بات من المؤكد انّ حكومة العدو الصهيوني برئاسة عتاة المتطرفين الصهاينة، قد استخدمت الورقة المخبّأة لديها لتوجيه ضربة مؤلمة للمقاومة، تمكّن كيانهم من استعادة بعض ردعه المتآكل وأمنه المنهار، أمام المقاومة التي أذاقته مرارة حرب الاستنزاف التي أنهكته عسكرياً واقتصادياً وهجرت مستوطنيه من مستعمراتهم في الشمال، وأدخلته في مأزق تكتيكي واستراتيجي، وأصبح فاقد القدرة على الخروج منه عبر الذهاب إلى حرب واسعة لن تفضي سوى إلى نفس النتيجة من الفشل في تحقيق أهدافها والعودة إلى ذات المأزق قبل الحرب، لكن مع تحطيم أكبر لصورة قوته الردعية وقدرته على حماية عمقه وجبهته الداخلية من ان تتحوّل إلى ساحة حرب لم يسبق ان شهدها سابقاً، بما يجعل صور ومشاهد الدمار على الجانبين متماثلة في قسوتها وآثارها، مع فارق انّ المقاومة في لبنان تملك عمقاً جغرافياً ممتداً لا يملكه كيان العدو…
لذلك لجأ العدو إلى ورقته الأمنية المخبّأة والتي عمل عليها منذ شهور، لأجل محاولة تحقيق هدفه في توجيه ضربة قوية للمقاومة وبيئتها، متجنّباً استخدام هذه الورقة لتوقيت شنّ الحرب الواسعة، متوقعاً ان تؤدي بنتائجها إلى زلزال يهزّ الثقة الشعبية بالمقاومة ويثير الفتنة في مواجهتها، ويردعها ويفقدها التوازن والقدرة ويجبرها على وقف مواصلة معركة إسناد غزة ومقاومتها، بما يمكن رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو من تحقيق هدفه في إعادة المستوطنين النازحين من الشمال إلى مستعمراتهم، واستطراداً احتواء تداعيات الأزمة التي يعاني منها، وتعزيز موقفه ورؤيته في مواجهة من يطالبونه بعقد صفقة لوقف حرب الإبادة في غزة كمدخل لاستعادة الأسرى الصهاينة ووقف القتال على الجبهة مع لبنان وتحقيق الهدوء الذي يمكن المستوطنين من العودة إلى مستعمراتهم.
لكن هل تحققت هذه الأهداف الإسرائيلية من الضربة الأمنية الإلكترونية التي وجهها العدو للمقاومة وبيئتها الشعبية الحاضنة وتفنن في القتل العشوائي متعمّداً مرتكباً مجزرة جماعية، ومتجاوزاً كلّ الضوابط. والقواعد والخطوط الحمراء، واستطراداً هل أحدثت انقساماً وشرخاً داخلياً يضغط على المقاومة للتوقف عن مواصلة إسناد غزة، لتجنيب لبنان ويلات الحرب الواسعة في حالة أصرّت على موقفها وردّت على الجريمة الصهيونية؟
من خلال قراءة المشهد في لبنان وردود الفعل والتداعيات التي حصلت اثر العدوان الصهيوني الأمني على دفعتين، وما تسبّب به من ارتقاء عشرات الشهداء وآلاف الجرحى، يتبيّن بوضوح فشل الرهان الإسرائيلي في تحقيق ما سعى اليه:
أولاً، فشل في زعزعة وإفقاد المقاومة وقيادتها توازنها وتماسكها، وإضعاف عزيمتها وتصميمها على الاستمرار في معركتها التي بدأتها لإسناد غزة، وهو ما تجسد في الآتي:
1 ـ استمرار المقاومين في توجيه الضربات للعدو في شمال فلسطين، وتشديد هجماتهم وتوجيه ضربات نوعية استهدفت جنود العدو وأوقعت في صفوفهم القتلى والجرحى، ما يؤكد عدم تأثر منظومة التحكم والقيادة لدى المقاومة، ودورها في مواصلة إسناد غزة، نتيجة العدوان الصهيوني الأمني.. فيما كوادر المقاومة الذين فقدوا بعضاً من أعضاء أجسامهم، عيناً او يداً فقد واجهوا ذلك بإعلان التصميم على مواصلة دورهم في المقاومة.. بما يعكس الروح الفدائية ومدى استعدادهم للتضحية في مواجهة العدو الصهيوني المحتلّ الغاصب للأرض والحقوق…
ـ إعلان قائد المقاومة السيد حسن نصر الله، أنّ الضربة الكبيرة وغير المسبوقة التي تلقتها المقاومة لن تؤثر على موقف المقاومة وقرارها في مواصلة إسناد غزة، “أياً تكن التضحيات والآفاق الذي تذهب إليها المنطقة”، وانّ المقاومة ستمنع العدو من تحقيق هدفه بإعادة المستوطنين إلى المستوطنات في الشمال، وانّ العدو سينال القصاص العادل، والحساب آت، متعمّداً ترك الغموض حول الطريقة والأسلوب عندما قال “ما ترون لا ما تسمعون”، وهذا يعني أنّ المقاومة ستعمد إلى اتباع خيارات متعدّدة في ردّها كانت تتحاشاها طوال الفترة الماضية.. فالعدو عندما لجأ إلى الضرب تحت الحزام والقيام بعمليات أمنية ولو أدّت الى استهداف المدنيين فقد أعطى للمقاومة حرية الحركة في داخل الكيان وعبر الحدود بما يتناسب مع الأهداف التي تعمل لها، وهذا الأمر ليس مرتبطاً لا بالمكان ولا بالزمان، ويعني أنّ الردّ سيكون من طبيعة الاعتداء وعلى مستواه… بما يجعل العدو يدفع ثمناً كبيراً ومؤلماً لجريمته، ويمكن المقاومة من استعادة ميزان الردع إلى ما كان عليه قبل الجريمة.. على انّ بيانات حزب الله التي صدرت في أعقاب العدوان، عززت هذا التوجه عندما أكدت على أنّ العدو سينال القصاص العادل من حيث يحتسب ولا يحتسب.. وهو ما عاد وأكد عليه سماحة السيد.
ثانياً، أخفق العدو في ضعضعة بيئة المقاومة رغم هول الجريمة غير المسبوقة في استهداف هذه البيئة وإيقاع هذا الحجم الكبير من الخسائر في يومين، بل انّ هذه البيئة شهدت أعلى درجات الوحدة والاستنفار لتقديم المساعدة للجرحى بكافة الأشكال من الإسعاف إلى التبرّع بالدماء وصولاً إلى الاستعداد للتبرّع بالأعضاء لعلاج بعض من فقد كلية نتيجة تفجير أحد جهازي الـ “بيجر” أو “أيكوم”…
ثالثاً، سقوط الرهان على إثارة الفتنة وإحداث الانقسام الداخلي ضدّ المقاومة، حيث شهدنا أعلى مستويات الوحدة والتضامن الشعبي والالتفاف حول المقاومة وتقديم المساعدة للجرحى، وسط إدراك بأنّ العدو الصهيوني لا يميّز في عدوانه بين مقاوم ومدني.. فيما أعلنت أغلب الأحزاب والقوى والفاعليات والشخصيات الوطنية، من مختلف الأطياف والاتجاهات، الدعم والتأييد والالتفاف حول المقاومة.. حتى بات من يعبّرون عن شماتتهم بالمقاومة، مجرد أفراد نشاز في ظل حالة التضامن الوطني غير المسبوقة..
رابعاً، التضامن الرسمي الذي تجسّد في موقف الحكومة ورئيسها نجيب ميقاتي، إنْ كان في إدانة العدوان الأمني واعتباره عدواناً على لبنان وسيادته، والتحرك السريع على المستويات الدولية، ومجلس الأمن الدولي لإدانة العدو الصهيوني وإجراء تحقيق في هذا الانتهاك السافر للقوانين الدولية.. او على مستوى التحرك العاجل لاستنفار الجسم الطبي وجميع المستشفيات في البلاد لإسعاف المصابين وتقديم العلاج لهم.. مما خفف من حجم الآلام التي تسبّبت بها الجريمة الصهيونية التي تفنّن فيها قادة العدو في أساليب القتل ومشاهدة تفجّر الأجهزة اللاسلكية بأيدي من يحملها من مقاومين ومدنيين، فالعدو معروف بطبيعته وعقليته الإجرامية الإرهابية والابتداع والتفنن في وسائل القتل الجماعي في السعي إلى تحقيق أهدافه.. لكن هذه الأساليب وان نجحت في القتل إلا أنها عجزت عن النيل من إرادة المقاومة واستمرارها، والاحتضان الشعبي لها، لأنها مقاومة تملك من الإيمان والعقيدة والقدرة على تحمّل مثل هذه التضحيات ما يجعلها قادرة على تجاوز ما تعرّضت له من أذى العدو وإرهابه وإجرامه، ومواصلة الطريق لتحرير الأرض واستعادة الحقوق السليبة وتحقيق كرامة الأمة وعزتها، وعدم ترك الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وحيدا في مواجهة العدوان… فالمقاومة المسلحة المستندة الى دعم وتأييد الشعب هي اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا العدو، والتجربة أكدت وتؤكد كلّ يوم هذه الحقيقة…