Menu

أيُّ جحيمٍ ينتظرُ المنطقة بوأد الاتّفاق النوويّ الإيرانيّ؟

رضي الموسوي

نشر في العدد (46) من مجلة الهدف الرقمية

تتصاعدُ أصواتُ قرع طبول الحرب في منطقة الخليج العربيّ برضوخ واشنطن والعواصم الأوروبيّة لضغوطات الكيان الصهيونيّ وإعلان الرئيس الأمريكيّ أنّ الاتّفاق النوويّ مع إيران قد "مات"، ووصول العديد من الملفّات العالقة في الإقليم إلى طريقٍ مسدودٍ وتغلغل الكيان في المنطقة بفعلِ اتّفاقات إبراهام التطبيعيّة، وتنفيذ الولايات المتّحدة لقرارها القاضي بالانسحاب من أفغانستان، والتفرّغ إلى الصّراع مع الصين، باعتباره صراعَ البقاء على قمّة الاقتصاد والنفوذ العالمي، حيث تقول واشنطن: إنّ وجودها في أفغانستان كلّفها أكثر من تريليوني دولار منذ غزوها عام 2001 حتى هروبها في 31 أغسطس 2021 الذي يشبه الهروب من فيتنام عام 1975.

لكن المعركة الأكبر ما تزالُ قائمةً وهي المواجهة مع إيران التي أصبحت همًّا بارزًا في المنطقة، وعنوانُها الأبرزُ الملفُّ النوويُّ الذي دخل في غيبوبةٍ؛ بفعل اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وحلفاء الكيان في أكثر من مكانٍ باعتباره صهيونيًّا، الملف الأكثر خطورةً على الحالة الوجوديّة، وقد تمكّن حتى اللحظة من جعله في موتٍ سريريّ.

بعيد تسلم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مقاليد الرئاسة في 2016، أعلن رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو عن امتلاكه وثائق تثبت أنّ "إيران خدعت العالم بإنكار أنّها كانت تسعى لإنتاج أسلحةٍ نوويّة"، لكن الاتّحاد الأوروبي تمسّك بالاتفاق مع إيران، في الوقت الذي سارعت فيه الخارجيّة الأمريكيّة باعتبار الوثائق التي تحدّث عنها نتنياهو هي "وثائق حقيقيّة". ولأنّ هناك انسجامًا كبيرًا بين موقف الكيان وبين الحزب الجمهوري إزاءَ معارضة البرنامج النووي الإيراني، فقد أصدر ترامب في 2018 قرارًا أحادي الجانب يفيدُ بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي ليتماهى مع الموقف الصهيوني الذي لم يتوقف عن التهديد بتدمير المفاعلات النوويّة الإيرانيّة، كما سبق له وأن ارتكب جريمةَ تدمير المفاعل النووي العراقي عام 1981، دون أن يكون هناك ردود فعلٍ بمستوى ما جرى، لا من الدول العربية التي اكتفت بالإدانات اللفظية، ولا من الدول الغربية التي كانت وما تزال في موقع المتحالف مع الكيان الصهيوني وتبرّر جرائمه في فلسطين والبلدان العربية، بما فيها فرنسا التي بنت المفاعل العراقي.

جاء الاتّفاق النووي الإيراني بعد سنواتٍ من المفاوضات الماراثونيّة الصعبة والمبادرات والوساطات العديدة التي توجت جميعها بالتوصّل إلى اتّفاقٍ بين إيران ومجموعة 5+1 في الثاني من أبريل 2015 بمدينة لوزان السويسرية، وأطلق عليه "اتفاق إطار" كان يفترض أن يؤدّي إلى حلٍّ نهائيٍّ لملف البرنامج النووي الإيراني. وقد تضمّن الاتّفاق تخلّي إيران عن آلافٍ من أجهزة الطرد المركزي، ومن ثَمَّ تخلّيها عن أجزاءٍ مهمّةٍ من برنامجها النووي مقابلَ رفع العقوبات المفروضة عليها. وقد دخل حيّز التنفيذ في 15 يناير 2016، لكنّه اصطدمَ بموقف الجمهوريين، فأعلن دونالد ترامب تخليه عن الاتفاق في 2018 وبدأت واشنطن في إعادة فرض العقوبات التي رفعتها، وسنّت عقوباتٍ أخرى أكثرَ قسوةً منها لتصلَ إلى مراحلَ حرجةٍ بلغت حدّ الهاوية، حتى أبريل 2021 عندما بدأت طهران ومجموعة الخمس الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي بالإضافة لألمانيا، مفاوضاتٍ جديدةً لإحياء الاتّفاق النووي، بيدَ أنّها تعثّرت في مطلع سبتمبر 2022، بعد أن اعتبرت الأطراف الأوروبيّة والولايات المتّحدة ردَّ إيران على مُسَوَّدَةِ التفاهم "غير بناء". بعد أسبوعين من توقف المفاوضات، اندلعت الاحتجاجات في إيران على خلفية مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني عندما كانت محتجزةً لدى شرطة الآداب بتهمة عدم التزامها باللباس الإسلامي المعمول به. كما قامت الدول الغربيّة التي تدعمُ الاحتجاجات بفرض المزيد من العقوبات آخرها ما صرّحت به مفوضة الاتحاد الأوروبي يوم 18 يناير/كانون الثاني 2023 بشمول الحرس الثوري بالمزيد من العقوبات.

يكن البرنامج النووي الإيراني وليد الألفية الثالثة، ولا حتى من إرهاصات ورغبات الثورة التي انتصرت في فبراير/شباط 1979، بل إنّ المحطّة الأولى في تاريخ الملف النووي الإيراني تعودُ إلى خمسينات القرن العشرين، في عهد الرئيس الأمريكي آيزينهاور وضمن برنامجه الذي أطلق عليه "الذرة من أجل السلام". تدرّجت إيران في هذا الجانب أيّام حكم الشاه محمد رضا بهلوي حليف الولايات اتحدة وكلب حراستها في الخليج العربي، فتمَّ عام 1967 التوقيعُ على اتفاقيّةٍ بين إيران والوكالة الدوليّة للطاقة الذرية وأمريكا؛ بهدف توريد اليورانيوم اخصب والبلوتونيوم، كما تمَّ في العام نفسه تأسيسُ مركز طهران للبحوث النووية بدعمٍ أمريكي. بعدها بعامٍ وقّعت طهران على معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة، و تمرَّ إلا سنواتٌ قليلةٌ ليعلن شاه إيران مطلع سبعينات القرن الماضي عن توجهه لتشييد 23 مفاعلًا نوويًّا حتى نهاية التسعينات، ووضع ذلك تحت يافطة التحضير لمرحلة ما بعد النفط، وشدّد الشاه، حينها، على أن إيران لا تسعى لبناء أسلحةٍ نوويّة، لكنّه أكّد أيضًا أنّه "في حال بدأت دولٌ صغيرةٌ في المنطقة ببناء ترسانة نوويّة، فستعيد إيران النظر في سياستها". وفي منتصف السبعينات وقّعت إحدى الشركات التابعة لشركة سيمنز الألمانيّة اتّفاقًا مع إيران تقومُ بموجبه الشركة الألمانية ببناء مفاعل بوشهر النووي، وفي 1977 وافقت الحكومة الألمانية للشركة التي كانت تبني مفاعل بوشهر على بناء 4 مفاعلات إضافيّة.

مع انتصار الثورة الإيرانية في فبراير 1979، قرّرت واشنطن إيقاف إمداداتها من اليورانيوم المخصّب لإيران، بينما علقت الشركة الألمانية أعمال بناء مفاعل بوشهر قبل أن يتم إنجازه، لكن روسيا في حقبة بوريس يلتسن دخلت على الخط مطلع التسعينات وأرسلت خبراء الطاقة لإيران وتم تأسيس منظّمةٍ بحثيّةٍ مشتركةٍ مع إيران باسم "برسيبوليس"، وتوّج منتصف العقد التسعيني بتوقيع اتفاقٍ روسيٍّ إيرانيٍّ لاستكمال العمل في مفاعل بوشهر.

هذا التطوّرُ أخاف الغرب، وادّعت الولايات المتحدة حصولها على معلوماتٍ من المعارضة الإيرانيّة تفيد أن إيران تبني مفاعل لإنتاج الماء الثقيل في مدينة آراك (تشبه هذه الادعاءات حجة واشنطن بوجود أسلحةِ دمارٍ شاملٍ قالها معارضٌ عراقيٌّ في رسالة ماجستير)، ولأنّ هذا المفاعل يمكنُهُ إنتاج مادة البلوتونيوم التي يتطلبها إنتاج السلاح النووي، فقد سارع الاتحاد الأوروبي إلى تهديد إيران ودعوتها للتوقيع على البروتوكول الإضافي الخاص بمعاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة، كما طالب طهران بالسماح الفوري بتفتيش المنشآت النووية الإيرانية دون قيدٍ أو شرط. وبالتوازي أصدرت الوكالة الدولية للطاقة قرارًا في سبتمبر 2003 يقضي بإلزام إيران "بالوقف الكامل لكل أنشطتها المتعلقة بتخصيب اليورانيوم وبتوقيع البروتوكول الإضافي، في تماهٍ جليٍّ مع موقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية. لكن طهران رفضت الضغوطات واستمرت في تخصيب اليورانيوم، وأعلنت في أبريل 2006 نجاحها في عمليات التخصيب بنسبة 3.5 بالمئة الصالحة للأغراض السلمية والبعيدة عن الأغراض العسكرية التي يجب أن تصل فيها نسبة التخصيب إلى أكثرَ من 90 بالمئة. قاد هذا إلى مسارعة مجلس الأمن الدولي في إصدار قرار رقم 1737 في ديسمبر 2006 يمنع بموجبه أي دولة من تسليم إيران أو بيعها أي معدات أو تجهيزات أو تكنولوجيا يمكن أن تساعدها في نشاطاتٍ نوويّةٍ وبالستية، بالإضافة إلى تجميد أصول 10 شركات و12 شخصًا لهم علاقة بالبرامج.

لكن المشهد الآخر الذي دفعت إيران الكثير من أجل أن تتبوأه هو إصرارها على عدم الولوج في مستنقع الدين الخارجي المذل الذي يتحكّم في مصائر الناس، فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لإيران في 2021 ما يزيد على 359.7 مليار دولار، وقدر صندوق النقد الدولي نسبة الدين الخارجي الإيراني إلى الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 بـ 0.5٪ فقط، وأعلن الصندوق "أن الدين الخارجي لإيران أقلّ من جميع دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى"، وفق ما ذكرته وسائل الإعلام الدوليّة.

تناول الصندوقُ أيضًا في تقريره المعنون بـ "الآفاق الاقتصاديّة لمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى"، حجم الديون الخارجيّة لـ28 دولة في المنطقة ومنها إيران التي سجّل أن لديها أدنى نسبة من الدين الخارجي قياسًا إلى الناتج المحلّي الإجماليّ في العام 2022، بالمقابل قدر الصندوق متوسّط ​​ديون دول المنطقة من إجمالي ناتجها المحلي بنحو 35.8٪، كما تم الإعلان عن نسبة ديون الدول المصدرة للنفط في المنطقة إلى الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 30.9٪.

لا شكَّ أن تدني الدين الخارجي تسجّل إيجابيّة لإيران، إلّا أنّه لا يمكنُ له أن يغطي على المصاعب الكبيرة التي يواجهها الاقتصاد الإيراني رغم أهميّة عدم الارتهان المالي للخارج، باعتبار ذلك جزءًا من معركة الاستقلالية. فقد خسرت العملة الوطنية الإيرانية ما مقداره 20 بالمئة من قيمتها خلال الأشهر الماضية التي أعقبت الاحتجاجات التي اندلعت في منتصف سبتمبر/ أيلول 2022، وذلك رغمَ ما تسجّلُهُ الأرقامُ من احتياطياتٍ لإيران من المعادن المكتشفة التي تمتلكها والبالغة 57 مليار طن تتضمنُ نحو 10 آلاف معدن، أهمُّها الحديد وتمتلكُ إيران منه 2.7 مليار طن، والفحم 1.2 مليار طن والذهب بنحو 300 طن، و6 ملايين طن من الزنك..الخ، حيث تشكّل هذه ثروة تبلغ قيمتها الإجماليّة الأولية أكثر من 773 مليار دولار، ناهيك عن النفط والغاز باعتبارهما الثروة الطبيعية الاكثر تأثيرًا في الاقتصاد الوطني. ولا يمنع وجود هذه الثروات من تردي الاقتصاد الإيراني والبلاد تخوض مع الدول الغربية والكيان الصهيوني معركة الاتفاق النووي ومعركة النفوذ في المنطقة، حيث واجهت إيران مصاعبَ كبيرةً في العديد من مفاصل الاقتصاد، ومنها ارتفاع إيجارات المساكن بمعدل 5 آلاف بالمئة خلال عقد من الزمن، وفق ما أشارت له صحيفة "اعتماد" الإيرانية، بينما قالت صحيفة "افتاب يزد"، إن أسعار الدواء تضاعفت بمعدل الضعفين بالنسبة للدواء المحلي وستة أضعاف للدواء الأجنبي وذلك بعد إعلان الحكومة عن عزمها على رفع الدعم عن الدولار المخصص لشراء الدواء، وضاعف من الأزمات المتناسلة شح المياه الذي تعاني منه نحو 300 مدينة إيرانيّة ذات كثافةٍ سكانيّةٍ عالية. أما صحيفة "ابتكار" فقد ذهبت بعيدًا حين تحدثت عن سيطرة المافيا على مفاصل في الاقتصاد الإيراني تضاهي في بعض الأحيان قوّةَ الحكومة في التحكّم بالأسعار؛ الأمرُ الذي أدّى إلى زيادةِ عددِ الأسر الفقيرة من 11 بالمئة عام 2018 إلى 25 بالمئة في 2021، وانخفاض الخصوبة من 1.24 بالمئة في 2011-2016 إلى 0.68 بالمئة عام 2020، وهذا تراجعٌ له دلالاتُهُ المهمّة.

بعد كلّ هذه السنوات تقرعُ طبول الحرب التي يمكنُ التكهّن بشراراتها الأولى، لكن من الصعب معرفة إلى أيّ جحيمٍ ستُصلى به المنطقة بعد انطلاق الرصاصة الأولى من بيت النار؟