Menu

الوجه اليساري للمقاومة

راجي مهدي

"في كل عسكريات العالم هناك قاعدة أساسية تقول: القوة النظامية تُهزم إذا لم تنتصر، الجيش النظامي عندما يخوض معركة يُهزم إذا لم ينتصر، والقوة الثورية، ما يُطلق عليها الميليشيا، مقاتلو الغوار، سمها ما شئت، تنتصر إذا لم تُهزم، تنتصر إذا ظلت باقية، أنا استغرب واستهجن ممن يدعي أنه خريج مدرسة عسكرية ويأتي ليقول هزمنا المقاومة! في كل عسكريات العالم، لو جيش نظامي يحارب قوة غير نظامية، إذا لم ينتصر، لم يسجل ضربة قاضية، فقد هُزم".

أبو جمال – الناطق باسم كتائب الشهيد أبو علي مصطفى في تصريح سابق.

 الشهيد أبو علي مصطفى هو الأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد تم تسمية الذراع العسكري للجبهة باسمه بعد اغتياله في 27/08/2001 عندما استهدف العدو الصهيوني مكتبه في مدينة البيرة. وتعتبر الكتائب امتدادًا لقوات المقاومة الشعبية التي أطلقتها الجبهة مع انطلاق الانتفاضة الثانية عام 2000. كما تعد امتدادًا لمجموعات النسر الأحمر التي شكلتها الجبهة في الضفة الغربية وقطاع غزة مع انطلاق الانتفاضة الأولى. وقد جاء قرار الجبهة بتأسيس قوات المقاومة الشعبية بعد الضربات الأمنية الواسعة ضد تنظيماتها المسلحة بالتزامن مع تراجع الانتفاضة وبالتزامن مع أزمة مالية حادة عانت منها الجبهة. لكنها عادت وأطلقت عملية بناء ذراعها العسكري على أيدي مناضلين مثل كميل أبو حنيش الذي شغل موقع قائد الكتائب في منطقة نابلس ثم عموم شمال الضفة الغربية حتى أَسرِه عام 2002، ومنذر الحاج أحمد الأسير هو الآخر في سجون الاحتلال.

تتواجد الكتائب في الضفة الغربية كما في قطاع غزة، غير أن البنية التنظيمية في كلا النطاقين الجغرافيين مختلفة بسبب اختلاف الظروف السياسية، وقد ظهر هذا التمايز بعد خروج الاحتلال الصهيوني من قطاع غزة في 2005، حيث اعتمدت الجبهة تشكيلات عسكرية علنية تقسم القطاع إلى نطاقات جغرافية ثلاث: لواء الشمال ولواء الوسط ولواء رفح، وتضم أجهزة نوعية كالوحدتين الصاروخية والمدفعية وجهاز للاستخبارات. بينما في الضفة الغربية يقوم تنظيم الكتائب على أساس الخلايا السرية المرتبطة بشكل فضفاض مع قيادة مركزية تلاشت في بعض الأوقات تحت وطأة الضربات المزدوجة للجيش الصهيوني وأمن السلطة الفلسطينية. ويتولى دور المتحدث باسم الكتائب في الضفة وغزة الملثم "أبو جمال" المسؤول عن البلاغات العسكرية وإعلان مسؤولية الكتائب عن عمليات معينة تقوم بها.

تعمل كتائب أبوعلي مصطفى في الضفة تحت وطأة تحدٍّ مزدوج من السلطة الفلسطينية وجهاز أمنها الوقائي الذي التزم بموجب ملاحق التنسيق الأمني في اتفاقية أوسلو بقمع العمل المسلح ومطاردة الفصائل والجماعات ومنعها من شن هجمات على الجيش الصهيوني والمستوطنات، بالإضافة إلى التهديد المستمر من الجيش الصهيوني الذي يضع الجبهة الشعبية وتنظيمها العسكري على رأس قائمة الفصائل الفلسطينية المستهدفة بسبب شراسة الهجمات التي شنتها وما تزال تشنها على الاحتلال، وموقفها السياسي الجذري فيما يخص الحقوق الوطنية الفلسطينية، بالإضافة إلى رفضها الدائم تسليم سلاحها أو إيقاف المقاومة المسلحة كما حدث في 2005 و2007.

فقدت الجبهة وذراعها العسكري ظهيرها الداعم سياسيًا وعسكريًا مع انهيار الأنظمة القومية في العراق وليبيا، وانهيار اليمن الديمقراطي، وتراجع قدرات حلفاء سابقين كالحزب الشيوعي اللبناني ومعظم اليسار العربي. وباعتبار أن الجبهة لا زالت متمسكة بالماركسية وتسترشد بها كنظرية للعمل الثوري، فإنها تسبح في فضاء إقليمي معادٍ تمامًا، وإن كانت لها علاقات بالثورة الإيرانية والمقاومة اللبنانية توفر لها بعض الدعم اللوجيستي، لكنه أقل بكثير مما تتلقاه كتائب القسام وسرايا القدس ، الأذرع العسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي على الترتيب. انعكس غياب الدعم على ترسانة الأسلحة المتوفرة لدى كتائب أبو علي مصطفى، حيث تشمل السلاح الخفيف والصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى كصاروخ 107 بالإضافة إلى مجال مدفعية الهاون من العيارين الخفيف والثقيل، التي كان للجبهة مجال السبق فيها وتقوم بتصنيعها في ورشها الخاصة داخل قطاع غزة، حيث كان الشهيد معين المصري القيادي بكتائب أبو علي مصطفى في غزة هو أول من أطلق قذائف الهاون من القطاع في اتجاه مستعمرات الغلاف. بالإضافة إلى هذا يتوفر لدى الكتائب قاذف الآر بي جي المضاد للدروع والعبوات الناسفة محلية الصنع، وهي تستخدم بكثافة في الضفة الغربية ضد الاقتحامات المتواصلة التي يقوم بها العدو في الضفة. كما تظهر أحد نقاط الضعف الخطيرة في ضعف أداء الجهاز الإعلامي للكتائب في ظل تجاهل شبه تام من الإعلام السائد لدور الكتائب في الكفاح الفلسطيني المسلح.

على مستوى التعداد، ولظروف السرية، لا توجد بيانات فعلية عن حجم كتائب أبو علي مصطفى سواء في الضفة أو القطاع. كما أن القيادة العامة للكتائب التي كانت مسؤولية عاهد أبو غلمي حتى تم أسره صارت سرية تمامًا، ومعلوم أيضًا أن القيادة في منطقة الضفة كانت للشهيد يامن فرج ونائبه الشهيد أمجد مليطات اللذين استشهدا في 6 يوليو 2004 في نابلس جبل النار بعد مواجهة باسلة مع قوات العدو الصهيوني التي كانت تطاردهما. ويمكن القول إن الكتائب عمدت إلى السرية منذ التخلص من جيل الانتفاضة الثانية بالأسر أو الاغتيال من قبل السلطة والاحتلال. وقد تعرضت الجبهة في الضفة لقمع شديد خلال الانتفاضة الثانية، فقدت خلاله عددًا غير قليل من كوادرها القياديين، يمكن ذكر بعض الأمثلة، مثل: الشهيد رائد نزال قائد الكتائب في قلقيلية، والشهيد فادي حنني "المهندس"، والشهيد جبريل عواد، بينما صعَّدت الجبهة عملياتها واعتمدت أسلوب العمليات الاستشهادية، كان من أبرزها عملية سوق الكرمل ب القدس المحتلة في 09/11/2004، التي نفذها الفدائي عامر عبد الله وأدت إلى قتل 4 من المستوطنين وجرح العشرات، وعملية مغتصبة آرئيل التي نفذها الشهيد شادي نصار بتاريخ 07/03/2003 وأدت إلى جرح ثلاثة مستوطنين، وعملية بيتح تكفا التي نفذها عضو كتائب أبو علي مصطفى الشهيد سائد حنني في 26/12/2003، حيث فجر نفسه بواسطة حزام ناسف في موقف للحافلات في تل أبيب ما أدى إلى قتل 4 مستوطنين وإصابة 15 آخرين.

هذه الهجمات وغيرها كثير آلم الاحتلال الصهيوني ووضع كتائب أبو علي مصطفى في مواجهة مباشرة معه، فجاءت الضربة الرئيسية التي غيرت موازين المعركة عندما قامت إسرائيل باغتيال أمين عام الجبهة الشعبية أبو علي مصطفى، حيث ردت الكتائب في الذكرى الأربعين لاستشهاده باغتيال أكبر مسؤول إسرائيلي تقوم المقاومة الفلسطينية باغتياله منذ بداية الصراع العربي الصهيوني، هو وزير السياحة الصهيوني المتشدد والداعم الرئيسي لخطط الاستيطان رحبعام زئيفي، حيث توجه حمدي القرعان وباسل الأسمر ومجدي الريماوي إلى فندق ريجنسي بالقدس المحتلة، ودخلوه بهويات مزورة يوم 16/10/2001 وقاموا بتصفية زئيفي هناك. بعدها قامت السلطة الفلسطينية باعتقال الأمين العام للجبهة الشعبية عاهد أبو غلمي القائد العام لكتائب أبوعلي مصطفى والخلية المنفذة في يناير 2002، وبعد ضغوط إسرائيلية واتفاق إسرائيلي مع السلطة الفلسطينية تم ترحيلهم إلى سجن أريحا في حراسة قوات خاصة بريطانية وأمريكية في مايو 2002، ليقوم الاحتلال في 2006 باقتحام السجن واعتقال سعدات وأبو غلمي والخلية المنفذة وصدرت أحكام تبدأ من 30 سنة على سعدات و106 سنة على مجدي الريماوي.

لم تتوقف المواجهة بين كتائب أبو علي مصطفى والاحتلال الصهيوني في الضفة منذ انتهاء الانتفاضة الثانية، وقامت بتنفيذ عمليات متعددة، منها: عملية القدس في 2014 حين اقتحم مسلحوها معهد هارنوف الديني غربي القدس، مسلحين بالمسدسات والمعاول حيث قتلوا أربعة مستوطنين وأصابوا تسعة آخرين بالإضافة إلى عمليات أخرى في مستوطنات إيتمار وعوفر وآريل وفي عين بوبين وحوارة، وكثير غيرها لا تسمح الظروف الأمنية وتقييم قيادة الكتائب بالإعلان عنها بحسب تصريح لأبو جمال. وفي المقابل سعى الاحتلال إلى تقويض خلايا الكتائب بعمليات مكثفة مشتركة بين الشاباك والجيش والشرطة الصهيونية، استشهد خلالها مقاتلون من الكتائب، كالشهداء: عمر مناع ورائد الصالحي وخالد جوابرة ومحمد جوابرة، بالإضافة إلى ادعاءات الاحتلال حول اكتشاف خلايا سرية للكتائب.

 كتائب أبو علي مصطفى في غزة

 يتصف بناء المنظمة في غزة بطبيعة مختلفة باعتبار أنها تعمل من أرض محررة، خالية من المستوطنات ما يتيح لها إقامة مناورات ومعسكرات تدريب مموهة ومخازن لعتادها ومصانع لبعض أنواع السلاح، والأهم أنها تعمل في بيئة فلسطينية بالكامل، في وسط حاضنة اجتماعية صلبة، كون أغلب سكان القطاع من أفقر القطاعات الفلسطينية، بالإضافة إلى انتشار مخيمات اللجوء. وقد كان للجناح العسكري للجبهة الشعبية في قطاع غزة محطات تاريخية مهمة، أبرزها محطة الشهيد محمد محمود الأسود "جيفارا غزة"، الذي استشهد في 09/03/1973 رفقة كامل العمصي، وعبد الهادي الحايك بعد مواجهة مع قوات الاحتلال، وقد كان الأسود هو قائد التنظيم العسكري للجبهة في القطاع، تحت الاحتلال، استطاع تأسيس شبكة تنظيمية محكمة تطلبت من العدو جهدًا ممتدًّا وعنيفًا لتفكيكها.

اشتركت كتائب أبو علي مصطفى في المعارك كافة التي خاضها القطاع ضد العدو الصهيوني حتى معركة طوفان الأقصى الحالية، في إطار تحالف غير معلن مع بقية الأذرع العسكرية للفصائل إلى أن أُعلن عن تأسيس الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية. تبرز كتائب أبو علي مصطفى في قطاع غزة من خلال سلاح مدفعية الهاون بشكل رئيسي وهذا ما اتضح جليًّا في كل المعارك مع العدو الإسرائيلي التي تبودل فيها القصف بلا اشتباك بري. ينطوي استخدام الهاون على مخاطرة كبيرة كون مداه القصير الذي لا يتعدى 3 كيلومترات يجبر حامله على الاقتراب من السياج الحدودي لتدخل مستوطنات الغلاف في مداه، وهو ما اتضح جليًّا في معركة ثأر الأحرار التي خاضتها الكتائب بالاشتراك مع سرايا القدس، حيث فقد سلاح المدفعية في كتائب الشهيد أبو علي مصطفى خمسة من مقاتليه، هم الشهداء: علاء بركة وعدي اللوح وأيمن صيدم ومحمد أبو طعيمة وعلم عبد العزيز، موزعين على المحافظة الوسطى وخان يونس ورفح. بالإضافة إلى هذا تنشط الكتائب في مجال الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى التي توسع نطاق رشقاتها الصاروخية.

وقد برز دور كتائب أبو علي مصطفى في معركة طوفان الأقصى منذ البداية، حيث شارك مقاتلوها في العبور يوم 7 أكتوبر ونشطت في كافة المواجهات في بيت لاهيا وبيت حانون ومواجهات جباليا وخان يونس وحي الزيتون والشجاعية، وقد أعلنت الكتائب على لسان أبو جمال الناطق باسمها أنها أحبطت محاولة العدو تحرير أحد أسراه لديها في 30/12/2023 وبثت مقطع فيديو يتضمن العتاد الذي غنمته.

بالإضافة إلى هذا يهاجم سلاح المدفعية وسلاح الصواريخ في الكتائب وحدات العدو المتوغلة في القطاع من بيت لاهيا شمالًا حتى معبر رفح جنوبًا بقذائف الهاون سواء في عمليات منفردة أو بالاشتراك مع سرايا القدس أو كتائب القسام، وفي بعض الأحيان مع كتائب المجاهدين. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت كتائب الشهيد أبوعلي مصطفى في 3 فبراير 2024 إسقاطها طائرة مسيَّرة من طراز سكاي لارك كانت تقوم بمهام استخباراتية شمال قطاع غزة.

قدمت الكتائب عديدًا من كوادرها شهداء خلال معركة طوفان الأقصى في غزة والضفة، منهم الشهيد خالد المحتسب منفذ عملية القدس في 12/10/2023، والشهيد ناصر البرغوثي، والشهيد وسام حنون، والشهيد محمد إسماعيل جربوع، والشهيد عماد الجبري، والشهيد إبراهيم حسين أبو نار، والشهيد علاء كمال أبو غرقود.

 ما سبق ليس سردًا لتاريخ كتائب أبو علي مصطفى، ولا للتاريخ العسكري لمنظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي بدأ منذ تأسيسها في 1967 ومرّ بمنعطفات تاريخية كبيرة، وإنما هو بعض لمحات من مسيرة الذراع العسكري للجبهة الشعبية في شكله النهائي، الذي تبلور مع انطلاق الانتفاضة الثانية. بقيت الإشارة إلى أن التحالف بين الكتائب وبقية الأذرع العسكرية في مواجهة العدو لم يخلُ من التناقضات أحيانًا، كان مثالًا لها انسحاب كتائب أبو علي مصطفى من عرض عسكري مشترك للفصائل في غزة في 2013 لخلافات حول الشعارات المتفق عليها. ترسم الكتائب مسارها العسكري في إطار الإستراتيجية العامة للجهاز السياسي، وإن كانت تتبنى معايير فضفاضة حول الثوابت النظرية قياسًا بما هو معمول به في الجهاز السياسي. وبينما تتبنى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الماركسية في لوائحها الداخلية، فإن الكتائب تعمل أكثر باعتبارها تمثل اليسار بالمفهوم الأوسع وهو خلاف البنية العقائدية التي اتسم بها الجهاز العسكري للجبهة في مرحلة الستينيات والسبعينيات.