Menu

هل الديمقراطية ممكنة؟

الديمقراطيّة

هالة مصطفى

هل الديمقراطية ممكنة؟ تحت هذا العنوان جاءت افتتاحية «النيويورك تايمز» الأمريكية منذ أيام, فى إشارة إلى المجتمعات العربية الاسلامية بعد مرور ما يقرب من أربع سنوات على اندلاع ثورات الربيع العربى,
والتى لم تؤد الى عمليات انتقال سلسة نحو الديمقراطية كما كان متوقعا, بل على العكس فقد تعرضت لانتكاسات كبيرة وعثرات أدت الى طرح هذا السؤال مجددا. وبنفس المنطق وتزامنا مع هذه الافتتاحية كررت «الواشنطن بوست» السؤال ولكن تحت عنوان «الاطاحة بالمستبدين العرب أصبحت غير ممكنة» وأهمية هذا السؤال كما ذكرت الافتتاحيتان أنه مطروح بقوة على أغلب دوائر صناعة القرار والمراكز البحثية المهتمة بشئون الشرق الأوسط. وفى الحالتين, ورغم اختلاف زاوية التحليل التى اعتمدتهما الصحيفتان, فإن إجابتهما عن السؤال جاءت مختزلة أو على الأقل لا تنظر إلى مجمل الصورة، فبينما ذهبت الأولى الى القول بأن السبب الرئيسى لإخفاق الديمقراطية العربية يكمن فى الاقصاء السياسى لقوى سياسية رئيسية وهى تلك المعبرة عن «الاسلام السياسى المعتدل» - كما تصفها - وتُورد حالة الاخوان المسلمين فى مصر بالذات كنموذج , تعزى الأخرى السبب إلى ما تسميه «السلطوية المرنة» وتعرفها بقدرة النظم السلطوية على تطوير أساليبها فى احتواء الأزمات عندما تتصاعد حالات الرفض والانتفاضات الجماهيرية بالاستجابة جزئيا الى مطالب المعارضة حتى تهدأ الأمور ثم تعود الى ممارساتها القمعية وهو ما تصفه الصحيفة بـ «الاستبدادية المعدلة» وهكذا تصبح الديمقراطية غير ممكنة!

وأوجه القصور فى هذين التحليلين اللذين يعكسان تقريبا النهج السائد فى الأوساط الغربية عموما وليس فقط الأمريكية, هو تجاهلهما البعد الثقافى والمجتمعى ودرجة التقدم السياسى والاقتصادى الذى تقف عنده المجتمعات العربية والاسلامية، وأيضا افتقادهما للمقارنة المتعمقة لمسار التطور الديمقراطى فى الغرب ومثيله فى الشرق. فالديمقراطية الغربية لم تهبط على مجتمعات أوروبا وأمريكا بمجرد وقوع انتفاضات جماهيرية أو حتى ثورات، وإنما كانت نتاجا لنضال طويل من أجل التنوير وتكريس مبادئ وقيم الحرية على كافة المستويات من الرأى والتعبير إلى الاعتقاد والابداع، والتى أعلت فى النهاية من قيمة الفرد واختياره الحر. ولم يكن هذا النضال سهلا ولا سريعا وإنما امتد لعقود حتى سادت هذه المنظومة من القيم والمبادئ وأصبحت عنوانا لحقوق الانسان التى تشكل خطا أحمر لا يمكن تجاوزه فى الديمقراطيات الغربية. كذلك فقد تطورت هذه المجتمعات من مجتمعات تقليدية الى صناعية ثم ما بعد الصناعية مع الثورة التكنولوجية الحديثة. وعلى خلفية هذا التطور الهائل جاء تطور النظم السياسية نحو الديمقراطية أى ترشيد السلطة وضمان تداولها وتقنين و إدارة الصراعات فى المجتمع بصورة سلمية من خلال الانتخابات وسيادة القانون ولكن فى إطار من القواعد الصارمة التى تضمن الحريات.

باختصار فإن الشروط الضروريه لقيام الديمقراطية فى الغرب تلخصت فى عناصر أساسية هى, الليبرالية (منظومة قيم الحريات), والعلمانية (تنظيم العلاقة بين الدين والدولة ومنع التوظيف السياسى للأول), والتحديث (الذى يشمل المجتمع ككل مادياً وثقافياً). ومن هنا فإن الديمقراطية الغربية لا تُختزل فى أحد جوانبها الاجرائية وهو الانتخابات, فالأخيرة ليست سوى مظهر واحد - رغم أهميته - من مظاهرها ولا تصح الا بعد استيفاء جميع الشروط السابقة, أما اذا انتُزعت من سياقها وبقيت معيارا وحيدا للحكم على عمليات التحول الديمقراطى، فالمؤكد أنها لن تقود الى شىء كبير ولن تصمد أمام غياب المعطيات الأخرى بل ستكون بمثابة إطار يحيط بلوحة فارغة.

فتعثر الانتقال إلى الديمقراطية وانتكاسة «الثورات العربية» جاءت أساسا من هذه الزاوية بمعنى أن البيئة الحاضنة للديمقراطية ليست متوافرة بعد, فكيف سيتم تحقيقها دون شروطها السابقة؟ فايران على سبيل المثال ومنذ قيام الثورة الاسلامية تُجرى انتخابات دورية ولكنها لم تُصنف أبدا حتى من قبل الغرب على أن نظامها ديمقراطى نظراً لغياب الحريات الفردية وبحكم أيديولوجيتها الجامدة المعروفة. وكذلك الحال فى كثير من النماذج العربية وفى مقدمتها العراق أول هذه النماذج بعد إسقاط حاكمها المستبد إثر الغزو الأمريكى له. أما ما حدث فى دول «الربيع العربى» والتى تُؤخذ فيها تونس كنموذج على أن الديمقراطية قد تكون سريعة التحقيق فى العالم العربى، فمردود عليه بأن ما شهده هذا البلد يعد انتصارا للعلمانية المتجذرة فى الدولة والمجتمع التونسيين منذ عهد بورقيبة، قبل أن يكون انتصارا للديمقراطية أو بصورة أكثر دقة أن الأولى هى التى وفرت البنية الأساسية للثانية, وهو وضع لا يتوافر فى باقى دول المنطقة.

ولكن فى النماذج الأخرى لهذه الدول فقد كان الوضع شديد السوء بعد غياب رؤسائها السلطويين من ليبيا إلى اليمن، فانهيار الأنظمة القديمة أظهر كل العوامل التقليدية الكامنة فيها والكفيلة بتقويض الديمقراطية، أو حتى عدم قيامها بعد التخلص من هذه الأنظمة، فأغلبها يعانى من الصراعات الأهلية والقبلية والعشائرية وضعف أو غياب المؤسسات الحديثة وأسس المواطنة ، ناهيك عن الحروب الطائفية والمذهبية التى انتشرت بصورة غير مسبوقة . والأخطر من كل ذلك انتشار فكر التكفير والتطرف المصاحب لجماعات العنف المسلح التى تتخذ من الدين الاسلامى ستارا لممارسة الارهاب وهدم الدولة والمجتمع معا، وفى ظل هذه الصراعات بين القديم والجديد، والتطرف والاعتدال ، والتى تبدو أنها ستطول، فإن الحديث عن التحول الديمقراطى سيظل هدفا نسعى له جميعا إلا أنه مازال يتحطم على أرض الواقع، ولن يكون مجرد إقرار دستور مدنى أو اجراء انتخابات كفيلين وحدهما بتحقيقه، فالمجتمعات العربية والاسلامية التى مازال الفرد فى أغلبها يُلاحق على آرائه وأفكاره فى حاجة إلى «ثورة فكرية» قبل أن تكون سياسية و إلى اعادة الاعتبار لعمليات التحديث وإعطائها أولوية تستحقها. ولكن كل ذلك لن يتحقق ما لم تكن هناك حركة إصلاح جادة على مستوى الخطاب الدينى لمناهضة تلك الأفكار المتطرفة، التى لا تُصادر فقط الحريات وإنما الحياة ذاتها.

نقلاً عن الأهرام المصرية