Menu

النكبة.. عندما تمّت رشوة التاريخ!

أكرم عطا الله

نشر في العدد 50 من مجلة الهدف الإلكترونية

النكبة ... هي اللحظةُ الأكثرُ إيلامًا بمسيرة شعب، والكلمةُ الأكثرُ دقّةً في توصيف كارثةٍ لحقت بالشعب الفلسطينيّ المستقرّ على أرضه لآلاف السنين، نما وتطوّر وطوّر ثقافته التاريخيّة التي أنتجت فرادة هُويته وتميّزه باعتبار فلسطين كانت أرضًا للأديان والأساطير، ومنطقةً تفجّرت فيها صراعاتٌ منذ فجر التاريخ، وفيها تم اكتشاف الزراعة، كان للفلسطيني ما يعكس هذا التميّز وتلك التجربة الأكثر استقرارًا.

التاريخُ أحيانًا ساخرٌ، مثل لعبة الدومينو، حيث كان للحرب العالمية الثانية، التي وزعت مأساتها على كلّ مدن أوروبا، أن تجمع تلك المآسي وتحطّ بها في فلسطين، وهكذا كان. انتهت الحرب العالميّة، وأعيد الذين هجّروا في أوروبا إلى بلدانهم ومدنهم، لكنّها تسبّبت بهجرة شعبٍ على بعد آلاف الأميال، كيف ولماذا؟ تلك سخريةُ التاريخ.

ارتكب هتلر حماقته التاريخيّة ليحول اليهوديّ الأوروبيّ الذي يعيش في غيتواتٍ معزولةٍ في تلك القارة خوفًا من الاندماج بالشعوب، وتلك عرّضته للنبذ في عديدٍ من دولها ليتحوّلَ اليهودي إلى ضحيّة التاريخ الجديدة، هكذا كانت أوروبا بدولها تعيد تطهير ضميرها من المحرقة بتلويثه من جديدٍ في جريمةٍ جديدةٍ ارتكبت بحقّ الشعب الفلسطيني.

صحيحٌ أنّه كان هناك من بريطانيا ووزير خارجيّتها بلفور وعدٌ بإعطاء وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين، لكن ذلك الوعد لم يكن يكفي لإقامة تلك الدولة التي أقيمت على أنقاض الفلسطينيين وطردهم من أرضهم، فالهجراتُ اليهوديّةُ إلى فلسطين ظلّت محدودةً قبل وصول هتلر للسلطة في ألمانيا، ولم يكن عدد اليهود يكفي لإقامة دولة، ولا الزخم الدولي كان مسكونًا بهاجس المسألة اليهوديّة رغم نشاط الحركة الصهيونيّة لوضعها على الأجندة الدوليّة المشغولة آنذاك بصراعات القارة، فلم يكن سوى بريطانيا التي كانت تسيطر على فلسطين وحدها تحمل لواء المشروع الصهيوني، لكن الظروف الدولية المشغولة بذاتها لم تكن عاملًا مساعدًا لإنضاج مشروعٍ تكفّلت به بريطانيا لولا الحرب العالمية الثانية والمحرقة.

النكبة كانت الحدث الأبرز في منطقتنا، حيث يتمّ اقتلاعُ شعبٍ كاملٍ وتهجيرِ شعوبٍ كاملةٍ من جنسيّاتٍ أوروبيّةٍ متعدّدةٍ لتحلّ مكانه في أسوأ ما تفتق عنه العقل الأوروبي، حيث الاقتلاع والتشرد والقتل الذي قامت به العصابات الصهيونيّة التي كانت تتكاثر تحت غطاء الانتداب البريطاني في الكيبوتسات تدريبًا وتسليحًا، في محيطٍ عربيٍّ كانت قد تمّت السيطرة عليه بعد الحرب العالميّة الأولى بتقسيمه بين بريطانيا وفرنسا بالأساس؛ ما استكمل تجريد الحالة العربيّة من ممكنات قوتها، حيث خضوع جيوشها وتسليحها لسيطرة المحتل آنذاك ما أبقاها لا تصلح للحروب، بل لمواجهة جماهيرها في الداخل ولمواجهة التظاهرات في أبعد الحدود وليس للحرب.

تعرّض الشعب الفلسطيني لأبشع عملية تهجيرٍ دامٍ في التاريخ، وتشتّتٍ في دول الجوار، وهذا أسوأ ما حصل، حيث حدث ما يشبه انفراط تماسكه فكف عن النمو الطبيعي مجتمعًا متماسكًا، وتوقّف تطوّره الحضاري، حيث احتلت إسرائيل الشريط الساحلي لفلسطين، وسيطرت على كل المدن المطلّة على البحر المتوسّط، ولم تبق سوى غزة المدينة الساحلية التي كان لا بدّ وأن تعيد بعث الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، ولم يكن ذلك من مصادفات التاريخ، ويعود لأسبابٍ كثيرةٍ لكن موقعها الساحلي كان يدفع تجاهَ إعادةِ البعث تلك.

توزّع الشعب الفلسطيني خارج فلسطين، حيث الكتلة الرئيسية لجأت إلى دول الجوار؛ الأردن شرقًا، ولبنان وسوريا شمالًا، أما من بقي في داخل فلسطين التاريخيّة فقد توزّعوا على ثلاث مناطق في الضفّة الغربيّة وغزّة، ومن تبقّوا داخل مناطق الـ 48، وهكذا كادت الهُويّة الفلسطينيّة تندثر مع هذا الانتشار تحت إدارة نظمٍ سياسيّةٍ متعدّدةٍ بين الأردن و مصر وسوريا ولبنان أمّا ما تعرّض له فلسطينيو الداخل كان الأكثر قسوةً، حيث تم فصلهم عن محيطهم العربي وتعرّضوا لعملية أسرلةٍ أريد لها انتزاع تلك الهوية التاريخية لصالح إسرائيليّة مشوّهة، بل وخضعوا للحكم العسكري الإسرائيلي في الداخل، واستمر ذلك حتى عام 66 بعد الخضوع لعملية تخويف وتجريف لثقافتهم، بدأت إسرائيل بدمجهم في المجتمع الاسرائيلي في إطار عملية الأسرلة والتدجين والتشويه تلك ربّما كانت الأكثر ضراوةً أن يتماثل هذا الجزء الذي تبقّى من الشعب مع من اغتصب أرضه وشرّد شعبه وارتكب المجازر بحقّه أريد له أن يصبح جزءًا منه.

ونتاج هذا الزلزال اختفت القيادة التاريخية الفلسطينية التي كانت جزءًا من الهزيمة الكبرى والنكبة ولعقدين، بعدها كان الشعب الذي تعرّض لها هائمًا بلا قيادةٍ وبلا مشروعٍ ولم يعد مجتمعًا متماسكًا، بل مجموعات من البشر التي توزّعت وخضعت لأنظمةٍ مختلفةٍ ومتعارضةٍ أحيانًا في ثقافاتها، أي أن العقدين اللذين تبعا النكبة كانا أسوأ عقدين مرّا على الشعب الفلسطيني المصدوم لولا تشكّل منظمة التحرير الفلسطينيّة بفكرة الزعيم التاريخي للأمّة جمال عبد الناصر، التي تكفّلت بإعادة لملمة صفوف الشعب الفلسطيني وتجميعه على شعارٍ موحّدٍ وبرنامجٍ موحّدٍ وكان للفصائل التي تشكّلت منتصف ستينات القرن الماضي الدور البارز في إعادة تجميع صفوف الشعب الفلسطيني وإخراجه من صدمة ضياع الأرض والوطن وصدمة اللجوء.

لم يكن رحيل الفلسطينيين عن مدنهم وقراهم يتمّ لولا المذابح التي ارتكبتها العصابات آنذاك، التي بدأت ظاهرة المؤرخين الجدد التي نشطت في تسعينات القرن الماضي، وأبرزهم الباحث بني ثيودور كاتس الذي كشف حقائق مذبحة الطنطورة التي ارتكبها لواء الإسكندرون في الهاجاناة، وقد وفّر المؤرخ بني موريس من الوثائق ما يجعل من الجرائم والمجازر التي ارتكبت ما يندى له جبين العالم الذي أسهم بإقامة إسرائيل، هذا كان من شهاداتٍ إسرائيليّةٍ أما الشهادات الحية الفلسطينية فقد كانت حديث الفلسطينيين الذين عايشوا تفاصيل تلك المجازر والمذابح، وظلت تسبّب جرحًا عميقًا في ذاكرتهم حيث قتل المصلوبين على الجدار ودفن الأحياء، وتم إلقاء البعض في آبار المياه تلك كانت مسيرة شعبٍ ونكبته شاء قدره أن يكون ضحية التاريخ وضحية صراعات الكون.

لعقودٍ طويلةٍ بلغت سبعة ونصف العقد ظل الشعب الفلسطيني بعيدًا عن أرضه، ولم تتحقّق أحلامه الوطنيّة بالاستقلال، فهو لم يتعرّض للطرد فقط من المناطق التي احتلّتها إسرائيل، وأقامت عليها دولتها، بل لاحقت من تبقى في فلسطين خارج إسرائيل لتحتلّه وتتحكّم به، وهو يتعرّض يوميًّا للملاحقة والسجن والإذلال، كل هذا يحدثُ أمام مؤسّساتٍ دوليّةٍ أقيمت لإنصاف الشعوب وإصدار أحكامٍ على تجاوزات حقوق البشر، وتتكدّس محاضرها ومواثيقها بما يكفي من تلك القيم والمبادئ، ولكن تلك المؤسسات بات واضحًا أنّها أعجز من إصدار موقفٍ أخلاقيٍّ بحقّ الفلسطينيين وليس حلّ قضيّتهم.

الولايات المتّحدة الأميركيّة الراعي الرئيسي للمشروع الإسرائيلي بعد أن تكفّلت أوروبا بإقامته، وقفت ضد الفلسطينيين مبكرًا فهي لم تكف عن اتهامهم بالإرهاب حين قاتلوا لنيل حريّتهم ضدّ الاحتلال المعرّف بأنّه منافي للشرعية الدولية ومبادئها واحتكرت التصرف بالتسوية لتعطي إسرائيل متّسعًا أكبر لاستكمال الاحتلال والاستيطان، وقامت بتأميم المؤسّسات الدوليّة لتشكّل غطاءً على تصرّفات الاحتلال، كل هذا وأكثر، كانت الولايات المتّحدة طرفًا على النقيض من القيم الإنسانيّة.

لأوّل مرّةٍ تحيي الأمم المتّحدة ذكرى النكبة في مقرّها في نيويورك في احتفاليّةٍ غابت عنها الدول الراعية لإسرائيل بريطانيا سابقًا والولايات المتّحدة لاحقًا فيما يشبه إنكار مأساةٍ لحقت بشعب؛ قامت الدولتان: الأولى بتأسيس مشروع تهجيره وترحيله، والثانية: تكفلت برعاية استمرار المشروع والإنفاق عليه واستمرار العداء للشعب الذي تعرّض لأبشع عمليّة تطهيرٍ عرقي في القرن الماضي وما زالت المأساة مستمرّةً ولم تتوقّف عند طرده، بل إنّ ما يجري هو استمرارٌ لنزيف الشعب الفلسطيني على أرضه بالقتل والسجن وبناء المستوطنات حتى على الجزء خارج المناطق التي احتلتها إسرائيل منذ الإقامة، بل تتجاوزها بما هو أبعد وبموافقة المجتمع الدولي الصامت الذي انتفض فجأةً لما حدث في أوكرانيا رغم تشابه الأمر، ما يكشف تلك الازدواجيّة غير الأخلاقيّة التي تحكم معايير العالم.

ولكن رغم كل ما حدث طوال خمسة وسبعين عامًا متواصلة من القتل الملاحقة، لكن الشعب الفلسطيني ظلّ رافعًا لواء حريّته، بقي من تبقى على الأرض صامدًا، غاب الجيل الأول الذي حضر النكبة، وسلّم مفتاح الدار لورثته من الأبناء للأحفاد الذين يواصلون المشوار، وبإرادة أقوى، مؤمنةٍ بحقوقها وبعدالة الطريق، مهما كلّف من تضحيّاتٍ ومهما تمّت رشوة التاريخ.