Menu

حول مقولة (المسرحية) واستدخال الهزيمة

وسام رفيدي

خاص - بوابة الهدف

 

كتب وسام رفيدي*
 
في المركبة العمومية التي أقلتنا صبيحة الأحد، بعد ساعات قليلة من الرد الإيراني، افتتح أحد الركاب الحديث بالقول: "أما شو هذا الليلة؟ مسرحية على الأصول"، فقلت له وأنا النعاس يغالبني بعد ليلة لم ينم فيها احد في فلسطين، ودون أية رغبة في النقاش "بس الصهاينة أعلنوا عن صاروخين أصابوا قاعدتين في النقب، والخلايلة نشروا فيديو يوثق انفجار الصاروخين"، فلم يقتنع وقال: "يا راجل دشرك من هالحكي هذول الصاروخين لم يحفروا سوى متر في الأرض". وزاد السائق على هذه الفتوى الغريبة بالقول: "واضح انو اليهود أعطوا الإيرانيين الإحداثيات بالضبط وين يضربوا"، واضاف بلغة الواثق "المسرحية رتبوها مع بعض امريكا وإسرائيل وإيران و مصر والأردن". إلى هذا الحد من الفتاوى من مخرجي (المسرحية) لم يعد من الممكن التدخل في النقاش.

لم يكن غريباً أن ينبري البعض ليظهر عدم قناعته بجدية الرد الإيراني، فاتجاهات عديدة، سياسية وفكرية ودينية، ترى في إيران عدوها وليس الكيان، ولكن الغريب، وأنا أعترف هنا، أنني تفاجأت بحجم "المقتنعين" بالمسرحية، حتى غزت هذه المقولة صفحات شبكات التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، فوجب التوقف عندها.

 من يقف خلف هذا النمط من التفكير والفكر؟

أولاً: هناك بين بعض الأوساط من الناس، مَنْ لم يعتد أن يرى في السياسة سوى مؤامرات ومسرحيات، بدءاً من مؤامرة وضع آليات محددة لكيفية حكم العالم من قبل اليهود، كما وردت فيما سُمي "ببروتوكولات حكماء صهيوني"، والتي كشفت الثورة البلشفية انها من وضع المخابرات الروسية مطلع القرن، مروراً بالمغالاة في تصور مؤامرة "هيمنة اليهود على أوروبا وأمريكا" في تبرئة، برغم حسن النوايا، للسياسة الإمبريالية، الأمريكية والأوروبية، وكأنها سياسة "مسكينة" لا حول لها ولا قوة، تخضع للوبيات اليهودية، وصولاً اليوم الى "مسرحية الرد الإيراني".

هذا نمط من التفكير يستمرئ راحة العقل، في ظاهرة يمكن اعتبارها ظاهرة كسل دماغي، فلماذا يتعب صاحب المقولة هذه دماغه بالنظر في المعطيات والوقائع وعلاقاتها وترابطها، والمصالح المتشابكة للأطراف الفاعلة، إلى آخر ما يستلزمه التحليل السياسي من معطيات، فيكتفي بالقول "إنها مسرحية"، فيرتاح من "تعب البال" معتقداً أنه وجد ضالته، وبالنتيحة فنحن أمام قول يعتقد أنه يقول كل شيء، ولكنه لا يقول شيئاً ابداً، بل يقول ما يعبر عن جهل وبلادة ذهنية.

ثانياً: وهناك العداء تجاه الشيعة، بل وتكفيرهم، وهذا ينسحب على إيران وحزب الله. عداء غذّته عشرات السنين من التربية المدعومة بالمال والإعلام الخليجي لحرف الأنظار عن جرائم الامبريالية والكيان الصهيوني، باتجاه تأجيج العداء لإيران وحزب الله، بعدما كانت بوصلتهم الاتحاد السوفيتي والشيوعية لعشرات السنين.

كتب احد قادة هذا التيار، على صفحته يقول "أقصر وأبيخ مسرحية شاهدتها في حياتي" تعليقاً على الرد الإيراني.

 شبكات التواصل تعج بالعداء المذهبي/ الطائفي للشيعة، وهذا تالياً يقود للعداء لإيران وحزب الله واليمنيين والمقاومة العراقية، والتشكيك بكل ما يقومون به من دعم بالدم للقضية الوطنية الفلسطينية. هذا التيار الطائفي التكفيري العنصري لا يأخذ بالاعتبار، على الأقل من وجهة نظره الطائفية، أن الشيعة في إيران وحزب الله و العراق واليمن، هم مَنْ يدعمون السنة في القطاع في قتالهم للكيان، دعماً اعلنته وثمّنته بوضوح حماس والجهاد "السنيتين"، وكل قوى المقاومة.

ثالثاً: وهناك العداء السياسي المبدأي لمحور المقاومة، ومنها إيران، عداء تعلنه صراحة، وأحياناً خفية، أنظمة عربية متصهينة، تابعة، تتموضع في صف العداء للمقاومة وشعبنا، وتقدم خدماتها للكيان في حربه ضد شعبنا وبمختلف الوسائل، العسكرية والسياسية والتجارية، حتى اتضحت، لمن غطّى الغبش عينيه سابقاً، أن الحلف العربي الرسمي/ الصهيوني حقيقة واقعة ظهرت بوضوح في التصدي للرد الإيراني.

هذا اتجاه يملك قطاعاً واسعاً من الإعلام الممول خليجياً، مواقع وصحف وفضائيات تعج بالمغردين والمقالات والمتحدثين، وجميعهم يعزفون ذات المعزوفة: التشكيك في خيار المقاومة، واعتبار الرد الإيراني مسرحية، ومحسوب ومتفق عليه.

رابعاً: ورغم ان اقتحام 7 أكتوبر والصمود الاستثنائي، والعمليات الفدائية في قطاع غزة حتى اليوم، ورغم الإسناد بالدم الذي يبديه مقاتلو حزب الله ودحرهم لأوهام الصهاينة حول "منطقة عازلة" في الجنوب، ورغم ملاحم الصمود والمقاومة في بيروت عام 1982، والجنوب اللبناني 2000 و2006، ورغم تاريخ بطولة الجندي العربي في 1956 و1973، رغم كل ذلك يبدو أن ثقافة استدخال الهزيمة لدي البعض من العرب والمسلمين ما زالت سيدة الموقف. هذه أوساط تشكلت لديها عقدة من النقص تجاه الغربي، فلا ترى إمكانية لهزيمته ودحره ومقاومته، وبالنسبة لها هم كل شيء ونحن لا شيء، رغم ما سجلناه أعلاه من تاريخ مشرق في المقاومة والتحدي، وخاصة ما جرى ويجري في القطاع منذ 7 أكتوبر حتى اليوم، تجد تلك الأوساط تعبر عن ثقافتها المهزومة المستدخلة بالحديث عن (المسرحية).

واخيراً، يبدو ان محدودية الرد الإيراني، (وقد أعلن الإيرانييون انفسهم محدوديته، حتى اثناء قصف الكيان)، عزّز من انتشار مقولة "المسرحية"، وقد تعمق ذلك في الإعلان أن الإيرانيين أوصلوا للأمريكيين عبر الوسطاء الطبيعة المحدودة لردهم. تلك رسائل لا تعني مسرحة الحدث أو الاتفاق عليه مع الأمريكيين، تلك رسائل تعني ببساطة: أننا سنرد ولكننا لا نريد حرباً شاملاً، فالزموا ذلك الحد. هذا يمارس في عالم الصراعات، مورس ويمارس مثلاً في الاتصالات الروسية الأمريكية الأوروبية بشأن أوكرانيا، ويمارس اليوم عبر الموقف الإيراني المعلن: نحن رددنا، وإن ردت إسرائيل على ردنا، فسنرد بشكل اقوى. هذه الإعلانات بعيدة عن كونها "اتفاقات" بين أطراف المسرحية، بقدر ما هي رسائل سياسية تترجم لفعل العسكري.

الكل يلتقي عند الموقف الرافض للتوجه لحرب شاملة في المنطقة في المدى المنظور، إيران وأمريكا والنظام العربي الرسمي، كل حسب حساباته، وتلك ظاهرة طبيعية ايضاً في الصراعات، تلتقي التوجهات في لحظة دون إلتقاء الأهداف، لذلك فالخطوات محسوبة ومحدودة. ولذلك يتجه الجميع لتنظيم حسابات الردود ضمن منطق عدم الذهاب لحرب شاملة. إنها لحظة اشتباك مباشر، ولأول مرة تأتي الضربة من داخل إيران، وهذا بحد ذاته تغير مفصلي تاريخي، مع استمرار الاشتباك غير المباشر، عبر الدعم لقوى المقاومة في لبنان والعراق وغزة واليمن، وهذا ليس مخفياً ولا ينكره إلا طائفي أو معاد للمقاومة أو ببساطة ساذج.

صدق مَنْ قال: إذا كان ما جرى مسرحية، فان إيران اعتلت الخشبة ببطولة مطلقة، ونضيف، وما على العاجزين إلا لملمة عجزهم عن لعب دور حقيقي في "المسرحية".

 

*أكاديمي وباحث فلسطيني