تكتسبُ أمريكا اللاتينيّة أهميّتها الاستراتيجيّة في العمليّة الثوريّة من أجل التحرّر والاستقلال والسيادة؛ بسبب قربها من الولايات المتّحدة؛ القوّة المهيمنة على النظام الدولي، ومحاولتها الدؤوبة لإحكام السيطرة على ما تدعي أنّه حديقتها الخلفيّة، بالأساليب والوسائل كافةً بما يضمنُ لها التحكّم باحتياطاتها الباطنيّة، المعدنيّة والنفطيّة والمائيّة الهائلة، الضروريّة لاستمرار تطوّرها الصناعيّ والعمرانيّ "وفرض هيمنتها وقيادتها للعالم" كما قال كيسنجر عندما برّر سبب الإطاحة بالرئيس الشيلي المنتخب، الاشتراكي سلفادور الليندي، عام 1973، وتنصيب نظامٍ عسكريٍّ فاشيٍّ دمويّ، بقيادة وزير الدفاع آنذاك أغوستو بينوشيت، استمرَّ أكثرَ من عشرين عامًا.
وجاء عزلُ الرئيس الشرعي المنتخب بيدرو كاستييو بانقلابٍ برلمانيٍّ يمينيٍّ رجعيٍّ في البيرو قبل بضعة أسابيع، واعتراف إدارة بايدن الفوريّ بحكومة الانقلابين برئاسة دينا بوارتي، التي شغلت منصب نائبة الرئيس كاستييو، دليلًا آخرَ على تورّط هذه الإدارة في الانقلاب، وعلى نفاقها في "الدفاع" الكاذب عن "الحريّة والديموقراطيّة" وعلى عدائها المطلق لاستقلال وسيادة الشعوب.
ما يجري في أمريكا اللاتينيّة ليس صدفةً ولم يأتِ من فراغ. لقد خضعت للاستعمار الأوروبيّ الكولونياليّ الوحشيّ المباشر، وخاصّةً الإسباني والبرتغالي، لأكثر من 300 عام، تمَّ خلالها إبادة ما يزيد عن 110 مليون من سكان شعوبها الأصليّة، كما يؤكّدُ الباحثُ الأمريكيّ من أصلٍ فلسطينيٍّ منيرٍ عكس في بحثه "حقّ التضحية بالآخر"، أي تمَّ القضاءُ شبه الكامل على شعوبها الأصليّة، وثقافتها ومعتقداتها وحضارتها وجمال عمرانها وتشكّلت على أنقاضها شعوبٌ جديدةٌ، امتزج فيها من تبقّى من شعوبها الأصليّة مع الملايين من "المهاجرين" الجدد الذين أحضروا معهم "العبيد" الأفارقة ونظام العبوديّة والاستغلال، وأسهمت عواملُ عدّةٌ في التطوّر السريع، للتكوين المجتمعيّ الطبقيّ الجديد، ونمت فيه مبكّرًا وسريعًا النزعةُ الاستقلاليّةُ التي قادها أبناءُ المستعمرين أنفسهم، التي ترافقت أيضًا مع نموّ وتصاعد حدّة التناقضات والصراعات ذات الطابع المزدوج. فعلًا، استطاع الإقطاعيّون الجدد بتحالفهم مع الشرائح البيروقراطيّة والبرجوازيّة الكومبرادوريّة التي تكوّنت ونمت في أحشاء الاستعمار، حسم حروب "الاستقلال" والصراع الداخلي لصالحهم، وتمَّ عزلُ المحرّر سيمون بوليفار وخيانته على يد كبار مساعديه الذين اختاروا طريقَ نهج التجزئة والاستقلال ال قطر يّ الشكليّ الخالي من أيِّ نوعٍ من أنواع السيادة، أمَّنتْ بموجبه القوى الاستعماريّةُ إعادةَ صياغة وترتيب علاقتها مع الحكومات الجديدة، بما يضمنُ مصالحها الاستراتيجيّة بعد إنهاء استعمارها المباشر لمستعمراتها التي حلّت محلّها دولٌ جديدةٌ "مستقلّةٌ" شكلًا، وتابعةٌ فعليًّا للمراكز الاستعماريّة الرأسماليّة.
"حروبُ الاستقلال" هذه في وسط وجنوب القارة اللاتينيّة، من شمالها إلى أقصى جنوبها، جاءت بعد حصول المستعمرات البريطانيّة في الشمال على استقلالها عام 1783، تحت اسم الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وقد جاء تشكيلُ هذه الدولة الجديدة، التي ولدت من رحم النظام الرأسمالي الإقطاعي الأوروبي؛ تلبيةً لاحتياجات التحالف الطبقي الإقطاعي البرجوازي للسلطة؛ لتنظيم المجتمع الجديد، وإضفاء الشرعيّة على كلّ ما استحوذت عليه هذه الطبقةُ من ثرواتٍ باطنيّةٍ هائلةٍ تمَّ احتكارُها من كارتيلاتٍ صناعيّةٍ وأراضٍ زراعيّةٍ شاسعة، امتلكتها شركاتٌ إقطاعيّة، مكّنها من تأسيس أقوى وأحدث نظامٍ بنكيٍّ ماليٍ في العالم؛ ما ساعدها على النمو السريع واستكمال تشكيل شعبٍ جديدٍ وقوميّةٍ جديدة، على أنقاض الشعوب الأصلية. أم وَرّثها الاستعمارُ الإنجليزيُّ الأوروبيُّ كلَّ جيناته ومواصفاته وعاداته واستراتيجيّاته وميوله التوسعيّة العدوانيّة، الذي لم تقطع معه حبلها السري، بل ازداد مع الزمن متانةً وقوّة.
سيمون بوليفار، محرّر فنزويلا وسبعة دول أخرى في أمريكا اللاتينية وصاحب النظرة الاستراتيجية الثاقبة، أدرك هذه الحقيقة مبكّرًا "وتنبّأ" بالطبيعة العدوانيّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة أو "أمّة الشمال" كما كان يسمّيها. ففي رسالةٍ وجّهها من واياكيل (مدينة في الإكوادور) للعقيد باتريسيو كامبيل في 5 آب عام 1829، كتب له قائلًا: "هذه الأمّة، التي اسمُها الولاياتُ المتّحدة، بسبب مغالاتها في الحيطة والحذر، مصيرها أن تسبّب النكبات لشعوب أمريكا اللاتينيّة، وإغراقها في الفقر المدقع باسم الدفاع عن الحرّيّة". هذه القراءة هي أحدُ القراءات النادرة، الصحيحة والعلمية، لأساليب وسلوك "أمة الشمال"، التي لم تجلد بسوط "الدفاع عن الحرية" شعوب أمريكا اللاتينية فقط، بل طالت وما تزال تطال البشرية بأكملها. في المقابل، ورغم الصعوبات والظروف الموضوعية القاسية ومرور النضال في مراحل من المد والجزر بسبب القمع والبطش، إلا أنّه لم يتوقّف يومًا، وتطوّر بشكلٍ واسعٍ منذ بداية القرن العشرين بقيادة أحزابٍ تقدّميّةٍ ويساريّةٍ جديدة، وخاصّة الأحزاب الشيوعيّة، للتحرّر من الأنظمة التابعة وريثة الاستعمار، ومن الهيمنة الإمبرياليّة الأمريكيّة، حيث خاضت هذه القوى كل أشكال النضال، بما فيه النضال المسلّح ضدّ أنظمة الحكم الرجعيّة الفاشيّة التابعة للولايات المتّحدة، قدّمت خلاله التضحيات الكبيرة، دون أن تتمكّن من تحقيق أهدافها. لقد شكّلتْ تلك التجاربُ والتضحياتُ خميرةَ الإرهاصات والهبات الثوريّة الحديثة، حيث بعضها تمكّن من إسقاط أنظمة، كما حدث في كوبا عام 1959 ولاحقًا في نيكاراغوا عام 1979.
إنّ ما تشهدُهُ دولُ وسط وجنوب القارة من معاركِ كرٍّ وفرٍّ مع الرجعيّة المحليّة وأسيادها، تعكسُ حيويّةَ الحركة الثوريّة الشعبيّة وقواها السياسيّة التي تنتقلُ بعد كلّ معركةٍ أو إخفاقٍ إلى مزيدٍ من التجذير الثوريّ. فبرغم نجاح الإمبرياليّة لبعض الوقت في نيكاراعوا، عندما هزم حلفاءها في جبهة اليمين بقيادة فيوليتا تشامور، السندينين بقيادة دانيال أورتيغا عام 1990، تمكّنت الجبهةُ الساندينيّة من العودة، بعد 16 عامًا، إلى السلطة بفوز دانيل أورتيغا في الانتخابات الديمقراطية التي جرت عام 2006 بأعلى نسبة (64%)، هذا الانتصار لم يحدث صدفةً، فرغم أن انتصار الثورتين الكوبيّة والنكاراغوية تمَّ في حقبة ما سمي التعايش السلمي، بين النظامين الاشتراكي بقيادة الاتّحاد السوفييتي والرأسمالي بقيادة الولايات المتّحدة، شكّل خلالها الاتّحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكيّة حليفًا وسندًا اقتصاديًّا لقوى التحرّر ورادعًا للعدوانيّة الأمريكيّة، إلا أن الانتصار الجديد جاء في حقبة القطب الأمريكي الأوحد، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه واختفاء المنظومة الاشتراكية.
أمريكا اللاتينية كانت بمثابة "الماء الذي يُكذب الغطاس"، ففي أقل من عشرة أعوامٍ على سقوط الاتّحاد السوفييتي، أي في كانون أول عام 1999، فاز في الانتخابات القائد البوليفاري الماركسي، هوغو تشافيز، على مرشح اليمين، الصهيوني من أصلٍ ألمانيٍّ سالس رومر. فوز تشافيز، دشن عصر الانتصارات في حقبةٍ أحاديّة القطبيّة وأربك حسابات وتقديرات إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، في السنة الأخيرة من ولايته، الذي بذل أقصى جهوده لاحتواء الرئيس الفنزويلي اليساري، ولكنّه فشل "رغم كلّ الإغراءات السخيّة" التي عرضها عليه، مقابل قبوله "تعين وزراء تمَّ اختيارهم من قبل البنك الدولي وصندوق النقد" كما كان يحدثُ مع الحكومات السابقة.
الرئيس تشافيز، تعرّض بسبب رفضه الاستجابة لإرادة وخطط البيت الأبيض لانقلابٍ في 11 نيسان عام 2002، أي بعد عامين من وصوله إلى الرئاسة، أفشلته القوّاتُ المسلّحةُ والحركة الشعبيّة بأقل من 48 ساعة. إنّ العامل الأساسي في إفشال الانقلاب اليميني، تمثّل في التحالف الشعبيّ العسكريّ وانحياز القيادات العسكريّة الأدنى للشعب المنتفض ضدّ القيادات العسكريّة والسياسيّة العليا المتآمرة، والحب المنقطع النظير للقائد تشافيز الذي جدّد الأمل بمستقبلٍ أفضل، وفجّر الإمكانيّات من أجل تحقيقه. بعد فشل الانقلاب وعودته إلى الرئاسة، وصف الرئيس الراحل نفسه "بتشافيز الجديد" الجذريّ الذي لا يهادن، وعليه أن يستخلص الدروس من "لطمات سوط الثورة المضادة"، التي من أهمّها هو أنّ " أيّ مفاوضاتٍ بين قيادة الثورة واليمين، المستفيد منها هو اليمين، وأيّ اتّفاقٍ بين الثورة وأعدائها سيكونُ لصالح أعدائها" وأنّ الثورة السلميّة، أيّة ثورةٍ طبعًا، يجبُ – وبالضرورة - أن "تُحمى بالسلاح الثوريّ وإلا ستنتهي وتضيع". هذا الاستخلاصُ تمسّك به القائد الراحل تشافيز حتّى آخر يومٍ في حياته، وكان لوفائه والتزامه به الفضل في مواجهة اليمين والإمبرياليّة وتحقيق النهوض الاقتصادي والتقدّم الاجتماعيّ وتطوّر الوعي الثوريّ في حقبةِ حكمِهِ التي تسمّى بحقٍّ "الحقبة الذهبيّة".
إنّ حركة التاريخ مطلقةٌ ولا تتوقّف، وأيضًا النضال الجماهيري الثوريّ من أجل التخلّص من اضطهاد الرأسمال والهيمنة الإمبرياليّة والاستعمار لا يتوقّف أيضًا ويتكيّف مع الظروف الجديدة. ففي حقبةٍ أحاديّةِ القطبيّة، ليس فقط ممكنًا، بل وضروري، وأيضًا أثبت الواقعُ والتجربة وجود إمكانيّةٍ فعليّةٍ للوصول إلى الحكم وتغيير السلطة القائمة، وما على القوى الثوريّة إلا أن تأخذ القرار الثوري الصحيح في الوقت المناسب، تطبيقًا للمبدأ ال لينين ي الذي لخّصه لينين عندما أخذ قرار البدء بثورة أكتوبر "بالأمس كان مبكّرًا، وغدًا سيكون متأخّرًا لنبدأ اليوم".
وإذا عدنا مجدّدًا إلى ما يحدث في البيرو نجد أن الرئيس بيذروا كاستييو "دفع ثمن" موقفه المتردد والوسطي من مسألة ضرورة استلام السلطة، وليس فقط الوصول إلى الحكم. كان عليه أن يأخذ فورًا وفي أقصى الدعم الشعبي قرارَ تغييرِ الدستور وتأسيس بيرو الجديدة، أي كان يجب عليه أن يستجيب للتيار الثوري الذي طالب بذلك، وكان يجب أن يستغل هزيمة اليمين الرجعي الفاشي، وألا يسمحَ له بإعادة ترتيب أوضاعه وقواه. اليمين من طرفه استغلّ عامل الوقت، ووضع استراتيجيّة عدم السماح للرئيس أن يمارس مهامّه وسلطته، وحقّقوا أوّل نجاحٍ عندما اعترضوا على وزير الداخليّة واتّهامه أنّه من أتباع اللومينو سينديرو (الطريق المضيء) الذين خاضوا الكفاح المسلّح في الثمانينات من القرن الماضي بقيادة الحزب الشيوعي وسيطروا على مساحاتٍ شاسعةٍ من البلاد، ومن أجل القضاء على الثورة استعان اليمين بالدعم الأمريكيّ الصهيونيّ في مجال الاستخبارات والتسليح والتدريب واتّبعوا سياسة الأرض المحروقة ضدها، حيث ما يزال المئات من الذين شاركوا في القتال ضد السلطة معتقلين أو مطاردين. إنّ استجابة الرئيس كاستييوا لمطالب اليمين وقبوله تعيين وزيرٍ مقبولٍ من "الطرفين"، أي عمليًّا من اليمين، دقّ أوّل مسمارٍ في نعش حكمه، وأخذ اليمين يعترض على آخرين بنفس الحجة، حتى وصلوا لخلع الرئيس نفسه. كان من المفروض أن يصغى الرئيس للأصوات التي نادت بخوض معركة تغيير الدستور مبكّرًا، حيث ميزان القوى كان لصالح الاقتراح، عن طريق انتخاب جمعيّةٍ دستوريّة، تجري بعدها انتخاباتٌ جديدةٌ على أساس الدستور الجديد، فخلال الفترة الممتدة من 15 حزيران 2021 التي أجريت فيها الانتخابات، وفاز بها حتى تاريخ الإطاحة به، هدر الرئيس كاستيوا الفترة الذهبيّة لترسيخ حكمه، في وقتٍ اخترق اليمين بالتعاون مع الإدارة الأمريكيّة حزب "بيرو الجديدة" وتمَّ تضيق الخناق على الرئيس، ما اضطرّه لاتّخاذ قراره بحلّ البرلمان والدعوة لتغيير الدستور، ولكن الوقت كان متأخّرًا جدًّا وما "زاد الطين بلة" الخيانة من قسم من حزبه بمن فيهم نائبته.