Menu

إسماعيل هنية: قاتل ولم يفعل شيء آخر

ثائر أبو عياش

.....jpg

ليس من الرثاء، حيثُ الكلمات تفقد سحرها، وتحرر سطوتها العاطفية أمام مشهد الرحيل، لكن لربما نكتب أكثر عن إسماعيل لرثاء الذات المتعبة من الهموم الصغيرة، ولربما أكثر نكتب لنقول اليوم أننا علينا أنَّ نخجل من همومنا، إذ إسماعيل منذ السابع من أكتوبر لم يستسلم أبداً، تلك هي قواميس الشجعان تخلوا دوماً من مثل هذه المصطلحات، حيثُ على مدار ما يقارب التسعة شهور كان إسماعيل هنية رغم كل الهموم مقاوماً حتى الرمق الأخير، ومن جديد هذا هو خصال الرجل المقاوم، إذ بالرحيل يصبح نموذجاً حتى بالموت.

لم يكن الموت هو المعضلة، فالشهادة تُكذب المشككين، وتُغربل صدق الكلمات عن عدمها، فالشهادة هي الصراط الحقيقي لعبور نحو الصدق، وبالعودة إلى المعضلة، إذ في قاموس المقاوم تبقى القضية في أسلوب الرحيل، حيثُ هناك اتفاق راسخ عبر التاريخ يقول: أن الموت واحد وتعدد الأسباب، والمؤمن بذلك يصنع السبب، لا يؤجله، وأكثر يمكن القول أن الموت لا سطوة عليه، أما السبب هو اللعبة الحقيقة، والشهيد إسماعيل هنية كما كل الشهداء قام بتشييد سبباً أسطورياً للرحيل، هنا نتحدث عن القناعة، أو التصميم، أو لربما الإرادة في صناعة الفكرة النبيلة، وللتوضيح لنتمعن جيداً فيما قاله غسان كنفاني ، إذ قال كنفاني: " ليس المهم أن يموت الإنسان قبل أن يحقق فكرته النبيلة، بل المهم أن يجد لنفسه فكرة نبيلة قبل أن يموت"، والشهيد إسماعيل هنية هو التجلي هنا لكمات غسان، إذ وجد هنية فكرته النبيلة، وهي المقاومة، والتي رحل بسببها شهيداً، وهكذا أبتدع إسماعيل هنية سببه للرحيل.

هنا، يتجلى الخلود، ماذا نقصد؟، قبل الإجابة علينا الاعتراف أنَّ إسماعيل هنية نجح بقرع جدران الخزان طوال حياته، وبالعودة إلى الإجابة، بشكلِ جازم تفوق هنية في تشييد خلوده الشخصي داخل مضمار القلب الفلسطيني، إذ مسيرته النضالية، بالإضافة إلى شهادته كانت جميعها أسباباً كافية ليحقق ما كان يصبو إليه، ومن زاوية أخرى لربما كان يُدرك هنية أن الإنسان في النهاية عليه البحث عن الكلمات الأخيرة من أفواه البشر، وأكثر أن ينتزع تلك الكلمات، وهنية من جديد تفوق في ذلك، حتى الاحتلال كان يعلم أنه إنسان، ومقاوم، وشجاع...

إذن، نجح إسماعيل هنية، قاتل ولم يفعل شيء آخر، كان مؤمناً أن الله لم يُخيرك بالموت، بل كيف تواجه الموت، ولذلك أصبحت أولويته الأساسية النصر، وأصبحت المقاومة هي سمته الأساسية، وأن المفتاح الوحيد لعدم الفناء هو الرصاص، وأكثر كان يُدرك أن كل رصاصة هي نصر، وأنَّ الطريق ليس نزهة، بل هي الحرب تلتهم الرجال، وقبل السير عليها عليك التحرر من الخوف، واغلاق الصندوق الذي بداخله الروح، والتحرر من عبثية الوهم، خصوصاً وهم السلام في زمن التشريد، والجوع، والقهر، وعليه صعد هنية على صخرة المقاومة، وعرج نحو الشهادة، وأقتطف من السماء زهرته الأخيرة.

لم تنتهي الحرب بعد!، إذن، إسماعيل هنية لن يشهد النصر، لكنه كان مؤسساً لهُ، هنا الأخير هو من يستحق النصر، تلك هي دفاتر الدم، إذ على سطورها يُكتب التاريخ بطريقة مختلفة، حيثُ صانع النصر لا يحتفل، بل يرحل قبل الخطوة الأخيرة، هي معادلة صعبة لا يفهمها إلا المقاوم، فالنصر لا يُصنع كمشروع شخصي، بل من أجل الآخرين، ومن صلب هذه المعادلة هناك فاتورة يستحقها النصر، والنصر يستحق الثأر، القصد الثأر مرة، مرتين، ثلاثة مرات...، الثأر كأنه تعويذة فلسطينية، هي لعبة عجيبة، كعادتها مليئة بالمتاهات، ولكن وحدهم البارعون في إيجاد أجوبتهم، هم القادرون على تفكيك اللغز، ورسم خارطة الخروج من المتاهة.

إذن، لن نهزم، حيثُ وصية الشهداء دوماً هي الاستمرار، والتمسك بالأمل كأكثر شيئاً ثباتاً في هذا الكون، إذ الأمل هو خيمتنا الأخيرة، هي الحقيقة التي عُمدت بالدم، أدّت إلى هذه القناعة، ولذلك علينا الحذر مع كل شهيد من سياسة تدوير الزوايا داخل سيكولوجيتنا، فالهزيمة هي قرار، وكذلك النصر، ومن صلب هذه السياسة جاء اغتيال إسماعيل هنية، في توقيت حساس، ومكان حساس أيضاً، في محاولة من الاحتلال لوضع حجر الأساس للهزيمة، ولكنه في كل مرة يسقط في الحفرة دونما جدوى من دروس التاريخ، حيثُ الاغتيال لم يطفئ يوماً شعلة المقاومة، وعلى الاحتلال العودة إلى اغتيال الشيخ أحمد ياسين، ومن ثم الشيخ عبد العزيز الرنتيسي خلال سنوات الانتفاضة الثانية بالحد الأدنى ليقرأ كيف حدث طوفان الأقصى، ولربما الاحتلال يعلم ذلك، ولكنه غارقاً في الوهم.

هنا، يتوقف النص عن الركض على خشبة الرثاء، فالمشهد الأخير هو حوار إسماعيل هنية مع الصاروخ، وكان يُنشد قائلاً لهُ: " ماضِ وأعرف ما دربي، والموت يرقص لي في كل منعطف"، وقبل أن تُسدل الكلمات ستائرها، في حقائب الرحيل هناك رسائل للأحبة، اقرأها عليهم، وقل لهم سلاماً، إلى أيمان حجو، ومحمد الدرة، وأركان مزهر، وصالح العاروري، وجميل العموري، وتامر الكيلاني، ومهدي أبو عياش، وإبراهيم الزعاقيق، ووديع الحوح، وأدهم أبو شرخ، وعبد طناني، وأحمد بدير... إلى الشهداء أبداً، إلى الشهداء دوماً.