Menu

تهجير مقابل تهجير

خاص - بوابة الهدف

 

كتب علي زيدان*

دأب مُجرمو الحرب الصهاينة، كبارهم وصغارهم، على المطالبة بتهجير الفلسطينيين وطردهم من أرضهم، والعمل على تحقيق ذلك الحلم الوهمي بكل السُبل وبدعم مطلق من الراعي الأميركي. وقد اشتدت هذه الحملة بعد عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين أول / أكتوبر 2023، وخلال حرب الإبادة على قطاع غزة. وكان هذا التوجه، أي تهجير الفلسطينيين من أرضهم، دَيْدَن الحركة الصهيونية منذ بداية المشروع الإستيطاني في فلسطين منذ أوائل القرن العشرين. اليوم، وفي خضم حرب الإبادة الإجرامية، يتم حشر مئات الألوف من الفلسطينيين المدنيين العزل في منطقة رفح، في محاولة لتهجيرهم بالقوة تحت وطأة المجازر المستمرة، نحو صحراء سيناء المصرية، بالإضافة إلى منع الغذاء والدواء. وذكرت مصادر مختلفة أن مصر بدأت تمهيد منطقة صحراوية وحمايتها بأسوار عالية بحيث يمكن استخدامها كخطة طارئة لإيواء لاجئين فلسطينيين من رفح إذا دعت الحاجة[1]. وبالرغم من الأصوات الخجولة التي ترتفع هنا وهناك، إلا أن الصمت الواضح والمُريب يُشكك في وجود تواطآت مريبة، تعطي الفرصة للكيان الصهيوني بالتمادي بجرائم الإبادة التي يُمارسها على مدار الساعة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.

بالأمس، في عام 1948، عام النكبة، تم تهجير مئات الألوف من الفلسطينيين من بيوتهم، بمساعدة الدول ذات الإرث الاستعماري البغيض، وفي مقدمها بريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة الأميركية. وتم تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، تحت ذريعة التعاطف بسبب المحارق النازية، مما أدى إلى نشوء دولة الكيان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإحلال شعب تم تجميعه من دول مختلفة مكان الشعب الفلسطيني الذي يمتلك تلك الأرض. وعلى هذا الأساس نشأ الكيان الصهيوني وفق معادلة الهجرة والتهجير. أي، هجرة اليهود إلى فلسطين، واختراع الشعب اليهودي وتحويله إلى قومية بدون تاريخ ولا تراث، وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وتحويلهم إلى لاجئين مشردين في الدول العربية المجاورة، ودول أخرى كثيرة حول العالم. ونشأت على هذا الأساس وكالة الأونروا لترعى شؤون اللاجئين الفلسطينيين إلى حين عودتهم إلى ديارهم الأصلية. وبذلك أصبحت وكالة الأونروا الشاهد التاريخي الحي، على الجريمة الأصلية، وعلى الجرائم الصهيونية المستمرة إلى اليوم. غير أن هذه المعادلة النازية، تغيرت إلى غير رجعة بعد عملية طوفان الأقصى، بفضل صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، وصمود المقاومة في فلسطين وتصاعد دور القوى المساندة في لبنان وبعض المناطق العربية المجاورة، وصارت تهجير مقابل تهجير. وبالرغم من الفوارق العددية، والتسليحية، إلا أنه من المتوقع أن تزداد الهجرة اليهودية المعاكسة من الكيان الصهيوني مع استمرار أعمال المقاومة. وسوف يتأكد المهاجرون إلى فلسطين، أنهم لن يستطيعوا إكمال حياتهم في منازل الفلسطينيين وأراضيهم بعد اليوم. وأنه لن يكون هناك مزيدٌ من اللبن والعسل على هذه الأرض المغتصبة. بل هناك رصاص، وصواريخ، وأسر، وموت، وإصرار شعب ما زال متمسكاً بأرضه رغم مرور السنين، وعزمه على العودة. بعد معركة طوفان الأقصى، بتنا نرى أعداداً لا يُستهان بها من المستوطنين الصهاينة في شمال فلسطين، قريباً من الحدود اللبنانية، أو من المستوطنات في محيط غزة، قد هُجّروا من مستوطناتهم هرباً من ضربات المقاومة الفلسطينية واللبنانية. وصُرنا نسمع مجرمي الحرب الصهاينة يطالبون بعودة المُهجرين من المستوطنات الصهيونية في شمال فلسطين إلى بيوتهم، وينتظرون انتهاء الأعمال الحربية في قطاع غزة لإعادة المُهَجرين إلى مستوطنات غلاف غزة. وصرنا نرى مبعوثي الكيان الصهيوني من الأوروبيين والأميركيين، على حد سواء، يأتون إلى لبنان حاملين رسائل التهديد ما لم تتوقف أعمال المقاومة الداعمة لغزة. لقد بات موضوع تهجير المستوطنين الصهاينة من المواضيع الضاغطة على حكومة الكيان المجرمة لما لها من تأثير على كافة الجوانب السياسية والإقتصادية والإجتماعية، خصوصاً أن الأعداد في تزايد مستمر. ووفقاً للتقارير التي تنشرها الصحف المحلية[2]، فقد جرى إخلاء نحو 105 مستوطنات، بأوامر من جيش الاحتلال، واعتبارها مناطق عسكرية مغلقة ومحظورة. معظم هذه المستوطنات تقع على بعد يتفاوت بين 2 و 7 كم من الحدود اللبنانية ومحيط قطاع غزة، ومن بينها كريات شمونة في الشمال وسديروت في الجنوب. وهكذا تم تهجير أكثر من 200,000 مستوطن صهيوني، إلى مناطق داخلية بعيدة نسبياً عن خطوط القتال، وتم نقلهم في باصات مريحة. أيضاً، تم إسكانهم في فنادق وشقق سكنية ومنتجعات سياحية. غير أن الخوف والذعر والرعب ما زال يُسيطر على تفكيرهم، ويطالبون حكومتهم النازية بتوفير حماية أقوى لهم، غير آبهين بالأرض وما عليها. وبات الكثير منهم يشعر بعدم الأمان وأن لا مستقبل لهم على هذه الأرض، التي يستميت أصحابها الأصليون بالدفاع عنها والتمسك بها، وأن الأجيال التي تقاتلهم اليوم، هي أكثر تشدداً وتمسكاً بالأرض دون أن تنسى جرائم المحتلين، كما وعد مجرمو الحرب الأوائل[3]. ومن المتوقع أن يزيد عدد المُهجّرين الصهاينة في حال توسع نطاق العمليات في جنوب لبنان. ويُمكن القول أن يوم 7 تشرين أول / أكتوبر 2023 أصبح يُشكل نقطة تحول في مجريات الصراع الصهيوني – الفلسطيني، وعلامة فارقة في مصير الكيان أيضاً. خصوصاً وأن التهجير في الداخل رافقه هروب إلى الخارج، وهجرة مُعاكسة. هذا الكيان الذي قام على استجلاب المهاجرين من أنحاء المعمورة، بدأ يَشهد هجرة عكسية إلى الدول الغربية وخاصة إلى الولايات المتحدة وكندا. لقد شهدت مطارات الكيان مغادرة أعداد كبيرة من المستوطنين إلى الخارج منذ بداية الحرب. وقد أظهرت بعض البيانات الصادرة[4] عن هيئة السكان والهجرة الصهيونية أن ما يقرب من نصف مليون (470000) مستوطن غادروا الكيان الصهيوني منذ 7 أكتوبر، وليس من الواضح ما إذا كانوا سيعودون أم لا. بينما لجأ أكثر من 2500 مستوطن إلى قبرص[5]. وبالرغم من أن الكيان الصهيوني يُعارض فكرة مغادرة المستوطنين بيوتهم[6]، إلا أن الاستطلاعات أظهرت[7] أن أكثر من ربع الصهاينة المستوطنين يُفكرون في مغادرة البلاد خصوصاً بعد إقرار قوانين الإصلاح القضائي المثيرة للانقسام، وصعود أحزاب اليمين الديني العنصرية والمتطرفة. وتُشير البيانات أيضاً، إلى إنخفاض كبير في عدد اليهود المهاجرين إلى الكيان الصهيوني، حيث شكل عدد القادمين الجدد إلى فلسطين أقل من 1% من عدد الصهاينة الذين غادروا، أي إلى أقل من 2000 مهاجر يهودي. وقد ذكرت بعض التقارير الصهيونية[8] أن هناك مجموعة محلية جديدة تُطلق على نفسها اسم "نغادر البلاد معاً" هدفها العمل لتسهيل هجرة اليهود إلى الولايات المتحدة، بسبب تفاقم الانقسامات السياسية والإخفاقات الأمنية والاستخبارية، بينما تُخطط، هذه المجموعة، لنقل آلاف اليهود على مراحل، عِلماً أن من بين قادتها رجال أعمال نشطوا في الماضي في جلب المهاجرين اليهود إلى فلسطين. ليس ذلك فحسب، بل أن الهجرة المعاكسة شملت، أيضاً، آلاف العمال الأجانب واللاجئين والدبلوماسيين الذين غادروا البلاد. فقد ذكرت بعض التقارير الصحفية[9] أن أكثر من 17 ألف عامل أجنبي غادروا الكيان منذ 7 تشرين أول/ أكتوبر، وقد ترافق ذلك مع منع أكثر من 85 ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية، حيث أدى هذا الوضع إلى نقص شديد في اليد العاملة بلغ نحو 100000 عامل، مما أدى إلى شلل بعض القطاعات مثل الزراعة، والبناء، والتمريض، وترك آثاراً سلبية على الاقتصاد الصهيوني. وهكذا، انقلبت المعادلة من هجرة وتهجير، إلى تهجير مقابل تهجير. غير أن هذه المعادلة لم تصل إلى نهايتها بعد، بالرغم من تصاعدها المستمر، وعوامل أخرى أهمها توازن القوى. ففي الوقت الذي تم تهجير أكثر من مليون ونصف فلسطيني في قطاع غزة، من بيوتهم، وتدمير البيوت والمدارس والمستشفيات والطرق والبنى التحتية بالأسلحة الأميركية الفتاكة، ومنع الدواء والغذاء والوقود، ظل الفلسطينيون متمسكين بأرضهم، وسكنوا في خيام لا تَقيهم برد الشتاء ولا غزارة المطر. وقاوموا الجوع والعطش كي يبقوا في أرضهم. وفي الجنوب اللبناني، نزح آلاف اللبنانيين من قراهم الحدودية إلى مناطق آمنة داخل لبنان. غير أن المعادلة في لبنان مختلفة، بسبب قدرة المقاومة في لبنان على ضرب المدن والمستوطنات في عمق الكيان الصهيوني، وتهجير المزيد من المستوطنين.  

لقد كشفت حرب الإباة الإجرامية التي يشنها الكيان النازي الصهيوني بوضوح عمق العلاقات الاستعمارية بينه وبين الدول الغربية ذات الإرث الاستعماري البغيض. وقد تبين أن معظم الذين غادروا الكيان[10] منذ بداية هذه الحرب القذرة هم من مزدوجي الجنسية. ووفقاً لبعض المعلومات[11] فقد حصل أكثر من مليون يهودي مستوطن على جنسية مزدوجة في العقدين الماضيين، وغالباً ما تكون أوروبية أو أميركية، استعداداً للمغادرة حين تستدعي الحاجة، أو في حالة انهيار الكيان. وقد ساعدت العديد من الدول الأوروبية على إجلاء مواطنيها خلال الحرب، بينما قامت الولايات المتحدة نفسها بإجلاء ما لا يقل عن 20 ألف أميركي من مستوطنات غلاف غزة في الأسبوع الأول من الحرب. كذلك، أرسلت الولايات المتحدة، وعدة دول غربية أخرى، قوات خاصة إلى الكيان الصهيوني[12] للمساعدة في إنقاذ الأسرى، خاصة وأن العديد منهم يحملون جوازات سفر أجنبية من 25 دولة، أو دعم عملية إجلاء كبيرة مُحتملة لمواطنيهم من فلسطين المحتلة أو لبنان. ووفقاً للبيت الأبيض، فإن هناك أميركيون بين الرهائن، بالإضافة إلى 13 في عداد المفقودين. بينما قتل أكثر من 31 أميركياً. لذلك، بتنا نرى الكثير من قادة الدول الأوروبية ومسؤولي الإدارة الأميركية النازية، يتباكون على مواطنيهم الذين قتلوا في المعارك الضارية داخل قطاع غزة، أو الأفراد الذين تم أسرهم هناك. وقبل أيام، شاهدنا الرئيس الفرنسي يذرف دموع التماسيح على بضعة فرنسيين قُتلوا في غزة. لماذا يُقتل فرنسيون أو أميركيون أو أوروبيون في غزة؟ سواء كانوا من المرتزقة أو القوات الرسمية، أو من المستوطنين فإنهم في خانة واحدة، خانة الأعداء. ومصيرهم واحد. يومياً، يتم قتل مئات المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية، بدم بارد، ودون أن يرمش جفن للقتلة، أو تتحرك مشاعر داعميهم النازيين في أوروبا والولايات المتحدة. يومياً تحدث أبشع المجازر بحق الفلسطينيين العزل، أثناء نزوحهم، أو سعيهم للبحث عن الماء أو الغذاء، أو اللجوء إلى مدارس الأونروا والمستشفيات. بينما الولايات المتحدة، التي تتفاخر بالأخلاق النازية، لا ترى ذلك الإجرام، وترفض وقف إطلاق النار وتمنع الدول من التعاطف الإنساني مع الضحايا. وعليه، ينبغي على أولئك النازيين أن يفهموا أن الدم الفلسطيني المسفوك ليس رخيصاً، بل غالي جداً. ولن يَذهب هَدراً. وسُيقابله دم المحتل، ومن يدعمه. وأن تهجير الفلسطيني من أرضه ينبغي أن يقابله تهجير المستوطنين من الأرض التي احتلوها. وكما ينادي مجرمو الحرب الصهاينة بالتهجير القسري أو الطوعي للفلسطينيين من أرضهم، ينبغي على قوى المقاومة في فلسطين ولبنان العمل الدائم على تذكير المستوطنين أن هذه الأرض ليست لهم، وحثهم على الهجرة الطوعية أو القسرية قبل فوات الأوان. وهذا يتطلب من قوى المقاومة في فلسطين ولبنان أن يوسعوا دائرة الإجلاء والتهجير لتشمل كافة الأراضي الفلسطينية المُحتلة، بحيث تبقى المعادلة تهجير مقابل تهجير. وحيث أن معظم المستوطنين الصهاينة قد تم جلبهم من دول أخرى، وقد تركوا بلادهم، وأتوا إلى فلسطين مُستعمِرين، ومُجرمي حرب، ينبغي أن يعودوا إلى البلاد التي أتوا منها كي يسلموا بأنفسهم. وقد تكون الآن الفرصة المناسبة لهم، ولرعاتهم، لإجلائهم بأقل كلفة ممكنة وقبل فوات الأوان. وإذا كان قادة الدول الغربية حريصين جداً على حياة المستوطنين، ربما يكون الحل المثالي، الآن، هو في إجلائهم أحياء إلى ديارهم الأصلية التي جاؤوا منها، والتخلي عن حلمهم الاستعماري في فلسطين، وترك البلاد لأهلها الأصليين.

 

*كاتب فلسطيني مقيم في لبنان

 

[1] https://thecradle.co/arabic/articles/msr-thdr-mntk-aal-hdod-ghz-ymkn-astkhdamha-layoaaa-lagyyn-flstynyyn

[2] https://www.timesofisrael.com/about-200000-israelis-internally-displaced-amid-ongoing-gaza-war-tensions-in-north/

[3] قالت غولدا مائير، رئيسة وزراء سابقة للكيان الصهيوني ومجرمة حرب من الدرجة الأولى: الكبار يموتون والصغار ينسون.

[4] https://thecradle.co/articles-id/14797

[5] https://www.reuters.com/world/cyprus-becomes-safe-haven-people-heading-leaving-israel-2023-10-12/

[6] https://forward.com/news/581271/israelis-leaving-country-war-safety-abroad/

[7] https://www.timesofisrael.com/28-of-israelis-considering-leaving-the-country-amid-judicial-upheaval-poll/

[8] https://www.middleeasteye.net/opinion/jews-leaving-israel-disillusion-long-time

[9] https://www.middleeastmonitor.com/20231128-official-over-17000-foreign-workers-left-israel-since-7-october/

[10] https://www.cbsnews.com/news/israel-hamas-war-dual-citizens-decide-to-stay/

[11] https://www.middleeasteye.net/opinion/jews-leaving-israel-disillusion-long-time

[12] https://www.timesofisrael.com/us-special-forces-said-deployed-to-help-israel-track-down-hostages-held-in-gaza/