Menu

وليد دقّة.. المناضلُ والمفكّرُ والمثقّفُ خلفَ قضبان الأسر الواقعُ والبطولة.. التحدّي والمقاومة

بسام عليان

نشر هذا المقال في العدد 52 من مجلة الهدف الإلكترونية

تقفُ الحروفُ حيرى عاجزةً عن أن تنتظمَ بمديحٍ يليق بمقام الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، أو أن تنبئ بوصف بحجم عذاباتهم اليوميّة، هم رجالٌ عزَّ نظيرهم، هم عطرُ القضيّة الفلسطينيّة وعنوانُها الأبرز، هم نبضُ البطولة وأنشودةُ النخوة والمروءة، وتراويد الشجاعة والتحدّي، هم العيون المرابطة الرابضة التي باتت حارسةً لرفعة الوطن وعزّته.

يتّفقُ الأسرى الفلسطينيّون في السجون الإسرائيليّة على أن للسجن زمنًا خاصًّا لا يدركه إلا من خاض التجربة عن قُربٍ أو سمع بها، وتتراوح تلك التجربة حسب فترة الاعتقال والمشهد السياسي والاجتماعي خارج الأسر، الذي بدوره ينعكسُ على البنية الاعتقاليّة والتنظيميّة داخل سجون الاحتلال.

إنّ زمن السجن مع ثبات المكان، ونضال الأسرى، يدفعنا إلى التأكيد أكثرَ من أي وقتٍ مضى على ضرورة إعطاء قضيّة الأسرى في سجون الاحتلال بعدًا قانونيًّا وسياسيًّا وإنسانيًّا وأخلاقيًّا وأدبيًّا. وأن تتصدّر قضيّة الأسرى الفلسطينيّين جدول العمل الوطني على الصعيدين؛ الرسمي والشعبي، جرّاء ما يعانونه من إجراءاتٍ وتدابير من قبل سلطات السّجون والمعتقلات الإسرائيليّة؛ الأمرُ الذي أدى إلى استشهاد عددٍ منهم؛ بسبب التعذيب المنهجي والوحشي، والإبعاد التعسّفي لبعضهم، ووجود بعضهم في شبه حالة احتضار بسبب الإهمال الطبي، ومعاناة الأغلبية الساحقة منهم من إضراب الأمعاء الخاوية الأسطوري الذي لا يزال ساريًا حتى كتابة هذه الدراسة.

ومن حالات الاحتضار التي يعاني منها أسرانا الفلسطينيون في سجون الاحتلال حالةُ الأسير المريض وليد دقة؛ والأسير وليد دقة هو كاتبٌ ومفكّرٌ وسياسيٌّ فلسطيني، يبلغُ من العمر 61 عامًا من مدينة باقة الغربيّة الفلسطينيّة، المحتلّة عام 1948. أصيب بنوعٍ نادرٍ من سرطان النخاع العظمي عام 2022، وهو حاليًّا في حالةٍ صحيّةٍ صعبة، وبحاجةٍ إلى عنايةٍ طبيّةٍ عاجلة.

الأسير "دقة" هو واحد من 19 فلسطينيًّا أمضوا أكثر من 30 عامًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وواحد من 23 فلسطينيًّا معتقلون قبل توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، حيث استثنيت هذه المجموعة من الصفقات السياسيّة وصفقات التبادل كافةً، ونكث الاحتلال باتفاقاتٍ للإفراج عنهم ضمن الدفعة الرابعة لتبادل الأسرى في آذار عام 2014. وحسب ما لمّح الأطباء، أن حالة "وليد" الصحيّة المتدهورة هي نتيجةٌ للممارسة الممنهجة لمصلحة السجون الإسرائيلية في الإهمال الطبي المتعمّد، تحديدًا بعد رفض نقله بشكلٍ عاجلٍ إلى مستشفى مدنيٍّ بعد إصابته بجلطةٍ دمويّة.

والمفكّرُ والسياسيّ والمناضل وليد دقة اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 25/3/1986، وحكمت عليه بالسجن المؤبّد، حُدّدت لاحقًا بـ 37 سنة. وكان اعتقاله بزعم مشاركته في المقاومة المسلّحة ضدّ النظام الاستعماري الاستيطاني والعنصري الإسرائيلي عام 1985، وكان من المفترض أن يتم الإفراج عنه في بداية عام 2023؛ إلّا أنّه ما يزال معتقلًا إلى اليوم، رغم أنّه يكافح نوعًا نادرًا من السرطان

وليد دقة من أبرز مفكري الحركة الأسيرة:

نستطيع أن نقول: إنّ الأسير وليد دقة من أبرز مفكّري الحركة الأسيرة؛ فهو مناضلٌ سياسيٌّ وكاتبٌ متميّز، ومثقّفٌ مفكّرٌ وقائدٌ محنّكٌ ومؤثّر؛ وهو واحدٌ من الذين أبدعوا في كتاباتهم عن الحالة الفلسطينيّة، وإنتاجه الأدبي المقاوم. فقد فضح "وليد" هذا العدو السجّان، فكتب واصفًا إيّاه بأنّه يستهدفُ الجوهر الإنساني عند الفلسطينيين، وبالتحديد في حياة السجين الفلسطيني المقاوم، فمع تعاقب الساعات والأيام والسنوات، يتم قتل الجوهر عند الفلسطيني السجين لدى الاحتلال.

ووليد استطاع بوعيه وفكره، أن يفضح ممارسات الاحتلال، فلذلك لا نستغربُ أن يقوم العدوّ الإسرائيليّ بتعذيبه بأسلوبٍ ممنهجٍ ومدروس.

وليد ترك إرثًا معرفيًّا غزيرًا حول أدب السجون الفلسطيني، وخلال مسيرته الطويلة في الاعتقال أنتج العديد من الكتب والدراسات والمقالات، وأسهم معرفيًّا في فهم تجربة السجن ومقاومتها.

ومن أبرز ما أصدره: "الزمن الموازي" و"يوميات المقاومة في مخيّم جنين" و"صهر الوعي" و"حكاية سر الزيت" و"حكاية سر السيف".

وكان الأسير "دقة" قد تعرّض لجملةٍ من السّياسات التّنكيليّة على خلفيّة إنتاجاته الفكريّة والأدبيّة، التي ارتفعتْ وتيرتُها بعد قدوم طفلته ميلاد، فواجه العزل الانفرادي، والنقل التعسفيّ المستمر، وصنّف بعد إضافة حكم عامين إلى مدّة حكمه على أنّه شديدُ الخطورة (سجاف)، وعانى إثر ذلك من إهمالٍ طبيٍّ متعمّد، وتجاهُل إجراء الفحوصات والمتابعات الدوريّة له. وبدأت صحة "وليد" في التدهور، حيث عانى من مشاكلَ صحيّةٍ مرتبطةٍ بالدم. وعلى الرغم من أنّ طبيب السجن نصحه بإجراء فحوصات دم دورية، إلا أن مصلحة السجون رفضت متابعته طبيًّا، ولم تقم بإجراء الفحوصات اللازمة. فوليد يعاني من نوعٍ نادرٍ من سرطان نخاع العظام، الذي يؤدي إلى تعطيل الإنتاج الطبيعي لخلايا الدم، ما يستدعي إجراء عمليّة زراعة لنخاع عظم بشكلٍ عاجل.

ويعاني وليد من ارتفاع ضغط الدم، وفي حال عدم تلقيه العلاج الطبي المناسب والعاجل، فإنّ هناك خطورةً كبيرةً ببقائه على قيد الحياة.

 ورغم كل هذا، ما تزال إدارة السجن تماطل في تقديم العلاج اللازم لوليد أو الإفراج عنه لتدهور حالته الصحيّة. فقد أصبح يعاني من عدم قدرته الوقوفَ على رجليه، وصعوبةً في التنفّس، وهزالًا جسميًّا عامًّا. ويستعين بالأوكسجين للتنفّس. وهذا الحال الذي وصل إليه وليد دقة هو من إهمال إدارة مصلحة السجون الإسرائيليّة التي أدّت دورًا مباشرًا في الحالة التي تهدد حياته؛ وإبقائه في بيئةٍ صحيّةٍ سيّئةٍ وخطيرةٍ؛ ما يجعل من هذا السلوك جريمة سوء معاملة، ومعاملة غير إنسانيّة من خلال إهمال وليد طبيًّا وسيلةً للقتل البطيء، وهذا الإهمال الطبي في سجون الاحتلال – سياسةٌ تعسفيّةُ وغير قانونيّة - تستخدمها سلطاتُ الاحتلال بحقّ الأسرى الفلسطينيين في محاولةٍ لقتلهم قتلًا بطيئًا وإضعاف معنوياتهم. ففي كانون الأول 2022، استشهد الأسير ناصر أبو حميد (50 عامًا) في سجون الاحتلال بعد إصابته بمرض السرطان الذي انتشر في جسده بشكلٍ سريعٍ دون أن يتلقى العلاج الطبي المناسب. وعلى الرغم من الدعوات المتكررة من قبل المجتمع المدني الفلسطيني والمجتمع الدولي، رفضت سلطات الاحتلال الإفراج المبكر عن ناصر على الرغم من تأكيد وفاته المحققة، وبعد استشهاده، رفضت سلطات الاحتلال تسليم جثمانه لعائلته ليُدفن بكرامة.

وتُواصِل سلطات الاحتلال الإسرائيلية احتجاز جثامين 13 أسيرًا فلسطينيًّا استشهدوا داخل سجون الاحتلال، وهم أنيس دولة الذي استشهد عام 1980، وعزيز عويسات استشهد عام 2018، وفارس بارود، ونصار طقاطقة، وبسام السايح استشهدوا عام 2019، وسعدي الغرابلي وكمال أبو وعر استشهدا عام 2020، وسامي العمور استشهد عام 2021، وداوود الزبيدي وناصر أبو حميد ومحمد تركمان استشهدوا عام 2022، ووديع أبو رموز وخضر عدنان استشهدا عام 2023.

وبلغ عدد الأسرى الفلسطينيين الذين استشهدوا داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 (237) أسيرًا، منهم 75 أسيرًا استشهدوا نتيجةً للإهمال الطبي المتعّمد، حيث تزداد هذه السياسة من خلال حرمان الأسرى الفلسطينيين من الرعاية الصحيّة التخصّصيّة والفحوصات الدوريّة، إضافةً إلى إساءة معاملة الأسرى المرضى من خلال تقييدهم بالأسرّة في المستشفيات، كما أن سياسة احتجاز جثامين الأسرى الشهداء في الثلاجات هو شكلٌ إضافيٌّ من أشكال العقاب النفسي والعقاب الجماعي. كما واستشهد عدد من الأسرى بعد أن تحرروا من الأسر، كحسين مسالمة، الذي استشهد بعد فترةٍ قصيرةٍ من إطلاق سراحه، وذلك نتيجةً للأمراض التي ورثوها داخل سجون الاحتلال.

تستمرُّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي في انتهاكاتها الصارخة للأعراف والمواثيق الدولية التي تسعى إلى حماية الأسرى، وخاصّةً الأسرى المرضى، حيث تنتهكُ سلطات الاحتلال القانون الإنساني الدولي الذي يضمن توفير العناية والرعاية الطبية اللازمة للمرضى، كما أن سلطات الاحتلال تستخدم العقوبات الجماعية بحق الأسرى وعائلاتهم أداةً للقمع والسيطرة بحق الشعب الفلسطيني. فمنذ عام 1967 شرعت قوات الاحتلال العسكري الإسرائيلي بافتتاح العديد من السجون والمعتقلات لتضييق الخناق على حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية؛ فلجأ الاحتلال إلى اعتقال العديد من الشخصيات الوطنية وأبناء المقاومة الفلسطينية وزجّ بهم في سجونه ومعسكرات اعتقالاته.

وبالنسبة إلى ظروف الأسر والاحتجاز، فإنّ عمليّة احتجاز الأسرى من الأراضي الفلسطينيّة تتمُّ في سجون ومراكز اعتقالٍ عسكريّةٍ إسرائيليّةٍ تقع داخل الأراضي المحتلة عام 1948، فهناك خمسةُ مراكز تحقيق، وستة مراكز احتجاز وتوقيف، وثلاثة مراكز اعتقال عسكرية، وعشرون سجنًا مركزيًّا تابعًا لمصلحة السجون الإسرائيليّة. فلا تزال حكومة الاحتلال الإسرائيلي تحتجز وتعتقل في سجونها ما يقرب (6500) معتقل فلسطيني، بينهم (360) طفلًا، و(61) امرأة، و(6) نواب في المجلس التشريعي. ويبلغ عدد الأسرى المرضى (1200) أسير تقريبًا (هذا الذين يبلغ عن حالات مرضهم)، من بينهم (130) حالة مزمنة، كأمراض السرطان والسكري والإعاقة الكلية أو الجزئية. بالإضافة إلى ما تقترفه إدارة السجون الإسرائيلية من انتهاكاتٍ جسيمةٍ بحقّ الأسرى والمعتقلين، تتمثّل في ممارسة التعذيب، والعزل، والحرمان من الرعاية الطبيّة، وإجراء التجارب الطبيّة عليهم؛ الأمر الذي أدّى إلى وفاة العشرات منهم أثناء الأسر أو بعده. كما تشمل الانتهاكات احتجاز الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجونٍ سريّة، ومحاكمتهم بصورةٍ غير قانونيّة، والاعتقال الإداري غير المشروع، إضافةً إلى اقتحام المعتقلات والسجون، التي تتخلّلها عمليّات القمع والتنكيل، إلا أنّ الأسرى الأبطال داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي يقاومون ويتحدون الاحتلال ويتحدون عنجهية الاحتلال وحكومته العسكرية الصهيونية، خاصّةً في غياب استراتيجيّةٍ وطنيّةٍ لدعم نضال الحركة الأسيرة، فيقومون بالإضراب عن الطعام رغم قسوته وصعوبته باعتباره أحد أهم الأسلحة التي يستخدمها الأسرى، وأقوى أشكال النضال المشروعة التي تلجأ إليها الحركة الأسيرة خلف القضبان لانتزاع الحقوق الأساسية الخاصة بالفرد أو الجماعة، حيث استطاع الأسرى من خلاله تحقيق الكثير من الإنجازات، وانتزاع جزءٍ من حقوقهم المسلوبة، وكان آخر هذه الاضرابات التي تركت أثرًا واضحًا، واستطاعت أن تغيّر واقع السجون هو إضراب الكرامة في نيسان عام 2012 الذي أنهى العزل الانفرادي في حينه، وأعاد برنامج زيارات قطاع غزة بعد انقطاع مدة 6 سنوات متواصلة، وما يميز هذه الركيزة أنها تُسهم في تحسين ظروف الاعتقال، ولا يثمر عنها تحررهم من الأسر.

وهنا نقول إنّه لا بدّ بل من اللازم والواجب، إعطاء أهمية قصوى لبناء استراتيجيّةٍ وطنيّةٍ لدعم قضايا الأسرى والحركة الأسيرة، تقوم على استعادة وحدة الشعب الفلسطيني، وإنهاء حالة الانقسام التي يستفيد منها الاحتلال ويتمادى في عنجهيته وتعسفه بحق الأسرى، وتحقيق المصالحة في سياق إعادة بناء الوحدة الوطنية، وبما يضمن إعادة بناء نظامٍ فلسطينيٍّ سياسيٍّ موحّدٍ على أسسٍ ديمقراطيّة، وبرنامجٍ وطنيٍّ واستراتيجيّةٍ نضاليّةٍ ورؤيّةٍ قانونيّةٍ وسياسيّةٍ لوضع الآليات الكفيلة بتوفير الحماية للمعتقلين الفلسطينيين، بالاستناد إلى قواعد القانون الدولي وأحكامه، بعيدًا عن الاعتبارات السياسيّة وإملاءات القوّة العسكريّة للاحتلال.