Menu

طهران… لاهاي… والحرب

سعادة مصطفى ارشيد

كتب سعادة مصطفى إرشيد*


تزدحم الأحداث وتتوالى الاخبار من إيران ولاهاي لتنافس أخبار الحرب في غزة وتتسارع التفاصيل ويلتهب خيال رواد مواقع التواصل الاجتماعي وفرسان صحافة الإثارة مطلقين الأخبار والشائعات والتحليلات والسيناريوات حول ملابسات سقوط طائرة الرئيس الإيراني، وإذا كان سقوطها ناتجاً عن عملية اغتيال، أم انها بسبب سوء الأحوال الجوية. وهو الأمر الذي سيأخذ وقتاً طويلاً ليتضح، فيما إيران الدولة ذات المؤسسات القوية قادرة على أن تنتقل فيها السلطة بسلاسة وتدار شؤون الحياة على طبيعتها وفق الدستور وستجري انتخابات رئاسية سريعة في الموعد المحدد.
الخبر الثاني الشاغل هو الآتي من لاهاي وإثر إصدار مدّعي عام محكمة الجنايات الدولية مذكرات اعتقال بحق اثنين من قادة المقاومة وثالث من الجناح السياسي لحركة حماس، وكل من رئيس الوزراء ووزير الدفاع (الإسرائيليين)، الأمر الذي أثار حفيظة كل من تل ابيب وواشنطن اللتين لم تكونا من الموقعين على نظام المحكمة أصلاً. في تل أبيب لا زال رئيس الوزراء يمارس نفاقه أو انفصاله عن الواقع ويتبجّح بأن جيشه هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم. هذا فيما يرى العالم ويشاهد على مدار الساعة ما يرتكبه ذلك الجيش الأكثر إنسانية وأخلاقية من جرائم حرب وإبادة جماعية مثبتة بالصوت والصورة.
الإدارة الأميركية التي ترى أن إصدار مذكرات اعتقال بحق المسؤولين (الإسرائيليين) هو أمر شائن و(إسرائيل) تمارس حق الدفاع عن النفس، ستجد نفسها في وقت من الأوقات في موقع الاتهام نتيجة شراكتها ودفاعها عن جرائم الاحتلال ومحاولة إيجاد ذرائع لها وبسبب دعمها بالسلاح والسياسة لكل تلك الجرائم، هؤلاء الذين أصبحوا متّهمين ومطلوب اعتقالهم من قبل محكمة الجنايات الدولية بتهم ارتكاب جرائم الإبادة الجماعيّة وجرائم الحرب. هذه المحكمة التي سبق أن أيّدتها واشنطن عندما أصدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إنه النفاق بعينه وازدواجية المعايير.
السعودية ومعها دول أخرى تنتظر بفارغ الصبر القضاء على المقاومة التي ترى فيها نقيضاً لأنظمتها وتتطلّع إلى نهاية الحرب بهدف الشروع في التطبيع مع الاحتلال، ولكنها الآن قد تتأخر أكثر بسبب التناقض الذي سيحصل بين سعيها للزعامة العربية والإسلامية وتطبيعها مع مجرمي حرب مطلوبين للعدالة.
كان ازدحام الأخبار هذا وكأنه فرصة للاحتلال لمواصلة حربه من خلف دخان المعارك، في غزة وتحديداً في رفح، كما في الضفة الغربية مطلقاً أعلى ما لديه من فوائض القوة والتوحّش والدموية، في رفح اجتاح حتى الآن ثلثي المدينة وسط مقاومة عنيفة جديدة في تكتيكاتها، أربكته وأوقعت به الخسائر فيما غادر المدينة قرابة 800,000 من الذين لجأوا إليها في شهور الحرب الماضية، لم يستطع الاحتلال الزعم بأنه حقق إنجازاً عسكرياً في رفح، ولكن إنجازه في واقع الأمر هو في احتلال معبر رفح الذي يوصل ما بين غزة ومصر، وهو الأمر الذي يمكن قراءته من وجهتين: الوجهة الأولى أن غزة قد خرجت من ديكتاتورية الجغرافيا التي كانت تجعلها على الدوام أسيرة رحمة المصريين في السياسة أو في الأمن او في مؤسسة الفساد التي كانت تسلب أهل غزة أموالهم مقابل السماح لهم باجتياز المعبر بعد دفع رشى كبيرة، غير آبهة بظروف الحرب ولا بأوضاعهم الإنسانية. اما الوجهة الثانية فهي ان احتلال المعبر هو انتزاع للورقة الفلسطينية من يد الدبلوماسية المصرية وهي آخر أوراقها القوية والمستفيد حتى الآن من ذلك قطر وربما تركيا.
في الضفة الغربية يتصاعد العدوان يوماً بعد يوم باجتياحات الجيش واقتحاماته واغتيالاته واعتقالاته وبميليشيات المستوطنين التي أصبحت تحمل الصفة الرسمية وتعمل تحت مظلة وزارة الأمن الداخلي التي توزع عليهم السلاح وتحرّضهم على سرقة المحاصيل الزراعية والأغنام من الفلاحين الفلسطينيين.
الضفة الغربية تعيش اليوم أوقاتاً صعبة، فهي مقطعة الأوصال والطرق الخارجية ما بين المدن والمحافظات يسيطر عليها المستوطنون ويجعلون من اجتيازها خطراً على المسافرين. وفي صبيحة أول أمس الثلاثاء تمّ اجتياح جنين بقوة عسكرية قال الإعلام العبري إن قوامها يتجاوز الـ 1500 عنصر. وفي أول ربع ساعة من الاجتياح تمّ قتل سبعة مواطنين منهم الأطفال الذين كانوا في طريقهم الى مدارسهم والموظفون الذين كانوا يغادرون بيوتهم الى مكاتبهم والعمال الباحثون عن أرزاقهم وطبيب في ساحة المستشفى الحكومي لم يكن من بينهم مسلح او مقاوم وكل ذلك بدم بارد وبلا أي مبرر عسكري.
لم يعد (الإسرائيلي) يعمل وفق منظوماته القتالية القديمة التي كانت تعتمد على الحروب الخاطفة السريعة، وهو اليوم لا مانع لديه في أن تطول الحرب وتتوسّع جبهاتها خصوصاً مع لبنان. وهو الأمر الذي لا بدّ منه، فمن هناك يكمن الخطر الأكبر، وكما يرى كثير من (الاسرائيليين) أنّ المقاومة اللبنانية بإفراغها شمال فلسطين المحتلة من المستوطنين، فكأنها قد استلهمت التجربة الإسرائيلية القديمة عندما أنشأت الشريط الحدودي الذي سلمت قيادته لسعد حداد وانطوان لحد. فالشمال برأيهم اصبح منطقة عازلة بإرادة المقاومة اللبنانية، فهل نحن على موعد قريب مع الخروج من مربع المشاغلة والدخول في مربع الالتحام في حرب لا تقل ضراوة عن الحرب الدائرة اليوم في غزة؟

*كاتب سياسي فلسطيني