هي بعض حقائق أثبتها نضال شعبنا على مدار عقود الصراع مع المشروع الصهيوني وكيانه، منذ ما يزيد على القرن، ولكن لبعض النخب السياسية فكانت خاضعة للنقاش بل وللتشكيك، وحتى الأن في معمعان معركة طوفان الأقصى، والوضوح الساطع لتلك الحقائق، هناك مَنْ يشكك بها.
الحقيقة الأولى: صراع وجود
أن الصراع صراع وجود لا نزاعاً حول قضايا معلقة كما اعتبرتها اتفاقيات أوسلو، فأدخلت الوعي الوطني في سرداب التشويه والتمييع: الحدود، المستوطنات، القدس ، اللاجئين، والترتيبات الأمنية. نقاشات حول مراحل تنفيذ الاتفاقية أشغلت الفكر السياسي لفريق اوسلو نقاشاً طوال أكثر من 25 عاماً رغم أن الكيان استباح كل بنود الاتفاقية، فيما أبقي منها ما يتفق وتوسعيته وحساباته الأمنية ورؤيته الاستراتيجية: الدور الأمني الوطيفي للسلطة وملحقها التنسيق الأمني، استباحة مناطق السلطة المصنفة A، والتبعية الاقتصادية حد الإلحاق الكامل بالاقتصاد الصهيونية.
معركة طوفان الأقصى أعادت الصراع من جديد لجذوره التي يعرفها شعبنا جيداً: لا تعايش مطلقاً مع المشروع الصهيوني وكيانه العنصريي فالصراع على الوجود، إما شعبنا بهويته وكيانه المأمول فوق وطنه المحرر، وإما المشروع التوسعي الصهيوني الاستيطاني، وعليه لا (حل للقضية الوطنية) إلا بتفكيك المشروع بكل تعبيراته، الدولانية والمؤسساتية والديموغرافية الاستيطانية. كل ممارسات الصهاينة الوحشية وتصريحاتهم العنصرية حول شعبنا، تؤكد أن هدفهم تصفية وجود شعبنا كشعب عبر الابادة الجماعية، وبالحد الأدنى ترحيله. إنهم يعتبرونه ايضاً صراع وجود.
الحقيقة الثانية: معسكر الأعداء والأصدقاء
الأنظمة العربية الرجعية، أو ما يصطلح عليه تلطيفاً بالنظام الرسمي، هو في حقيقته اختار الاصطفاف في موقعه الذي طالما حددته القوى الثورية الفلسطينية، معسكر الأعداء. إن الشعار التاريخي لليمين الفلسطيني، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للأنطة العربية، لم ينتج عنه سوى تدخلها هي في الشؤون الفلسطينية، واستمرار لعبها دوراً تآمرياً، علماً ان هذا الشعار بالعادة لم يرفع إلا في وجه الانظمة الوطنية، كالنظام السوري، في وقت كان هذا اليمين يوغل بالعلاقة مع أنظمة التطبيع والمعاهدات والاتفاقيات المشتركة مع الكيان.
حتى في أقصى مراحل العدوان الصهيوني على القطاع حتى اللحظة، لم يتجرأ نظام عربي واحد من أنظمة التطبيع أو المعاهدات والاتفاقيات المشتركة من إغلاق سفارة العدو، أو طرد السفير، هذا إن لم نقل إلغاء الاتفاقيات والمعاهدات مع الكيان. بعض تلك الأنظمة تربطها بالكيان علاقات تعاون أمنية واستخبارية وعسكرية مشتركة، وحتى مناورات وتدريبات مشتركة. بالمقابل أثبتت الشعوب أنها الرهان الصحيح الذي طالما عولنا عليه، وقد اثبتت استحقاقها لهذا الرهان بنزولها لميدان الاحتجاج والتظاهر، والمطالبة بإغلاق سفارات العدو وبفتح الحدوجد للقتال مع شعبنا.
على المقلب الآخر فمعركة الطوفان مسحت أية مساحيق كاذبة تغطي الوجه الحقيقي للامبرياليات الغربية، الأمريكية والأوروبية. إنها ليست فقط (متفهمة) لحق (إسرائيل بالدفاع عن النفس)، وكأن للمستعمِر المجرم حق الدفاع عن نفسه! بل تشاركها العدوان ببارجاتها الحربية ومستشاريها وجنودها وخبرائها ومعلوماتها الاستخبارية. لقد مُسحت مساحيق التجميل تماماً عن وجه الإمبريالية الحقير، في فرنسا وبريطانيا والمانيا وأمريكا، فما عادت بضاعتهم الفاسدة، الديموقراطية وحقوق الإنسان والحق في التعبير، تنطلي على أحد، بعد أن كانت الهراوات وقنابل الغاز والاعتقالات تطال كل مَنْ يحتج على بربرية الصهاينة وداعميهم. إنها الفاشية الجديدة في أوروبا دون رتوش مهما حاولت إخفاء وجهها القبيح.
الحقيقة الثالثة: محور المقاومة
لم يخذل هذا المحور رهانات شعبنا والشعوب العربية عليه، والهتاف الذي تردد في المسيرات والتحشدات في مدن فلسطين (هي يلله هي يلله، يا نصرالله إضرب يلله) وجد آذاناً صاغية. فالتدرج في الفعل المقاوم في جنوب لبنان تجاه الصهاينة بيّن تماماً، فمن الصواريخ الموجهة ضد الدبابات والآليات، إلى قنص كاميرات المراقبة وأبراج التجسس، وصولاً إلى قصف المستوطنات بالرشاشات. إذا كان من الطبيعي ان تناشد الشعوب قوى المقاومة بمزيد من الرد على جرائم العدو لإثخان جنوده ومستوطنيه على قاعدة الثقة بالمقاومة ومحورها، وبما يفتح جبهة ثانية ضد العدو، غير أن من الطبيعي أيضاً الأخذ بالاعتبار ما تقرره حسابات غرفة العمليات المشتركة الفلسطينية اللبنانية للمقاومة، والتي أكدت مصادر جريدة الأخبار وجودها. إن هذا الموقف المناشد لقوى المقاومة كتعبير عن رغبة جامحة لشعبنا والشعوب العربية والإسلامية بتطوير المشاركة الميدانية في القتال، يفترق بطبيعة الحال عن الأصوات المستسلمة والطائفية التي تنبري هنا وهناك مشككة بالمقاومة والمحور، تحديداً من باب المزاودة لإضعاف الثقة بالمحور، وبالتالي للتشكيك بخيار المقاومة.
إن دخول المقاومة العراقية بضرب معسكرات الأمريكيين، وكذا الصواريخ المنطلقة من اليمن باتجاه الكيان، كل هذا، إضافة لجبهة المقاومنة اللبنانية، يؤكد حقيقة أن محور المقاومة حقيقة واقعية تسند مقاومة شعبنا بالمشاركة فعلياً، فالصراع مع الكيان أكد من جديد تلك الحقيقة.
الحقيقة الرابعة: المقاومة وفقط
هذا الانحياز لخيار المقاومة، من كافة قطاعات شعبنا ومن الشعوب العربية في الشوارع، وحتى من اهلنا في القطاع، ورغم المجازر، يؤكد من جديد حقيقة الانحياز لخيار المقاومة. صدق الشهيد الراحل باسل الأعرج: المقاومة جدوى مستمرة. لا جدوى سواها. لقد أهالت معركة طوفان الأقصى التراب على ما تبقى من أوهام التسوية السياسية مع الصهاينة، فما تبقى سوى الفريق المعزول القابع في مقاطعة رام الله مدافعاً عن خياراته البائسة، فريق أوسلو، علماً أنه لا يدافع إلا عن امتيازاته التي يوفرها موقعه في السلطة وعلاقته مع الكيان.
وما عزز خيار المقاومة أنه ثبت وبالقطع يوم 7 أوكتوبر أنه يمكن هزويمة جيشهم (الذي لا يُقهر)، لا بل إذلاله أمام مستوطني الكيان والعالم، وباعتراف سياسييه وقواد جيشه وأجهزته الأمنية. لم تعد امكانية هزيمة العدو حلم وأمنيات، بل حقيقة فعلية تجسّدت على الأرض، ولم يعد هتاف المسيرات في الشوارع ( يا مقاوم يلله يلله إخطف جندي وحرر أسرى) مطلباً ملحاً لأهالي الأسرى بل حقيقة بوجود مئات الأسرى لدى المقاومة.
الحقيقة الخامسة: وحدة المقاومين ومنظمة التحرير
أمام وحدة المقاومين في الضفة و غزة ولبنان وتهميش البنى المؤسساتية المتكلسة، ما عاد للشعار المكرور البائس (استعادة وحدة منظمة التحرير) قيمة فقد اندحر نهائياً. إندحر باعتباره تعبيراً عن الرغبة بوحدة بين مقاومين ومستسلمين دون اشتراطات تعيد المنظمة لسكتها كحركة تحرر وطني. لم تندحر منظمة التحرير كإطار ينبغي أن يكون حاضنة جبهوية موحّدة لكل القوى المقاومة، باستعادة الميثاق الوطني الذي شطبه عرفات نزولاً عن طلب بيرس ورابين في العام 1994، وبتأكيد خيار المقاومة واسقاط أوسلو، وبتغيير جدي لقيادة المنظمة غير المؤتمنة على حقوق شعبنا ونضاله.
على هذا الصعيد تغيرات جوهرية حدثت في الخارطة السياسية الفلسطينية، فالكلمة الفصل للمقاومة والاندثار نهائياً لخط التسوية السياسية، والصيغة الأكثر نجاعة هي وحدة المقاومين لا صيغة الهياكل البيروقراطية منتهية الصلاحية، هياكل المنظمة. ومع ذلك ينبغي تأكيد أن صيغة وحدة المقاومين في إطار جبهوي حقيقي، ينبغي أن تنشأ على قاعدة ديموقراطية لا إقصائية، تشاركية لا تفردية، فتلك هي العلاقة التي تفجر الطاقات فوق توحيدها عبر العمل المشترك.