Menu

طرق جديدة في غسيل الكلمات

حلمي موسى

خاص - بوابة الهدف

الملاحظ في هذه الحرب الوحشية ابتداع العدو لطرق جديدة في غسيل الكلمات. فالقتل في البيانات العسكرية والإخبارية هو مجرد تحييد. والضحايا هم في كل الأحوال مخربون صغرت أعمارهم أم كبرت. وتقريباً لا إشارات البتة للضحايا ولا أرواحهم ودمائهم. فالقتل الوحشي أنتج تعبيراً باتت تستخدمه حتى أجهزة الدفاع المدني الفلسطيني وهو "تبخر أجساد" الشهداء نتيجة صنوف القصف المعروفة والمجهولة.

في كل حال ورغم صعوبة وصف كل تعبير من هذه التعابير إلا أن بينها ما يظهر مأساوية غسيل الكلمات على نمط غسيل الأموال.

الجيش الإسرائيلي ينشر بين حين وآخر خريطة "إخلاء" بلوكات أو مناطق. وطبعاً فإن تبرير أوامر "الإخلاء" هذه هو إبعاد المدنيين عن مناطق الخطر وإرسالهم إلى "المنطقة الإنسانية" في المواصي "حرصاً على حياتهم".

وكلمة إخلاء هنا تعني ترحيل المدنيين، أحياناً عشرات الآلاف وأحياناً مئات الآلاف من الفلسطينيين. والترحيل كلمة بشعة لكن ما هو أبشع منها هو الترحيل الاضطراري والسريع. أحياناً يأتي قرار الترحيل بعد بدء عملية حربية من قصف جوي أو مدفعي أو هجوم بري. وعلى المستهدفين الإسراع بالخروج من المنطقة. وهذا يعني أن يحمل معه أقل ما يمكن من أغراض قد تساعده على قضاء أيام قد تمتد إلى شهور كما هو حال معظم الناس. فما الذي يمكن حمله؟

من تجربة شخصية وعندما اقتربت الدبابات من منطقة سكني بعد أكثر من شهر على بدء الحرب خرجت لا أحمل سوى أوراقي الهامة وما أملك من مال ولباسي الذي ارتديه إضافة إلى حقيبة كتف لا تضم أكثر من غيار داخلي وقميص. وطبعاً انتقلت سيراً على الأقدام من آخر منطقة تصلها السيارات إلى أول منطقة خارج "الخطر" وكانت على بعد سبعة كيلو مترات أو أكثر. بعدها وجدت سيارة تنقلني إلى الوجهة التي أقصدها.

هذا وصف لنازح على عجل لكن تمكن من حمل شيء ولو قليل معه. كثير من النازحين لم يملكوا هذا "الترف". فكثيرون يهربون من الموت حفاة وشبه عراة ومن دون أوراقهم وأموالهم ولا هم لهم سوى النجاة.

في كل حال هناك من لديهم حظ ويملكون وسائل نقل وأماكن تتسع لهم في المنطقة الإنسانية فيحملون معهم كل شيء. وهؤلاء تعلموا ممن سبقهم أشياء مهمة بينها أن المنطقة التي تذهب إليها تخلو من أي مقومات للحياة.

المهم أن الترحيل رغم أنه متعب جسدياً ونفسياً متعب جداً من الناحية المالية خصوصاً لمن تكرر ترحيله من مكان إلى آخر. وربما إن الفلسطينيين المتبقين في شمال غزة عرضة للترحيل من مكان إلى آخر بشكل أسبوعي أو نصف شهري. كما أن مركز خانيونس وشرقها فضلاً عن مناطق مثل البريج والمغازي تتعرض لعمليات تهجير متكررة تجعل الناس أشبه بسيزيف الذي يحمل الصخرة ويصعد بها إلى أعلى التلة قبل أن تسقط وتتدهور إلى عمق الوادي من جديد.

والأدهى أن الترحيل البشع هذا هو إلى المنطقة الإنسانية التي تكاد تخلو تقريباً من أي مظهر إنساني. فهي في الغالب مناطق جرداء على شاطئ البحر وبعمق لا يزيد كثيراً عن ٢ أو ٣ كيلومترات. ومعروف أن المياه الجوفية في المناطق القريبة من البحر تشتد فيها الملوحة. ويقيم أغلب النازحين إلى هذه المنطقة في مخيمات مرتجلة ومن دون أساسيات الحياة. فهي منطقة رملية وحياة الخيام فيها تتسم بصعوبة كبيرة نظراً للحرارة العالية وللكثافة السكانية الهائلة. وقدرت منظمات دولية أن كثافة السكن في "المنطقة الإنسانية" تتراوح بين ٣٠ و٣٤ ألف نسمة في الكيلومتر الواحد. وهذه أعلى نسبة كثافة سكانية في العالم.

الترحيل المتكرر وتكاليفه فضلاً عن مآسي "المنطقة الإنسانية" دفعت كثيراً من الناس لتجاهل أوامر الترحيل. الإصرار على البقاء في أماكنها رغم خطر الموت.

في نظر كثير من الناس الموت في بيوتها أفضل مئة مرة من الرحيل وتكرار الرحيل خصوصاً وأن ما يسمى بالمنطقة الآمنة أو الإنسانية ليست آمنة وليست إنسانية وأنها لا تختلف عن باقي المناطق.

الترحيل فعل لا يقل وحشية عن القتل وهو مجرد درجة من سلم درجات القتل والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة.