Menu

خطاب لا يواجه الإبادة

الرهان الخاسر: تناقضات خطة عباس في الأمم المتحدة

بيسان عدوان

بيسان عدوان.jpeg

فلسطين المحتلة

"الكذبة الصغيرة تصطاد حوتاً كبيراً." هكذا يعكس المثل الصيني بوضوح التناقضات التي شابت خطاب محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. في خطابه، استعرض عباس رؤية لا تتناسب مع واقع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وما تسببت به قراراته المرتبكة طوال 17 عامًا، والتي كانت سببًا مباشرًا في تعميق الانقسامات الفلسطينية وتثبيت حالة العجز الوطني أمام آلة الحرب الصهيونية. بينما تتعرض غزة لحرب إبادة جماعية، يأتي خطاب عباس مليئاً بالوعود الجوفاء والاقتراحات المتناقضة التي تكشف عن فشل مدوٍ في صياغة استراتيجية تحريرية شاملة.

عباس: مكرِّس الانقسام الفلسطيني ومروّج لاستجداء التسوية

في الوقت الذي تعاني فيه فلسطين من استنزاف يومي عبر الحصار والعدوان، يخرج عباس بخطاب لا يعبر إلا عن انسلاخه عن هموم شعبه وقضيته. يقف عباس مستجديًا المجتمع الدولي، داعيًا إلى وقف العدوان، متجاهلًا حقيقة أن هذا المجتمع الدولي، الذي يُعرّضه عباس للاحترام والرهان، هو ذاته الذي يحمي الاحتلال ويدعمه. عباس يغفل ببساطة أن العالم الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، كان وما يزال هو الدرع الحامي لإسرائيل، وأن مطالبة هذا المجتمع بإيقاف العدوان هو وهم كبير، لا يخدم سوى تعزيز موقف الاحتلال وإدامة حالة الاستعمار.

بدلاً من المطالبة بحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه ومقاومة الاحتلال بشتى الوسائل المتاحة، يصر عباس على تكرار أسطوانته المشروخة بالدعوة إلى "السلام" و"المفاوضات". هذا الاستجداء الذي لم يجلب إلا المزيد من الاستيطان والقتل والتهجير. عباس يعيش وهم التسوية، متجاهلاً نهج الإبادة الذي تتبعه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وكأن الجريمة المستمرة منذ عقود قابلة للتوقف عبر بعض الكلمات المعسولة في الأمم المتحدة.

تناقضات فاضحة: حماية الأونروا والفيتو الأمريكي

واحدة من أبرز التناقضات التي تعرّي خطابه، هي تلك المتعلقة بمطالبته بحماية الأونروا ومؤسسات الإغاثة الأخرى، في حين أشار بنفس الخطاب إلى أن الفيتو الأمريكي حال دون وقف العدوان ثلاث مرات. كيف يمكن لعباس أن يطلب من المجتمع الدولي حماية اللاجئين ومؤسساتهم، بينما يدرك أن هذا المجتمع ذاته هو الذي يمد إسرائيل بالسلاح والغطاء السياسي لارتكاب جرائمها؟ هذا التناقض يفضح الطبيعة الهشة والسطحية لخطاب عباس، الذي لا يعدو كونه مسعى للحفاظ على موقعه الشخصي في السلطة، وليس سعيًا حقيقيًا لتحرير فلسطين أو حماية شعبها.

تناقضات حل الدولتين واللاجئين والمناطق العازلة

عباس يتحدث عن حل الدولتين، عن حق العودة، وعن رفض إنشاء مناطق عازلة. لكنه لا يقدم أي خطة حقيقية لكيفية مواجهة التهديدات الإسرائيلية المتزايدة. هل يعتقد عباس أن رفضه للمناطق العازلة سيوقف إسرائيل عن تهجير الفلسطينيين أو الاستيلاء على المزيد من الأرض؟ بالطبع لا. إسرائيل تعمل منذ عقود على تصفية قضية اللاجئين، والحديث عن حق العودة في هذا السياق ليس إلا أضغاث أحلام في ظل غياب أي قوة حقيقية تفرض هذا الحق على الأرض.

أما بشأن الانتخابات، فإن طرح عباس لإجرائها بعد الحرب دون مصالحة وطنية حقيقية هو قفز على الواقع. كيف يمكن إجراء انتخابات في ظل انقسام داخلي واستبعاد قوى المقاومة الفاعلة على الأرض؟ عباس لا يدرك – أو لا يريد أن يدرك – أن الحل لا يكمن في الانتخابات الشكلية، بل في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس المقاومة الحقيقية والوحدة الوطنية.

الجمود السياسي ورفض الاستراتيجيات التحررية

عباس يرفض الاعتراف بأن سياساته طوال السنوات الماضية لم تجلب سوى المزيد من الهزائم والتراجعات. مشروعه السياسي قائم على "إدارة الأزمة"، وليس حلها. تكرار نفس الدعوات إلى المفاوضات في حين أن الاحتلال يزيد من وحشيته يوماً بعد يوم، يثبت أن عباس ومنظومته باتوا جزءاً من الأزمة، بل هم أحد أسباب استمرارها.

في مواجهة التحديات التي يفرضها الاحتلال والمجتمع الدولي المتواطئ، لا تزال خطة عباس بعيدة كل البعد عن الواقع. ما تحتاجه فلسطين ليس مزيداً من الاستجداء، بل استراتيجية مقاومة شاملة، تتجاوز الخطابات الفارغة والوعود المستحيلة. لا يمكن مواجهة العدو الصهيوني بالتصريحات الدبلوماسية والمراهنات على "المجتمع الدولي"، بل بالمقاومة الفعلية على الأرض، والتكاتف الوطني الذي يتجاوز الانقسامات التي زرعتها سلطة أوسلو.

نحو استراتيجية فلسطينية جديدة: مقاومة ورفض الاستجداء

إذا أرادت فلسطين حقًا التحرر من الاحتلال، فلا بد من تجاوز حالة الجمود التي تكرسها سلطة رام الله. المطلوب الآن هو إعادة تشكيل الحركة الوطنية الفلسطينية على أسس نضالية تحررية، تدعم المقاومة بجميع أشكالها، وتضع المصالحة الوطنية في مقدمة أولوياتها. يجب أن تكون هذه المصالحة قائمة على الاحترام المتبادل بين كافة الفصائل، بعيدًا عن الوصاية الخارجية.

من الواضح أن عباس يراهن على دور القوى الدولية، لكنه يتناسى أن هذه القوى ليست صديقة للفلسطينيين. هذه القوى تسعى إلى إبقاء فلسطين في حالة من الضعف والتبعية. ما يحتاجه الفلسطينيون الآن هو استراتيجية تحريرية جديدة، تُبنى على تفعيل المقاومة الشعبية والمسلحة، وعلى رفض أي تسويات تبقي على الاحتلال بأي شكل من الأشكال.

خطاب محمود عباس يعكس حالة من الجمود السياسي التي تسيطر على السلطة الفلسطينية. هذه السلطة التي فقدت شرعيتها لم تعد قادرة على تقديم أي حلول واقعية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. إن التناقضات التي حفلت بها خطة عباس تكشف عن عمق الأزمة التي يعيشها المشروع السياسي الفلسطيني الرسمي. ما تحتاجه فلسطين اليوم هو قيادة جديدة، قيادة تتبنى خيار المقاومة بكل وضوح، وتعيد للقضية الفلسطينية زخمها كحركة تحرر وطني، لا كملف تفاوضي على طاولة القوى الكبرى.