جباليا، المدينة الصغيرة في شمال قطاع غزة، لم تكن يومًا مجرد مساحة جغرافية؛ بل كانت على الدوام رمزًا للمقاومة والصمود. مع انطلاق "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023، أصبحت جباليا في قلب الحدث، متصدرة مشهد المقاومة الفلسطينية ضد آلة القتل الإسرائيلية التي لا تتوقف عن استهداف المدنيين والبنية التحتية للمدينة.
جباليا: تاريخ من النكبة إلى المقاومة
منذ نكبة عام 1948، تحولت جباليا إلى موطن للاجئين الفلسطينيين الذين هُجروا من قراهم ومدنهم الأصلية في الداخل الفلسطيني. أصبحت جباليا أكبر مخيم للاجئين في قطاع غزة، حيث احتضنت آلاف الأسر التي حملت معها ذكريات النكبة وألم الفقدان. خلال عقود الاحتلال والعدوان، لم تكن جباليا مجرد مخيم للاجئين بل قاعدة للمقاومة، حيث نشأ وتطور فيها العمل الفدائي على يد أجيال متعاقبة، منها الأبطال الذين واجهوا الاحتلال في الانتفاضتين الأولى والثانية.
ولعل أبرز الأسماء المرتبطة بجباليا هو القائد الفدائي محمد الأسود، المعروف باسم "جيفارا غزة". قاد جيفارا الأسود خلايا المقاومة ضد الاحتلال في سبعينيات القرن الماضي، متخذا من جباليا مركزًا لعملياته البطولية. كانت المدينة وما زالت ترمز للثورة والنضال، حيث أصبحت نموذجًا يحتذى به في مقاومة الاحتلال، وقدم أبناؤها أرواحهم في سبيل الحرية والتحرر. إن تاريخ جباليا هو تاريخ نضال متواصل، تمتزج فيه ذكريات النكبة بصور البطولة والثورة.
جباليا في مواجهة العدو الإسرائيلي
منذ بدء العدوان، تعرّضت جباليا لقصفٍ مكثف، لم يترك بيتًا أو شارعًا إلا وترك فيه أثرًا. دُمرت بيوت وأُزهقت أرواح، لكن في قلب هذه الفاجعة، لم تتخلَّ المدينة عن روحها الصامدة. كما لو أن كل ركام بيت دُمر أو كل دمعة أم ثكلى كانت تغذي جذور الصمود والإصرار على المقاومة.
جباليا ليست مجرد مدينة تتلقى الضربات، بل تحولت إلى مركز استراتيجي لعمل المقاومة؛ فيها نشأ وتطور العمل الفدائي، منها انطلق العديد من الشبان الذين لبوا نداء الدفاع عن الأقصى، ومنها أيضًا انطلقت الهجمات الصاروخية التي هزت العمق الإسرائيلي. أهل جباليا يدركون حجم التحدي، لكنهم، بوعيهم العميق، يُسطرون ملاحم الصمود، مدركين أن كل دقيقة يثبتون فيها على الأرض تعني انتصارًا في معركة الزمن ضد آلة الحرب.
البيوت والمدارس: مشاهد التضامن والتحدي
مع استمرار القصف، أصبحت البيوت والمدارس في جباليا ملاذات للآلاف من الأسر التي شُردت بسبب العدوان. الشوارع التي كانت يومًا مزدحمة بضحكات الأطفال، أصبحت الآن مملوءة بحكايات الألم والصمود. تُقام الخيام على الأطلال، وتُعاد الحياة، ولو بصعوبة. النساء والشباب ينظمون المبادرات التطوعية لتوزيع المواد الغذائية والإغاثية على الأسر المتضررة، كإشارة على التضامن الاجتماعي والتكاتف بين أبناء المدينة. جباليا ليست وحدها؛ أهلها هم عماد التضامن، وهم خط الدفاع الأول، يداً بيد مع المقاومة المسلحة.
دور المقاومة في جباليا
المقاومة في جباليا ليست فقط عسكرية، بل هي كذلك اجتماعية وثقافية. كتائب المقاومة تعمل في خفاء، تتحرك بين الأنفاق والملاجئ لتنفيذ عملياتها بدقة، تراقب التحركات الجوية وتخطط للرد في الوقت المناسب. لكن المقاومة في جباليا لا تقف عند هذا الحد؛ بل تمتد لتشمل كل بيت وكل عائلة. النساء يجهزن الطعام للمقاتلين، والأطفال يساندون في عمليات الدعم اللوجستي، فيما الشباب ينظمون صفوفهم في كتائب الدفاع المدني لإنقاذ الجرحى والمساعدة في نقلهم إلى المستشفيات رغم القصف المستمر.
الصمود كهوية: جباليا في عام من المقاومة
في عام واحد من "طوفان الأقصى"، استطاعت جباليا أن تثبت نفسها كرمز للصمود. المقاومة في هذه المدينة ليست حالة مؤقتة أو رد فعل؛ بل هي جزء من الهوية الجماعية. كل بيت مهدّم يتحول إلى حكاية جديدة للثبات، وكل روح تفارق الحياة تُضيء دربًا للمقاومين خلفها. جباليا تحمل روح الأرض الفلسطينية التي تتشبث بالحياة مهما كانت الظروف.
في كل يوم من هذه السنة، كانت جباليا تقاوم، ليس فقط بالأسلحة، بل أيضًا بروحها الجماعية، بقدرتها على النهوض بعد كل قصف، وبإصرارها على الصمود رغم الألم. هكذا تعيد جباليا تعريف المقاومة: ليست فقط في الجبهات الأمامية، بل في كل بيت وكل شارع وكل زقاق، تؤكد أن فلسطين ليست فقط قضية مقاومة ضد الاحتلال، بل أيضًا قصة حياة وصمود.