Menu

الحريّةُ للماجداتِ القابعاتِ خلفَ الأسوار

إلهام الحكيم

نشر هذا المقال في العدد 47 من مجلة الهدف الإلكترونية

تتفنّنُ الحكومةُ الصهيونيّةُ المتطرّفةُ منذ تشكيلِها باتّباعِ وسائلَ قمعيّةٍ لم يسبقها لها أحد، في محاولةٍ لتكريس العنصريّة المتوحّشة وإرهاب الفلسطينيّين؛ ظنًّا منها أنّ تلك الأساليب ستوقف المقاومة! لكن بن غفير وسموتريتش ورئيس حكومتهما واهمون؛ فإجراءاتُهم تزيد الفلسطينيين تمسّكًا بحقوقّهم التي أقرّتها الشرعيّةُ الدوليّة، وتُضاعف إصرارهم على مقاومة الاحتلال. ومن الأساليب الإرهابيّة المتّبعة اقتحامُ السجون والاعتداء على الأسرى وفرض العقوبات عليهم، وشطب الإنجازات التي انتزعوها بعد نضالٍ دام عشرات السنين، خاضوا خلالها الإضرابَ عن الطعام والتمرّد تأكيدًا على حقوقهم كأسرى حرب، تجاهر حكومة المستوطنين بعنصريّتها، وتفرض على الكنيست إصدار تشريعاتٍ منافيةٍ لأبسط حقوق الإنسان ضدّ الأسرى، وتصرُّ على "التعامل معهم على اعتبارهم إرهابيين" لا حقوق لهم بإصدار تلك التشريعات ومنها: "سحب الجنسيّة من الأسرى المقدسيين وأسرى الأراضي المحتلّة عام 1948، وإبعادهم مع أهلهم إلى الضفة والقطاع، إضافةً لهدم بيوت منفّذي عمليّات المقاومة، والتحضير لقانون إعدامهم"!

وما ينطبقُ على الأسرى يشملُ الأسيرات - اللاتي شاركن بكلّ الفعاليات للحصول على حقوقهنّ - بإخضاعهن للعقوبات الرادعة، وآخرها تمثّلُ باقتحام أقسام الأسيرات في سجن الدامون وعددهن 29 أسيرة، وتشديد الخناق عليهن بضربهن وقمعهن ورشهن بغاز الفلفل والغاز المسيل للدموع، وتحويل أقسامهن العادية إلى عزلٍ جماعيٍّ من خلال سحب مستلزماتهن اليوميّة والأدوات الكهربائيّة ومنعهن من الاتصال بأهاليهن، والخروج إلى الساحة "الفورة"، إضافةً لعزل ممثلة السجينات الأسيرة ياسمين شعبان.

إنّ كلّ تلك الممارسات من القمع والترهيب تمّت لشعور إدارة السجون بفرح الأسيرات إثرَ عمليّة القدس ، التي نفّذها الشهيد خيري علقم، ما دفع الحركة الأسيرة داخل المعتقلات الصهيونيّة لإعلان الاستنفار العام تضامنًا مع الأسيرات باعتبارهن "خطًّا أحمر"، وحذروا إدارة السجون من التمادي بإجراءاتها القمعيّة، وأنّه سيتمُّ تصعيد الخطوات الاحتجاجيّة في حال عدم التراجع عن العقوبات المفروضة على الأسيرات.

هذا التضامنُ بين الأسرى والأسيرات ليس الأوّل، فكلُّ الخطوات التصعيديّة سابقًا كانت تفاعليّةً وتبادليّةً، ما كان يجبرُ إدارة السجون على التراجع عن عقوباتها، والتعامل مع الجميع أسرى حربٍ في دولةٍ محتلّة، إضافةً للمطالبة الدائمة بالحماية الدولية للأسرى، وإرسال لجان تقصي الحقائق من الجهات الدولية المختلفة ذات الصلة بحقوق الإنسان، وصولًا لاعتبار تلك الممارسات جرائم حربٍ بحقّ الأسرى، ومن ثَمَّ ضرورة تطبيق اتّفاقية جنيف الرابعة ذات الصلة بالأسرى والمعتقلين.

ابتزاز الأسيرات بعائلاتهن:

منذ اللحظة الأولى لاعتقال المناضلة الفلسطينية يكون جنود الاحتلال قد جمعوا المعلومات الكافية لمحاربتها بها حتى يكتشفوا نقطة ضعفها، ومن ثُمَّ ابتزازها لانتزاع الاعترافات المطلوبة، تبدأ الممارسات العنصرية والإجراءات الانتقاميّة بحقّ الأسيرة وعائلتها، بدءًا من الوالدين والأخوة، ويزيد الضغط عليها في حال كانت أمًّا ولها زوجٌ وأبناء، فيتمُّ تهديدُها باعتقالهم – بهدف سحب الاعتراف منها – ومع اصطدام المحقّقين بثبات موقفها وصعوبة الوصول لمبتغاهم يلجؤون إلى التهديد بالاعتداء الجسدي والنفسي، ثُمَّ تتصاعد وتيرة الابتزاز بأن القادم سيكون أشرس عند تعذيب الوالد أو الأخ أمامها أو تعذيبها بوجودهم، وحضور الزوج الذي لن يحتمل رؤيتها "عارية" في غرفة التحقيق وسوف يطلقها فورًا ويحرمها من أبنائها – حسب توصيف المحقّق طبعًا – وقد تعرّضت العديد من المناضلات لشتى أنواع التحرّش اللفظي والجسدي، إضافةً للحجز مع المعتقلات الإسرائيليّات الجنائيات اللاتي يتابعن التحرّش بهن والاعتداء عليهن بتوجيهٍ من المحققين، أو إجبارهن على العمل بالتنظيف والطبخ، والحبس الانفرادي وغير ذلك الكثير للإذلال والرضوخ، وتتفاوت ردود فعل المعتقلات حسب مدى صلابتهن وقوتهن وقناعتهن بالفكر النضالي الذي يحملنه.

مع اكتساب الخبرة النضاليّة على مرّ السنوات وتزايد عدد الأسيرات من الكوادر اللاتي يعرفن كيف يتعاملن مع المحقّقين، كما يعرفن حقوقهنّ – كأسيرات-، تلك الحقوق التي انتزعنها إثر الإضرابات العديدة عن الطعام، والعصيان بالتشارك والتنسيق مع الأسرى - كما أسلفنا بداية – تطوّرت الأمور وسجّل الأسرى مواقفَ بطوليّةً حوّلت السجون لمدارسَ نضاليّةٍ انبثق منها "الحركة الأسيرة" التي فرضت تنظيم نمط العلاقة بين الأسرى وإدارة السجون، وأسهمت بتحديد الخطوط العريضة للتعامل معهم كأسرى حربٍ لهم الكثير من الحقوق التي تضمنها القوانين وتحميها الشرائع الدولية ، ومنها حقّهم بالمطالعة ومتابعة الدراسة داخل المعتقل، واقتناء مذياعٍ وتلفازٍ، ورؤية الأهل بشكلٍ دوريّ، وحقّ العلاج، وغيرها من الحقوق التي غالبًا ما يستخدمها السجّان الصهيونيّ وسيلةَ ضغطٍ على الأسرى، خاصّةً الأسيرات فيسحب الكتب أو مستلزمات المرأة الصحيّة الشهريّة، كما يمنعُ عنها زيارة الأهل والأبناء، ويحرمها من عناق طفلها خلال الزيارة، إضافةً لامتناعه عن تقديم الرعاية الصحيّة لها كما حصل مع الأسيرة "إسراء جعابيص" التي خضعت للتحقيق القاسي رغم الحروق الجسيمة التي تغطي جسدها؛ ما فاقم من مشكلتها الصحيّة وضاعف آلامها ولم تحصل على العناية المطلوبة رغم كلّ المناشدات بتأمين العلاج، وقد كشفت إدارة السجون عن قمة وحشيتها بسحب بطاقة التأمين الصحي الخاص بها وحرمانها من إجراء عملياتٍ جراحيّةٍ وتجميليّةٍ عدّةٍ، تحديدًا لأصابعها الثمانية التي بترت جرّاء الحريق الذي ألمَّ بها، إضافةً لمنع زيارة أهلها لها مرّاتٍ عدّة، ومن ضمنهم ولدها الوحيد الذي سيبقى ينتظر لحظة الإفراج عنها بعد تنفيذ الحكم البالغ 11 سنة.. كذلك الأسيرة "نسرين أبو كميل" التي اعتُقلت تاركةً خلفها 7 أبناء؛ أصغرُهم رضيعٌ بعمر الثمانية أشهر، تولى الوالد والجدة شؤون تربيتهم ثم تابعتها الطفلة الأكبر بعد وفاة الجدّة.. تستذكر العائلة صعوبةَ سنواتِ غيابِ الأم، خاصّةً في المناسبات الاجتماعيّة وفترة مرضها داخل المعتقل.. علّقت في المنزل تقويمًا يحمل صورتها واسمها، وكان الأبناء يشطبون كلَّ يومٍ يمضي بانتظار عودتها تاركين لها شطب اليوم الأخير بيدها بعد نيل حريّتها.  

أمومةٌ مفعمةٌ بالحياة والحرية تكشف قبح الاحتلال:

غالبًا ما تتماسك المناضلات ويرفضن التعاون مع المحقّقين رغم كلّ الضغوط والاستفزاز والابتزاز.. ومهما تعرّضت الأسيرة لمواقفَ مؤلمةٍ وصعبةٍ للضغط عليها؛ فإنّها تقاومُ وترفض المساومة لكن أقسى المواقف على الإطلاق محاربتها بفلذات الكبد، كما حصل مع إسراء ونسرين والعشرات غيرهما.. والأكثر قسوةً تكون بفقدان الابنة ومنع الأسيرة من وداعها، وهذا ما بثّته الأسيرة المحررة خالدة جرار في رسالةٍ مؤثّرةٍ كتبتها بعد وفاة ابنتها الشابة ورفض الاحتلال الإفراج المبكّر عنها قبل شهرين من الموعد، وعدم السماح للجثمان بالمرور أمام السجن لإلقاء الوالدة النظرة الأخيرة على الابنة... وبهذا يكشف الاحتلال قبح وجهه وغياب إنسانيّته... أقتبس من الرسالة: "لقد جاءت سهى، جاءت إلى الدنيا ووالدها معتقلّ، وها هي تغادرها ووالدتها معتقلة... وفي هذا تلخيصٌ إنسانيٌّ مكثّفٌ لحياة الفلسطيني الذي يحبُّ الحياة والأمل والحريّة، ويكره العبوديّة والاستعمار، فهذا الاحتلالُ يسلبُ منّا كلَّ شيء، حتّى الأوكسجين الذي نتنفّس، ويحرمنا كما حرمني من وداع عصفورتي الصغيرة سهى، فودّعتها بوردة نَمَتْ في تراب الوطن، ارقدي بسلامٍ يا عصفورة قلبي... وختمت رسالتها بالقول: ازرعوا شجرة زيتون بجانب قبرها كي تظلّلها دائمًا.. أحبّكم".

وراءَ كلِّ أسيرةٍ ألفُ حكايةٍ وحكاية تملأ المجلّدات.. ولا يمكن لنا إلقاء الضوء على واقعهن كلهن،  فقد تعرّضت أكثر من "16000 فلسطينيّة" للاعتقال في سجون الاحتلال بين عامي 1967 – 2021، لكن بعض ما تمَّ التطرّق إليه عبر تلك السطور، يمكن أن يعطي صورةً واضحةً عن الممارسات الصهيونيّة ضدَّ الأسيرات الفلسطينيّات اللاتي يتعامل الاحتلال معهن وكأنّهن خارج المنظومة المجتمعيّة الإنسانيّة، مجرّدات من الحقوق كونهن قابعاتٍ في غياهب السجون، لكن الحقيقة تقول: إنّ أسيراتنا صاحبات قضية، ولهن الحقُّ بالحريّة والعيش الكريم مع عائلاتهن كأقرانهن من نساء العالم اللاتي يتهيأن للاحتفال باليوم العالمي للمرأة، وعيد الأم وأعياد الربيع "النيروز" خلال هذا الشهر، من حقّهن النضال ضدّ الاحتلال. لقد ناضلت العاملات الأمريكيات قبل ما يزيد على قرنٍ من الزمن لتحديد ساعات العمل، وحصَلْن على مبتغاهن مع نساء العالم وتحوّل يوم انتصارهن إلى يومٍ عالميّ "8/3"! فكيف لا تناضل المرأة الفلسطينيّة لاسترداد وطنها المحتلّ وحريّتها المسلوبة؟!