Menu

“إسرائيل" للحسم العسكري الأمني في الضفة والعقائدي الديني في القدس

راسم عبيدات

لم تتغير الأهمية الاستراتيجية للضفة الغربية في مفهوم الأمن "الإسرائيلي" وهي كانت تنتظر أن تحقق الانتصار في قطاع غزة وأن تملي شروط وقف إطلاق النار  وصفقة تبادل الأسرى، ومن ثم تخرج إلى عملية "تعقيم" الضفة و القدس . ولكن ما سّرع في نقل ثقل المعركة من القطاع إلى الضفة الغربية، هو عدم القدرة على تحقيق الانتصار والغوص في مستنقع قطاع غزة، وكذلك عدم القدرة أيضاً على فرض شروط التفاوض ودفع المقاومة وحاضنتها الشعبية للقبول بها، رغم كل الحرب التوحشية التغولية المسكونة بعقلية ثأرية إنتقامية، ولعل ما عجل في قرار الحرب العدوانية على الضفة، هو فشل استعادة الردع على الجبهة الشمالية، وخاصة بعد عملية الأربعين التي قام بها حزب الله في 25/آب/2024 ثأراً لاغتيال القائد فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية، حيث كان الرهان على توسيع الحرب على تلك الجبهة واستعادة قوة الردع، ولكن عملية ثأر الأربعين، قضت على أمال قادة "إسرائيل" عسكريين وسياسيين في تحقيق ذلك، وتحويل الحرب إلى حرب إقليمية يجري توريط أميركا فيها، فالقيادات "الإسرائيلية التي طوال  أحد عشر شهراً تتهدد وتتوعد وتهول وتضخم، بأنها ستعيد لبنان إلى العصر الحجري وبأنها ستمحى الضاحية الجنوبية عن الخارطة، وستشن عملية برية تعيد حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، وستتمكن من إعادة الأمن إلى الشمال وإعادة سكان المستوطنات المهجرة، ولكن وجدنا بأن تلك القيادات العسكرية والسياسية منها تلتقي حول الروح الانهزامية، وباتت تتحدث عن عدم التصعيد والتهديد بالحرب الشاملة وبأن الحرب مع حزب الله ستستمر دون التهديد بالحرب الشاملة أو العملية العسكرية الواسعة. أي أن مفردة الحرب والتهديد بها قد سقطت، ولم تكن أكثر من تضخيم وتهويل نفسي ومعنوي.

ولذلك عجل هذا في الخروج إلى العملية العسكرية "التعقيمية" في الضفة الغربية، من أجل "اجتثاث" قوى المقاومة وتصفية وجودها، ووضع مشروع الطرد والتهجير  على  الطاولة، وتنفيذ مشروع الضم والتهويد و"الهندسة الجغرافية" و"الديمغرافية"، ومقايضة ضم الضفة الغربية والسيطرة عليها بتطبيق وقبول اتفاق القطاع، وهذا يعني بأن السلطة الفلسطينية التي تترنح وكانت طوال الوقت تعتقد أنها حاجة "إسرائيلية" لا يمكن الاستغناء عنها، بات المطلوب رحيلها.

"إسرائيل" سابقاً قامت بـ"بروفات" عمليات عسكرية اقتحامية لجنين ومخيمها وطولكرم ومخيماتها. مارست التدمير للطرقات والبنى التحتية واغتالت وصفت واعتقلت، ولكن هذه المرة العملية العسكرية في معالمها وخطاها تشبه العملية العسكرية التي شنت على قطاع غزة من حيث شكلها ومضمونها، فالاستهداف أوسع وأشمل من جنين وطولكرم والمخيمات، بل يتعدى ذلك إلى طوباس وقلقيلية ونابلس ومخيماتها، وحجم التدمير والتخريب كبير جداً للطرقات والشوارع واستهداف شبكات المياه والصرف الصحي ومحولات الكهرباء وخطوط الاتصالات وصولاً إلى حصار المستشفيات والقيام بعمليات الطرد والتهجير، أو ما يسمى بالترحيل المؤقت، ولا يوجد في عرف الحركة الصهيونية على مر تاريخها إخلاء مؤقت، بل طرد وتهجير دائمين إلى خارج حدود فلسطين.

من خلال هذه الحملة العسكرية الشرسة التي سماها الاحتلال بـ"مخيمات الصيف"، والمقصود هنا بأن تلك العملية ستكون نزهة أو "شمة هوا"، أو ربما الهدف الموارب استهداف مخيمات شمال الضفة، في حين سمتها المقاومة وفصائلها بعملية "رعب الصيف"، وواضح بأن  تتطابق جغرافية العدوان تماماً مع خارطة مخطط الاستيطان في شمال الضفة الغربية والأغوار الشمالية الأقل كثافة من حيث الاستيطان والأكثر كثافة فلسطينياً، وهي المناطق المخطط لها أن تكون غير قابلة لحياة الفلسطينيين وقابلة تماماً لحياة المستوطنين وفقط لهم. ضمن اعتبار "إسرائيلي" بأن الاستيطان لن يتحقق في هذه المناطق إذا لم يتم القضاء على أية مقاومة وإذا لم يتم إجراء تغيير سكاني جوهري فيها.

سمويترتش يغرق الضفة بالمستوطنين والمستوطنات، مليون  مستوطن، ويضم كامل المنطقة "سي"، 60% من مساحة الضفة الغربية، ويضيف لها المنطقة "بي"، بعد نزع الصلاحيات المدنية للسلطة في تلك المنطقة، ويقوم بعملية هدم واسعة للمنازل الفلسطينية في تلك المنطقتين، وبن غفير يتولى الحرب الشاملة على مدن وبلدات وقرى الضفة الغربية، عبر جيشه من المستوطنين، يقتل ويجرح ويحرق ويسرق محاصيل وأغنام ويقطع طرقات ويشرد ساكنين ويقيم بؤر استيطانية ويستولي على أراضي. جيش وقوات أمن تقوم بحرب الاغتيالات والتصفيات والاعتقالات والتدمير الممنهج لكل مظاهر الحياة والبنى المدنية، بما فيها الترحيل القسري، وكل ذلك لإحداث "الهندستين الجغرافية"، بالاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض وإبقاء أقل عدد من السكان الفلسطينيين، و"الديمغرافية"، بطرد جزء من سكان الضفة الغربية، وخاصة المنطقة الشرقية منها للأردن، ومن يتبقى من الفلسطينيين، يتم حشره في معازل وجزر متناثره في محيط "إسرائيلي" واسع، لتحقيق "الهندسة الديمغرافية"، ومنع أن يكون ما بين النهر والبحر أغلبية فلسطينية، ونشوء أي شكل من أشكال الكيانية الفلسطينية تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية.

هذه الحملة والهجمة المسعورة تترافق مع هجمة شرسة على القدس والمقدسات وفي المقدمة منها المسجد الأقصى، لحسم السيادة والسيطرة عليهما، حيث عمد بن غفير وزير ما يعرف بالأمن القومي الإسرائيلي إلى تولي ملف تهويد الأقصى، ونزع القدسية الإسلامية الخالصة عنه، معتبراً إياه، هو وطيف واسع من القوى المتطرفة الصهيونية، أنه أقدس مكان لليهود، ولذلك منذ توليه الوزارة في بداية عام 2023، قام بأول عمليات اقتحامه للأقصى معلناً، بأن بداية العبور بالمسجد الأقصى من زمنه الإسلامي  إلى زمنه اليهودي قد بدأ، ويجب توظيف كل الأعياد الدينية والمناسبات القومية اليهودية لهذا الغرض، ورصد الأموال التي تمكن من تحقيق هذا الهدف، حسم السيطرة العقائدية الدينية على الأقصى، وفي ظل ردات الفعل العربية والإسلامية، التي لم تغادر خانة "الجعجعة" الكلامية ولازمة الشجب والاستنكار المخزية على عمليات اقتحام بن غفير والجماعات التلمودية التوراتية المتطرفة للأقصى، والسعي للذهاب في عملية التهويد للأقصى أبعد من عمليتي التقسيم الزماني والمكاني إلى إيجاد حياة وقدسية يهودية فيه، تجعل المكان مقدس مشترك في مرحلته الأولى إسلامي-يهودي، مقابل الشيخ المسلم حاخام يهودي ومقابل المصلي المسلم مصلي يهودي ومقابل الطفل الفلسطيني طفل يهودي.

استمر بن غفير في عمليات اقتحامه للأقصى مع المتطرفين من وزراء وأعضاء كنيست وحاخامات دون ردع، ومهادنة عربية وإسلامية، وليرى بأن الفرصة مؤاتية من بعد معركة السابع من أكتوبر/2023 لترجمة مشاريعه لفرض الحسم العقائدي الديني في الأقصى، حيث عمد في الثالث عشر من آب / 2024، ذكرى ما يعرف بخراب الهيكل  إلى القيام بأوسع عملية اقتحام للأقصى بمشاركة وزير حزبه يتسحاق فسرلاوف وعضو الكنيست الليكودي عميت هليفي، وأكثر من  2258 متطرف، وأدوا كل الطقوس المتعلقة باستكمال الهيكل المعنوي من سجود ملحمي ورفع علم "إسرائيل" وعلم الهيكل والدخول بلباس الكهنة البيضاء والنفخ في البوق وأداء الصلوات والطقوس التلمودية والتوراتية فرادى وجماعة  ومحاكاة إدخال قربين الفصح الحيوانية للأقصى وغيرها من طقوس إحياء الهيكل المعنوي، رافعاً شعار "تجديد البيعة لبناء الهيكل" وراداً على شعار طوفان الأقصى بطوفان الهيكل، لتأكيد السيادة والسيطرة على الأقصى.

لم يثر ما قيام به بن غفير ولم يحرك أية مشاعر لا رسمية ولا شعبية عربية وإسلامية، واستمر مسلسل "الجعجعة" الكلامية والمطالبات لشريك دولة الاحتلال في عدوانها على شعبنا الفلسطيني أمريكا ومعها قوى الغرب الاستعماري والمجتمع الدولي بالتحرك لمنع "إسرائيل" من الاستمرار في مشاريع تهويد الأقصى، وبما يدفع المنطقة لتصعيد غير مسبوق أو ما يعرف بكذبة الصراع الديني، لم يأبه بن غفير ولا حكومته الموزعين للأدوار بينهم، بمثل هذه التحركات الفارغة والردود "الجعجعية" العربية والإسلامي، ويتقدم خطوة أخرى على طريق الحسم العقائدي الديني لمصير الأقصى والشروع في خطوة بناء الهيكل بشكل عملي، حيث أعلن بعد ذلك بيومين نيته إقامة كنيس يهودي في قلب الأقصى بدل مصلى باب الرحمة، لفرض السيطرة على ثلث مساحة المسجد الأقصى، واتبع ذلك وزير ما يعرف بالتراث "الإسرائيلي" عميحاي الياهو، ومن دعا إلى قصف قطاع غزة بالقنبلة النووية، عن تمويل جولات استيطانية توراتية في الأقصى من وزارته بقيم مليوني شيكل "500 " ألف دولار أميركي، تستهدف عشرات آلاف المصلين اليهود والزوار الجانب، يتم فيها تدعيم مكانة البلدة القديمة في القدس، كمدينة يهودية، وتقديم رواية وسردية تاريخية يهودية نقية خالية من رواية النقيض العربي - الإسلامي، بما يؤكد على الشراكة ما بين الحكومة والجماعات الاستيطانية في تكريس تهويدها للأقصى.

بن غفير يستعد للخطوة القادمة لفرض الحسم العقائدي الديني في الأقصى، بذبح واحدة من البقرات الخمس الحمراء التي تم إحضارها من ولاية تكساس الأمريكية، في ساحات الأقصى، ونثر رمادها على أكبر عدد من الحاخامات للتطهر من بند نجاسة الموتى، بما يتيح التحرر من فتوى الحاخامية الكبرى، بعدم الصعود لجبل الهيكل "الأقصى" دون تحقيق بند التطهر ، وبذلك سنكون أمام " تسونامي" من المتطرفين في قلب الأقصى بشكل يومي، ما بين 1000 – 1500 متطرف يومياً يفرضون واقعاً جديداً في الأقصى .

هي حرب الحسم العسكري والأمني في الضفة الغربية والحسم العقائدي الديني في القدس، والتي يقف في مواجهتها شعب فلسطين ومقاومته ومعهم مروحة من محور المقاومة إيران كدولة وقوى وحركات المقاومة العربية لبنانية ويمنية وعراقية، وشعوب رغم طول نومتها والتي جاوزت نوم أهل الكهف، نثق بأنها في طريقها للصحوة، وأنظمة رسمية عربية ستكشف بان مهادنتها وتماهيها مع المشاريع الأمريكية والغربية الاستعمارية، لن يضمن لها الحماية والبقاء وعدم السقوط.