Menu

الإبادة الجماعية والحرب على الوعي

خاص - بوابة الهدف

 

 

كتب عارف عرفات*

 

    على وقع وأحداث الحرب العدوانية المدمرة التي تشن على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة منذ أكثر من سبعين عاماً, وفي ظل المشاهد المروعة من عمليات الإبادة الجماعية من قتل "يطال كل الأجيال الفلسطينية من الشيوخ والشباب والنساء والأطفال والرضّع" وتلك المشاهد المفزعة لعمليات التدمير الممنهجة لكل البنى التحتية والمرافق العامة من كهرباء ومياه وطاقة، وضرب المستشفيات، والمراكز الصحية المختلفة وحرمان السكان من أي مستلزمات طبية للعلاج، واستهداف الأحياء السكنية بالصواريخ الفراغية وأقوى القنابل المدمرة القادمة من الولايات المتحدة الأميركية مباشرة، الأمر الذي أدى إلى تدمير أكثر من سبعين بالمئة من الوحدات السكنية في القطاع ولا يكتفي بذلك، إنما يطلب ويرغم السكان على ترك مساكنهم إلى الهجرة نحو جنوب غزة لفرض سياسة التهجير القسرية، ووسط هذا الركام ودوي المدافع والقنابل يموت الآلاف ويشرد مئات الآلاف في العراء على الطريق.

   على وقع هذه الحرب المدمرة والإبادة الجماعية الممنهجة سياسياً وميدانياً ومعايشة أهوالها التي فاقت أهوال الحرب العالمية الثانية، حيث لم تتعرض باريس ولا برلين لمثل هذه الإبادة أو التدمير، سيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الأهوال قد تجمعت في بقعة جغرافية أصغر من كثير من عواصم العالم، وبها كثافة سكانية تفوق أي بقعة بالعالم.
 

أسئلة الواقع

    على وقع هذه المشاهد تنتصب مئات الأسئلة التي تحاول أن تفسر ما يحدث، هل هذه حرب؟ وتخضع لقوانين الحرب؟ أم هي إبادة وتطهير وإزالة للإنسان والحجر والشجر؟ ولماذا هذه الإبادة الجماعية؟ وهل الإبادة الجماعية هي من آليات الدفاع عن النفس وضمن منطق الحروب الدفاعية أو الهجومية؟ وهل الدفاع عن النفس يحتاج إلى إبادة جماعية كي ينتصر المدافع أو المهاجم؟

   وهل هذه الإبادة الجماعية الغير مسبوقة في التاريخ الحديث كان هدفها ولم يزل هو الرد على عملية طوفان الأقصى؟ أو استرجاع أسرى الجيش الإسرائيلي والمحتجزين المدنيين؟ أو استئصال وتدمير حركة حماس وإزالتها عن المشهد الغزاوي؟ وهل هذه الإبادة الجماعية هدفها الداخلي إعادة هيبة ومكانة قوة الردع الإسرائيلي؟

   من السذاجة السياسية، والتحليلية الوصول إلى أن هذا المسار لعمليات الإبادة الجماعية بكل أهوالها وتفاصيلها تندرج تحت هذه الأهداف الإسرائيلية المعلنة، ومن غير المنطقي أيضاً أن يكون الكيان مستعداً لدفع الأثمان العالية لتحقيق هذه الأهداف المعلنة من جنوده وآلياته واقتصاده، وترحيل مئات الآلاف من سكان الشمال والجنوب وتحمله لخسائر الرأي العام العالمي، وازدياد منسوب خلافاته السياسية والمجتمعية، وازدياد الهجرة المعاكسة.

   كان بإمكان الكيان أن يحقق الكثير من هذه الأهداف دون الإبادة الجماعية, وكان بإمكانه أن يسترد أسراه بعملية سياسية "صفقة تبادل" مقابل أسرى فلسطينيين، دون أن يتكلف هذه الخسارة، ودون أن تنكشف حالة وضعف قوة الردع الإسرائيلي في الميدان كما هو الآن في المعركة البرية، ودون أن ينكشف أنه بدون الولايات المتحدة لا يمكن أن يعيش أو يستمر، وكان بإمكانه بعملية عسكرية محدودة أن يفاوض ويصل إلى هدنة قصيرة أو طويلة يحد من تكرار طوفان الأقصى بضمانات الوسطاء وقوى دولية أي أنه كان لديه خيارات أقل تكلفة، ولكنه لجأ إلى الإبادة الجماعية.

 

الإبادة الجماعية – عقيدة الوجود

   إن حرب الإبادة الجماعية هي سر الوجود، هي سر العقل الاستراتيجي الذي أنشأ اللبنات الأولى لإقامة الكيان، وإنها سر العقلية السياسية التي تمتعت بها كل الزعامات الاسرائيلية الصهيونية والمنظمات الصهيونية المقاتلة من ليحي وشتيرن والهاجاناة وإرغون إلخ... هذا السر المعلن والمبطن الذي ينطوي على فكرة التطهير العرقي واقتلاع السكان الأصليين.

   إن الإبادة الجماعية هي الوراثة الفكرية التي توارثتها زعامات اليوم من السلف الصهيوني القادم من الغرب الاستعماري وحاملة فكره، وهي التأصيل والممارسة العملية لفكرة البقاء اليهودي – الصهيوني على أرض الغير، وهي فكرة تصحيح كفة الميزان الديمغرافي لصالح السكان اليهود عبر إفراغ جغرافيا فلسطين من سكانها بالقتل والتهجير والإبادة.

   إن سياسة التطهير العرقي "القتل والتدمير للمدن والقرى" التي اعتمدها رسمياً قدامى زعماء الحركة الصهيونية في (14 مارس عام 1948) على يد أحد عشر رجلاً من قادة واحتياط عسكريين وعلى رأسهم بن غوريون، في مبنى "البيت الأحمر" والتي تتمحور بإثارة رعب واسع النطاق أولاً، ثم الحصار وقصف المدن والمراكز السكانية، ثم حرق المنازل والأملاك والمؤسسات، ثم محاولة الطرد والتهجير ومنع عودة السكان، كانت سياسة ممنهجة ورسمية ومتمرحلة، مع نشأة الكيان، وهذه الساسة اليوم هي ذاتها منهجياً بصورة أكثر بشاعة وأشد هولاً عبر  الإبادة الجماعية.

  وإذا كانت الإبادة الجماعية تشكل هدفاً سياسياً وميدانياً لهذه الحرب العدوانية اليوم, فهي في الحقيقة تحولت إلى وظيفة تاريخية استراتيجية في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي الاستئصالي لكل شيء.

   فالكيان يدرك أن الإبادة الجماعية قد لا تقضي على الشعب الفلسطيني بالضربة القاضية في ظروف ربما تكون مجافية، لكنه يريدها أن تؤدي وظيفة استئصال الوعي الوطني بكل مظاهره، يريدها أن توصل البيئة الشعبية المقاومة إلى يقين بأن المقاومة والتحرير هي الاستحالة أمام قوة الكيان وجبروته، كما يريدها أن تكون صادمة للوعي ليس الوعي الفلسطيني فحسب، إنما لوعي العربي قبل الفلسطيني، ولعل هذا الخذلان العربي هو الاستجابة الموضوعية لاستحقاق الإبادة والقوة المدمرة لدى الكيان، ونمو الانهزامية العربية أمام هذا الجبروت  الصهيوني.

    إذن نحن أمام حرب الوعي، حرب من طبيعة مختلفة، لا تبحث عن هزيمة الخصم واستسلامه عبر هزيمة الجيوش واختراق الحدود وفرض الاستسلام، إنما تبحث عن هزيمة الخصم في يقينياته وإيمانه بقضيته، وتغيير فكره ووعيه وهويته وثقافته التي تشكل بمجملها عوامل وأدوات التمسك بالقضية والحفاظ على ديمومتها.

 

دور الإبادة الجماعية في خلق أيديولوجيا جديدة

   إن معادلة حرب الوعي لدى الكيان تفترض "بقدر ما تقتل وتدمر وبقدر ما تبيد وتشرد وتهجر لدى الخصم الفلسطيني، فالوعي الوطني عنده يتناقص تباعاً، ويفقد هويته حاملة مشروعه الوطني" 

   هكذا فكر موشيه يعلون وزير الدفاع الإسرائيلي السابق إبان الانتفاضة الثانية حين أطلق تصريحه بضرورة "كي الوعي الفلسطيني" وهكذا اليوم يقوم الاحتلال بممارسة الإبادة الجماعية، في محاول لاستئصال الطموحات الوطنية، ووضع حداً لأي آمال أو طموحات وطنية عربية فلسطينية في إقامة كيان فلسطيني على أرض فلسطين.

   وعليه لا يمكن فصل عمليات الإبادة الجماعية عن فكرة إفقاد الوعي عند الفلسطيني عبر "الكي" أو "التهويد" والعمليات الممنهجة للتغيير الأيديولوجي والثقافي، واستبداله بأيدلوجيا "معتدلة" مسكونة بالهزيمة والصدمات التاريخية، تقبل بالواقع الإسرائيلي كأقلية سكانية في كيان إسرائيلي خالص الهوية اليهودية، والأخذ بنموذج ألمانيا النازية التي استسلمت وغيرت من ثقافتها وأيدلوجيتها لجهة القبول بالتبعية للغرب الإمبريالي كما هو حاصل اليوم، و كذلك نموذج اليابان الإمبراطورية التي لم تزل تعاني سايكولوجياً وثقافياً من تبعات هيروشيما ونجازاكي، وتغيرت ثقافتها وأيدلوجيتها تحت وقع الصدمة والدمار والهزيمة.

   وفق هذا التصور تصاغ الاستراتيجيات السياسية الأمريكية الإسرائيلية لما يسمى اليوم التالي، ما بعد انتهاء الحرب، والبحث عن حلول دائمة لقطاع غزة، حيث تؤكد ورقة السياسات الصادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية تحت عنوان "خيارات التوجيه السياسي للسكان المدنيين في قطاع غزة" على "أهمية خلق تغيير أيديولوجي وصوغ سردية مختلفة جديدة، تلعب فيها المناهج التعليمية والسياسية على جيل كامل من الشعب الفلسطيني دوراً محورياً من تغيير الوعي والهوية، والثقافة، وأسرلة الوعي بعيداً عن الهوية العربية، وبعيداً عن البيئة العربية التي تخاذل حكامها في نصرة قضية فلسطين".

   تلك هي معركة الوعي التي تمارس على شعبنا وعلى الأنظمة الحاكمة، وعلى شعوبها بمختلف الأساليب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

   بيد أن هذه حرب،  وهذه مخططات واستراتيجيات الكيان وداعميه، تقابلها هوية متجذرة وثقافة راسخة عبر التاريخ، صامدة أمام عمليات الإبادة والقتل والتدمير، وهذه حرب وسياسات واستراتيجيات لا يعني نجاحها مع شعب أثبت جذريته في مواجهة هذا الكيان وقبله من الأعداء.

*كاتب فلسطيني