردود الفعل المصاحبة من قبل أطراف الائتلاف فقط للحفاظ على الحكومة التي تمَّ المساسُ بأحد أقطابها، وكلُّ ذلك كان يعكسُ أزمة النظام السياسي، التي هي انعكاسٌ طبيعيٌّ لأزمةِ مجتمعٍ بات يدخلُ ما يشبه التّصادم بين ثقافتين متباعدتين تعبّرُ عنه تظاهرات السبت الأسبوعية.
يشعرُ جزءٌ من هذا المجتمع وهو الجزء الذي أصبح معارضًا أنّ هناك أصوليّةً دينيّةً باتت تستولي على الدولة وتقومُ بعمليّة تجريفٍ لمؤسّساتها التي عدّت مراكز قوّتها وممكنات حصانتها خلال العقود الماضية في الجيش والتعليم والقضاء والقانون والحاخامية ومرجعية النظام... انقلابٌ كبيرٌ على الدولة بات يشكّلُ هاجسًا للقلقين على مستقبلها الذين يتيقّنون إلى أين يمكن أن يسحبها هذا التحالف المشكّل من مجموعةٍ من الهواة المتطرفين تديرهم مجموعة من الحاخامات الأشدّ تطرّفًا؟
مستقبلٌ مظلمٌ يراه متظاهرو السبت الذين باتوا يواظبون باستماتةٍ تحت وقع التجهيز لمجزرة القضاء التي يتحضر لها الائتلاف، وكان قد أعلن عنها مبكّرًا وزيرُ القضاء المقرب لبنيامين نتنياهو ياريف ليفين، التي ستطيحُ بواحدٍ من أبرز مؤسسات الحصانة التي اتكأت عليها الدولة منذ نشأتها، وتحويل سلطة القضاء إلى مؤسّسةٍ استشاريّةٍ تسيطرُ عليها المؤسّسةُ التنفيذيّةُ في ضربةٍ كبرى لاستقلال السلطات التي قامت منذ الأربعينات وشكّلت ضمانةً لاستمرارها ومراقبتها وضمانَ حلِّ كلِّ خلافاتها بلا عنفٍ أو ازدواجيّاتٍ تفسيريّة، بل شكّلت الضامن الرئيس للفصل بين السلطات وللرقابة على أدائها.
كلّ شيءٍ يبدو مستهدفًا من قبل الحكام الجدد الذين لم يجيئوا فقط بثقافةٍ مختلفةٍ عن الثقافة السائدة، بل بموقفٍ ضديٍّ من السائد؛ معتبرينه خصمًا متآمرًا، وخصوصًا أنّ أغلبهم أو بالتحديد الممسكين بمراكز القوة قد تعرضوا سابقًا وحاليًّا للاستهداف والملاحقة من قبل تلك المؤسّسات، ومن ثَمَّ رغبة التحطيم لا تنبع فقط من ثقافةٍ مغايرةٍ بل يضافُ إليها نزعةٌ انتقاميّة، ومثال أرييه درعي اتّضح هذا الأسبوع لكن بنيامين نتنياهو ما يزالُ ملاحقًا في قضايا الفساد أما بن غفير، فقد عُدَّ بالنسبة لمؤسّسات الدولة خارجًا عن القانون، ووضعت ضدّه أكثر من خمسين لائحةَ اتّهامٍ، وكذلك بتسلئيل سموتريتش ضُبِطَ متلبّسًا بقضيّة حيازة موادٍّ خطرةٍ وقد تعرّض للاعتقال، هؤلاءِ جميعًا تحرّكهم نزعة الانتقام.
ما مستقبلُ الدولة؟
لنتوقّف عند صفات حكّامها الجدد: فاسدون، خارجون عن القانون، هواة، متطرفون، متدينون، عنصريون حتى ضد اليهود العلمانيين، وهو ما أشار له الكاتب الأميركي توماس فريدمان، تلك الصفات ماذا يمكن أن يتوقع منها؟
هذا السؤالُ الذي تجيب عليه التظاهراتُ القلقةُ حدَّ الفزع، فالمسألةُ بالنسبة لهم لم تعد ديمقراطيّةً وانتخابات وهم أقليّةٌ وعليهم احترام نتائج الصندوق، بل إنّ ما يحدثُ هو عمليّةُ إطاحةٍ للديمقراطيّة التي جاءت بخصومهم فهم يرون أنّ الدولة الوحيدة الديمقراطيّة في الشرق الأوسط تلتحقُ بباقي الدول وتنشئ نظامًا تسيطرُ فيه السلطة التنفيذيّة على كلِّ السّلطات كما يحدثُ في العالم الثالث، وأنّ "الفيلا التي أقيمت وسط الغابة" حسب وصف بنيامين نتنياهو لدولته لن تبقى كذلك.
فزع المعارضة أو بالأصح المحافظين على نظام الدولة لا تحرّكهم حساباتٌ انتخابيّةٌ ولا يقومون بالدور الطبيعي للمعارضة فلم يحدث في إسرائيل أن ينشأ احتجاجٌ بهذه الشدة في الشهر الأوّل لأيّة حكومةٍ على الإطلاق، ولا حتّى في العالم كلّه؛ لأنّ الأمر يتعلّق بمكوّنات الدولة التي عاشوا ويريدون الاستمرار بها؛ لأنّ النظام القيمي للحكام الجدد لن يترك للمعارضة متّسعًا للبقاء في الدولة، وخصوصًا أنّ الكثيرين من اليهود يحملون جوازات سفرٍ أخرى، فالشّرخُ لم يعد يتعلّقُ بالنظام القضائيّ، بل وصل لتفاصيل الحياة والنظام الصحي والعلاج حسب الثقافة والقيم وكذلك النّظام التعليميّ الذي يشرفُ على إدارته آفي ماعوز رئيس حزب نوعام الذي اقتطع له نتنياهو حصّةً من وزارة التعليم ليعيدَ تربية الأولاد حسب الأصول التوراتيّة؛ ما دعا موشيه يعلون - وزير دفاع سابق - لأنْ يقول ربّما يتوقّف الأولاد عن الذهاب للمدارس فالصدع وصل للتفاصيل.
من يرى التظاهراتُ القلقةُ التي تحوّلت إلى تقليدٍ أسبوعيٍّ مع خروجِ كلِّ سبتٍ، ومن يراقب النقاش العام في إسرائيل بات يرى مجتمعين منقسمين بثقافتين مغايرتين، صحيحٌ أنّ إسرائيلَ استقبلت مهاجرين من كلّ الثقافات لكن نمط الدولة كان قائمًا على العلمانية والصهر والاندماج أمّا الآن، فإنّ النظام السائد هو نمطٌ إقصائيٌّ منغلقٌ سقطت في يده كلّ إمكانيّات الدولة الهائلة لممارسة تفكيره وتطبيق قيمه، وإذا عملت مؤسّسة القضاء في إسرائيل على امتداد العقود الماضية على الفصل في أية خلافاتٍ وقادرةٍ على الحسم في أيّ إشكالٍ باتت الآن محلَّ استهدافٍ وسيتمُّ تحويلُها وفقًا للمقترحات القانونيّة القادمة إلى ملحقٍ بالسلطة التنفيذيّة أو ذراع استشاري يعملُ عند ثقافةٍ محدّدةٍ وجزءٍ من الصدع القائم.
القلعةُ لا تخترقُ إلا من الداخل، تلك مقولةٌ قديمةٌ وقد تمكّنت إسرائيل من تحصين جبهتها الداخليّة خلال العقود الماضية بمنظومةٍ من القوانين وبتحديد العلاقة بين السلطات ونظم تمكنت من احتواء الجميع بمن فيهم بالعلاقة مع يهود العالم لكن كلّ شيءٍ في هذا التراث يجري الانقلاب عليه؛ لتبدو إسرائيل المنقسمة محطَّ أنظار العالم عما يحدث بها وإلى أن تنجرّ: هل نحو دكتاتوريّة وتغادر مربع الديمقراطية الذي وضعت نفسها به مبكّرًا؟ أم نحو نزاعٍ داخليٍّ أم تستولدُ شيئًا جديدًا من هذا الصراع الدائر على ممكنات الدولة؟
بكلّ الظروف وبغض النظر عما سينتجُ عن هذا النقاش الصاخب لا يمكن إلا أن نرى أن جدران القلعة تشهد قدرًا من التصدّع، وأن الجدار الحديدي الذي أشار له جابوتينسكي أواخر عشرينات القرن الماضي بدأ بالتشقّق وتلك بشرى لكلّ خصوم إسرائيل.