Menu

ضمّ ما تبقّى من أراضي الضفّة الغربيّة "لإسرائيل".. نهايةٌ لمسرحية حلّ الدولتين

حيدر العيلة

نشر هذا المقال في العدد 53 من مجلة الهدف الإلكترونية

منذ عام 1967، وسلطات الاحتلال الصهيوني تعمل على بسط سيطرتها على كامل الأراضي الفلسطينيّة عبر سياسة المصادرة والتوسّع الاستيطاني، وتحديدًا في الضفة الفلسطينيّة، واعتمدت سلسلةً من السياسات الهادفة إلى تضييق الخناق على سكانها الأصليين؛ بهدف تهجيرهم وطردهم من أرضهم، وتضاعفت عمليّات سرقة أراضي الضفّة الغربيّة بعد توقيع اتفاقية أوسلو التي نصّت فيما يتعلّق بتقسيم أراضي الضفّة على الآتي:

تعترفُ منظّمة التحرير الفلسطينيّة بدولة "إسرائيل" (على 78% من أراضي فلسطين، أي كل فلسطين ما عدا الضفّة الغربيّة وغزّة)، وخلال خمس سنوات تنسحبُ إسرائيل من أراضٍ في الضفة الغربيّة وقطاع غزة على مراحل، أوّلها: أريحا وغزة اللتان تشكّلان 1.5% من أرض فلسطين التاريخيّة، وأنشأ اتفاق أوسلو الثاني ثلاثة أقسام إداريّة مستقلّة "مؤقّتة" في الضفة الغربيّة، وهي المناطق "أ" و "ب" و "ج"، لحين الاتفاق على وضعٍ نهائي لهذه الحالة، وهذه المناطق الثلاث غير متجاورة، ولكنّها مجزّأة حسب المناطق السكنيّة المختلفة والمتطلّبات العسكريّة "الإسرائيليّة".

المنطقة "ج" ‏أو "c" كما اصطُلح على تسميتها، هي أكبر مناطق الضفة الغربيّة المنصوص عليها في اتفاقية أوسلو الثانية، حيث تشكّل تلك المنطقة نحو 61% من أراضي الضفة الغربيّة، وحسب الاتفاق، فإنّ السلطة الفلسطينيّة مسؤولةٌ فقط عن تقديم الخدمات الطبية والتعليمية للفلسطينيين في المنطقة، بينما السيطرة على الجوانب الأمنيّة والإداريّة والقانونية هي لإسرائيل وحدها.

تعدّ المنطقة المصنّفة "ج" هي مربع الاستهداف الأبرز في عمليات تهجير الفلسطينيين التي تعتمدها سلطات الاحتلال، ومن أجل تحقيق هذه الغاية، عمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على اتخاذ قراراتٍ متتاليةٍ بمصادرة أراضي المواطنين الفلسطينيين وبناء المزيد من المستوطنات، وخصصت المزيد من الميزانيات والمنح والامتيازات لأجل خلق واقعٍ جديد، ينتفي بمقتضاه إمكانية التوصّل إلى حلٍّ يتمُّ بموجبه استعادة تلك الأراضي.

وحسب بيان للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في نهاية آذار 2023 بلغت مساحة مناطق نفوذ المستوطنات "الإسرائيلية" في الضفة الغربية نحو 537 كم2 في نهاية عام 2022، وتمثّل ما نسبته نحو 10% من مساحة الضفة الغربية، فيما تمثّل المساحات المصادرة لأغراض القواعد العسكريّة ومواقع التدريب العسكري نحو 18% من مساحة الضفّة الغربيّة بواقع 1,016 كم2، بالإضافة إلى جدار الضمّ والتوسّع الذي عزل أكثر من 10% من مساحة الضفّة الغربيّة، وتضرّر ما يزيد على 219 مدينةً وقرية فلسطينيّة، الذي يبلغ طوله نحو 714 كم. كما صادرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، نحو 353 ألف دونم من الأراضي الفلسطينيّة وصنفتها "محميّات طبيعيّة" تمهيدًا للاستيلاء عليها. كما أسلفت، فإنّ المنطقة "ج" تشكل نحو 61٪ من أراضي الضفة الغربيّة المحتلّة.

السلطة الفلسطينيّة المكبّلة باتفاقيات أوسلو تسعى وتطالب بإعادة السيطرة على أجزاء تلك المنطقة الواسعة جزءًا من بناء الدولة الفلسطينيّة حسب الوعود الأمريكيّة والدوليّة.

وحسب اتفاقية أوسلو كان المفترض فلسطينيًّا، أن تكون نهاية عمليّة السلام عام 1999، بإقامة الدولة الفلسطينيّة في الضفة الغربيّة، بما فيها مدينة " القدس الشرقية" وقطاع غزة، لكن الاستيطان الإسرائيلي في الضفة والقدس، الذي تضاعف مرات عديدة منذ انطلاق عملية السلام، يحوّل فعليًّا دون إقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ قابلةٍ للحياة ومستدامة.

السلطة أدركت بعد فوات الأوان أن اتفاقية أوسلو تحتاج حسب المنطق الصهيوني، إلى عشرات الاتفاقيات المنفردة وجولات من الحوارات الطويلة، التي لا طائل من ورائها، التي لن تحصد من ورائها سوى خيبات الأمل المتلاحقة، ولكنها، ورغم كل النكسات ما زالت تراهن على هذا المسار الوهمي. في المقابل، تعمل الحكومة "الإسرائيلية" وبخططٍ مبرمجةٍ على إفراغ تلك الاتفاقية (رغم مساوئها) من أي بارقة أملٍ للتوصّل إلى اتفاقٍ يضمنُ قيام دولةٍ مستقلّةٍ على أقل من 20% على أرض فلسطين التاريخيّة.

حكومات الاحتلال المتعاقبة عملت منذ توقيع اتفاقية أوسلو وما قبلها، على سياسة طرد ممنهج للفلسطينيين من المنطقة "ج" استعدادًا لعملية الضم، وهذا المخطط الجهنمي الذي يقوده الآن اليمين الصهيوني بشقيه اليمين الليبرالي واليمين الصهيوني الديني القومي بزعامة سموتريتش وبن غفير ينظرون إلى المنطقة (ج) باعتبارها مساحةً أساسيّةً للاستيطان والأمن اليهوديين، وتشكل الضفة الغربية حسب المفهوم الديني للصهيونية الأساس التوراتي التي قامت عليه فكرة إنشاء (وطن قومي لليهود في فلسطين).

وفي ظلّ هذا "الصراع" السياسي والدبلوماسي بين السلطة الفلسطينيّة الضعيفة، التي لم تبق لديها أية أوراق قوّة لفرض رؤيتها (بعد أن نبذت الكفاح المسلّح، وعمدت إلى ملاحقة المقاومين لإثبات قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها تجاه إسرائيل وأميركا)، وبين الحكومة الصهيونية التي، كما ذكرت، تعمد إلى تخريب أي جهد عربي أو دولي، لإيمانها المطلق أن إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس وغزة "حدود 67" هو أول مسمار في نعش دولة الاحتلال، ولذلك قامت دولة الاحتلال بمضاعفة عمليات القضم التدريجي للأرض الفلسطينية في المنطقة "ج" حتى لا تبقي أي أمل لأي حل سياسي مستقبلي يتضمن انسحاب "إسرائيلي" من كامل أراضي الضفة الغربية.

 

السيطرة على المنطقة "ج"، من وجهة نظر دولة الاحتلال، أن المنطقة "ج" لا يمكن أن تكون جزءًا مركزيًّا وحيويًّا من الدولة الفلسطينية لما تحتويه من (مناطق زراعية واسعة، وحدود مع الأردن، وموارد طبيعية، ومناطق بنية تحتية مهمّة وخلافه). ولذلك تهدف الحكومة "الإسرائيلية" الحالية من وجهة نظر استراتيجيّة على بسط سيطرتها على معظم المنطقة "ج"، وتوسيع الاستيطان الإسرائيلي بشكلٍ كبير، وتهيئة الظروف لتطبيق السيادة الإسرائيليّة الكاملة على كامل المنطقة "ج".

حسب اتفاقية أوسلو تم تقسم الضفة إلى ثلاث مناطق غير متصلة، أكبرهما المنطقة "ج" التي تقع تحت السيطرة المدنيّة والأمنيّة "الإسرائيلية" بالكامل، وتضمّ المستوطنات اليهوديّة الكبرى والعشوائيّة ففي المنطقة "ج" يقطن أكثر من نصف مليون مستوطن، وهي موزعة على أكثر من 150 نقطة استيطانية، بما في ذلك، ما تسمى البؤر الاستيطانية غير "الشرعية".

من ناحية أخرى، يقطن في المنطقة "ج" أكثر من مائتي ألف فلسطيني في أكثر من 530 مدينة وبلدة وقرية، يمتلك الفلسطينيون منها فقط ربع تلك الأراضي، 5% للمؤسسات والمساكن ونحو 20% للأنشطة الزراعية والرعي (هآرتس).

عملت الحكومات الصهيونيّة على إفشال أيّة مبادراتٍ مستقبليّةٍ لإمكانيّة تحقيق حلٍّ على أساس الدولتين حسب المبادرة العربيّة للسلام، أو حتى حسب اتفاق أوسلو الهزيل، وذلك تحقيقًا للأهداف الصهيونيّة التوراتيّة بأنّ أرض "يهودا والسامرة" الضفة الغربية هي قلب الوطن اليهودي، وأن التنازل عن أي جزءٍ منها هو خيانةٌ كبرى لا تسامح معها (تصريح الحاخام الأكبر لدولة الاحتلال).

الفكرة الرئيسية التي تروّج لها الحكومة الحالية وسموتريتش تحديدًا هي عملية "الضم الزاحف"، تحت وفوق الرادار، ويعكس ذلك السياسة الصامتة والحثيثة بتوسيع المشروع الاستيطاني من خلال "تنظيم المستوطنات الفتية"، أي الاعتراف القانوني بالبؤر الاستيطانية غير "القانونية"، وبعد استكمال عمليات الطرد والضم، حسب خطة سموتريتش، لا يبقى أمام الفلسطينيين سوى خيارين لا ثالث لهما: الهجرة إلى الدول العربية، أو الاستسلام تحت الحكم "الإسرائيلي" في الكانتونات المتمتعة بالحكم الذاتي مقيمين غرباء دون حقوق.

إنّ تنفيذ سياسة الحكومة "الإسرائيليّة" فيما يتعلّق بالمنطقة (ج) والعمل الجاري على ضمّها إلى دولة الاحتلال يضع الكيان الصهيوني أمام خطر الانزلاق إلى واقع "الدولة الواحدة"، حسب رؤية معهد بحوث الأمن القومي الصهيوني؛ لأنّ الضمّ الفعلي للمنطقة، يعني إحباط أية فرصة للتسوية السياسية أو تحقيق الانفصال المؤدي لحل الدولتين، والبديل الوحيد القائم هو حل الدولة الواحدة ثنائية القومية، المرفوض إسرائيليًّا "من منطلق عقائدي"، فهي لا تعترف أصلًا بوجود الفلسطينيين وحقّهم في تقرير المصير، والفكرة الصهيونيّة قامت على أساس أنّ "إسرائيل الكبرى" دولة يهوديّة، لليهود فقط. عمليًّا، حل الدولة الواحدة الثنائية القومية أمر مرفوض تمامًا لإسرائيل؛ لأنّه يشكّلُ خطرًا وجوديًّا عليها أمام التفوّق الديموغرافي للفلسطينيين.

إنّ الكيان الصهيوني يعمد إلى تخريب أية إمكانية للانفصال والانسحاب من المنطقة "ج" إدراكًا منه أنّه في حال جرى الانسحاب منها، وتخلّت عنها لصالح السلطة الفلسطينيّة، فإنّ الكيان سيكون أمام جملةٍ من المحاذير الخطيرة التي ستجعله يرفض مجرد التفكير في الانسحاب من كامل المنطقة "ج"، وهذه المحاذير كما أوردتها صحيفة يسرائيل هيوم العبرية، ليست موقف الأحزاب المتطرّفة فقط، ولكنّها أيضًا مواقف باقي الأحزاب الصهيونيّة، وأيضًا توصيات من مراكز البحث ومعاهد الدراسات الأمنية في الكيان، والمحاذير هي:

1. إنّ قيام دولة فلسطينيّة - ذات تسلسل إقليمي متصلة - ستكون رابطًا بين أراضي الدولة الفلسطينية و الأردن وإسرائيل، تخشى من أن أي تغيير في النظام الأردني، ليس في غير صالح إسرائيل، ومن ثَمَّ سيعمل هذا الربط على فتح جبهةٍ شرقيّةٍ معادية.

2. الدولة الفلسطينيّة ستكون بالقرب من شرايين الحياة الرئيسية لإسرائيل، وهذا يعني سيطرة فلسطينية على المناطق الأمنية ومواقع الجيش المهمة.

3. الإضرار بالتوسع الاستيطاني من خلال قطع التسلسل الاستيطاني الإسرائيلي وعزل المستوطنات في جيوب وكانتونات محاطة بالعرب.

4. الاستيلاء على الأصول (احتياطيات الأراضي الزراعيّة، والموارد الطبيعيّة والمياه، والمناطق الخاضعة للرقابة الإسرائيليّة).

5. الاستيلاء على الطرق الرئيسيّة ومنع الحركة الإسرائيليّة في المنطقة - تمزيق نسيج حياة المستوطنين - والتضييق عليهم.

6. حرمان إسرائيل من الأصول الأمنيّة - مواقع استراتيجيّة ومحاور استراتيجيّة، في حال تغيّر الوضع الأمني.

7. تعطيل الأمن الإسرائيلي وحرية العمل في المنطقة ضدّ المنظمات المناوئة، التي ترفض الاعتراف بوجود "إسرائيل" (معهد بحوث الأمن القومي).

لذلك، فإنّ حكومة اليمين الحالية، وحتّى حكومات شبه اليمين، لا يمكنُ أن توافق على الانسحاب بالكامل من تلك المنطقة المسماة "ج" عبر المفاوضات أو الوسائل السلميّة للاعتبارات المذكورة، وتعملُ ليل نهار على تقويض حلّ الدولتين، والرفض المطلق لحلّ الدولة الواحدة ثنائيّة القوميّة.

إنّ دولة الاحتلال وفي سعيها المحموم للسيطرة الكاملة على أجزاءٍ كبيرةٍ من أراضي الضفّة الغربيّة (الضمّ الزاحف)، ورفضها الانسحاب إلى حدود عام 1967، حسب نصوص القرارات الدوليّة، ستعجل بالتأكيد من المواجهة القادمة ما بين الكيان الغاصب ومحور المقاومة ورأس حربته فصائل المقاومة الفلسطينية، التي عليها أن تكون مستعدّةً لما هو قادم.