بدأت مظاهر المجاعة بالانتشار في محافظات وسط وجنوب قطاع غزّة، ففضلاً عن محافظتي غزّة والشمال، والتي أصبحت فيهما المجاعة شكلاً وواقعاً مفروضاً عليهما منذ شهور؛ وذلك جرّاء استمرار العدوان الصهيوني وحرب الإبادة على غزّة منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي 2023.
أسواقٌ خالية في محافظات الوسطى والجنوب، والتي يقطنها حالياً نحو مليونين من المواطنين والنازحين، الذين تركوا بيوتهم قسراً بفعل العدوان، ومجاعةٌ بدأت تطرق حياة الفلسطينيين في المناطق السالفة، وعلى غير العادة منذ بدء العدوان، حتى ومع أصعب فتراته في بدايته لم تشهد هذه المناطق أي انقطاعٍ في المواد الغذائية، ربّما عانت في وقتٍ من الأوقات شحاً في التموين، إلا أنّ الظروف الحالية وما يعانيه المواطنون لم يسبق له مثيل منذ أكثر من عام.
أصناف قليلة وبكميات مقنّنة كانت منذ شهر، وذلك الوقت الذي انقطعت فيه البضائع والمساعدات عن الدخول للمحافظات الجنوبيّة؛ بفعل إغلاق المنفذ الوحيد المتبقي في قطاع غزّة "معبر كرم أبو سالم" بحجّة "الأعياد اليهودية"، ولكنّ ما جرى خلالها يكرّس سياسة حكومة الاحتلال المتطرّفة، التي تخرق كلّ الأعراف الدولية والإنسانية، باعتمادها على التجويع والتخويف في عدوانها على قطاع غزّة، ولعلّ محافظات الشمال أكبر مثال على سياساتها.
أسواقٌ فارغة
معظم الأسواق المحلية في محافظات وسط وجنوب القطاع، يملؤها باعةٌ دون شيئ يبيعونه، متسوقون يذهبون لسد رمق حاجات أبنائهم، يعودون خاليي الوفاض، دون أن يجلبوا شيئاً لبيوتهم، فما يُباع حالياً لا يتعدا مواد التنظيف والقليل جداً من أصناف الخضار الباهظة الثمن، والذي لا يقدر على ثمنها أي فئة، فأسعار جنونية تحول دون شرائها.
يقول كثير من المواطنين إنّ السبب فيما تشهده الأسواق يعود لسببين: إغلاق المعابر من قبل الاحتلال وهو الأمر الذي لا حيلة لهم به، والآخر هو احتكار مجموعة من التجار والمفسدين للبضائع بهدف رفع أسعارها عشرات الأضعاف، وهذا ما أشار إليه المواطن حسن زعرب في حديثه مع "الهدف الإخبارية".
ولفت زعرب في بداية حديثه معنا وهو من سكان مدينة رفح، وينزح حالياً في مدينة دير البلح وسط القطاع إلىّ أنّه وكل المواطنين والنازحين يذهبون لشراء بعضٍ من احتياجاتهم، إلى أن انعدام البضائع تحول دون تلبيتها، محمّلاً سبب ذلك للتجار الكبار الذين يخفون البضائع حسب قوله.
زعرب أكّد على أنّ مجموعةً كبيرة من المستوردين وأصحاب البسطات والبقالات التموينية، أخفوا بضائعهم عند بداية الأزمة سعياً لرفع أسعارها أضعاف المرات، وهذا الأمر الذي حدث، فكل المواد التموينية اللتي كانت متبقية في الفترة الماضية، اشتريناها بأسعار خيالية.
وعبر المواطن زعرب عن استغرابه واستنكاره من عدم ملاحقة هذه الفئة من قبل وزارة الداخلية ولجان الطوارئ المكلفة، مؤكّداً على أنّ هذا الغياب أو التغييب لتلك اللجان هو سبب الإفساد الذي يحصل.
في هذا السياق، شهدت مدينة دير البلح إضراباً في أسواقها اليوم الثلاثاء، وذلك بقرار جماعي من كبار عائلاتها لمواجهة غلاء الأسعار واختفاء البضائع.
وكانت العائلات أعلنت في بيانٍ لها قبل يومين إعطاء أصحاب المحلات والبسطات وحتى التجار مهلةً لصباح الثلاثاء، لخفض الأسعار وعدم التلاعب في السوق، وفي حال عدم الاستجابة فإن السوق سيشهد إغلاقاً كاملاً وهو ما حدث اليوم.
هذا الإضراب لاقى استحساناً وتأييداً من كل المواطنين، الذين تضرروا طوال هذه المدة من فساد التجار والمحتكرين وغلاء أسعار البضائع وانعدام كثير منها، فقد يشعرون أن هذه الخطوة ممكن أن تأتي بنتيجة ويعود الاستقرار للسوق، الذي أصبح شكله الحالي أكبر دليل على المجاعة التي بدأت بالانتشار في الوسطى والجنوب، هذه المجاعة التي لم تعد تخفى على أحد، فالآلاف من الذين يعانونها يعبرون عنها وبشكلٍ واضح عبر صفحاتهم في مواقع التواصل بتغريداتٍ كلها تؤكّد معاناتهم من الجوع.
"بنسمع أخبار عن دخول البضاعة.. وبنشوفش أي إشي منها"
بهذه الكلمات استهل البائع محمود الحوراني حديثه مع "الهدف الإخبارية"، وهو صاحب بسطة لبيع المواد التموينية في سوق خانيونس، الذي قال إنّه مضطر لغلق بسطته وهي "باب رزقه الوحيد"، بسبب عدم وجود بضائع لبيعها، مضيفاً أنّ التجار يحدثونهم بشكل يومي عن إدخال البضائع "غداً أو بعد غدٍ"، وهي كلمة وحجة يسمعونها بشكل يومي من التجار، الذين أكّد بعض منهم أن كثيراً منها دخل للقطاع وتكدس في المخازن.
الحوراني أكّد ككثير غيره من المواطنين أن سبب المجاعة وما نعانيه هو التجار والمفسدون بعد الاحتلال والعدوان، لافتاً إلى ضرورة أن يكون للأجهزة الأمنية والحكومية ووزارة الاقتصاد دور في هذه الأزمة، التي لولا التغييب من تلك الجهات لم تولد هذه الأزمة.
لسنا بصدد اختزال أسباب الأزمة بمن يفسدون في أسواق القطاع، والذي يتخذون من جوع الأطفال والنساء سبيلاً لثرائهم، ولا يلقون بالاً لمن يحتاج الطعام لصحته أو علاجه أو دوائه أو تلبيةً لحاجة إنسانية، مقابل أن يزيد من ماله، وإنّما يشترك فيها وسبب أول وأساسي فيها عدوان فاشي مستمر على قطاع غزة منذ أكثر من عام، تتعمّد فيه حكومة نازية نشر أسباب الجوع في عمومه، وضرب المواطنين بعضهم بعضاً.