تراجعت صورة الرّدعِ الإسرائيلي بشكلٍ تصاعديٍّ منذُ حرب تموز عام 2006، حتّى معركةِ سيفِ القدس ِ في أيار عام 2021، حتّى وصلت إلى التأكّل العميق مع عملية " طوفان الأقصى" يوم السّابع من أكتوبر من العام الماضي، التي أحدثت تحولاً كبيراً في ميزان الرّدع بين العدو الصّهيوني والمقاومة في قطاع غزة ،وبينه وبين محور المقاومة، نظراً لما يشكله الرّدع من ضرورةٍ حياتيّةٍ للكيان، كونه يؤثر على الأبعاد الاستراتيجيّة للسّياسات الصهيونيّة بشكلٍ مباشرٍ في المنطقة، فإنّ استعادةَ وترميمَ الرّدعِ، بات يعدّ التحدي الأكبرَ خاصةً مع تصاعد التنسيق والتعاون بين جبهات المقاومة في المنطقة. فمنذ تأسيس الكيان المحتل وحتّى الوقت الحاضر، لم يهيمن أيّ مفهومٍ بشكلٍ كاملٍ على الخيال الاستراتيجي للدولة العبرية بقدر ما سيطرَ مفهومُ الردع.
لكن ما عقّد الأمور أكثر، هو تدخل باقي أضلاع محور المقاومة في الحرب تباعًا منذ الثّامن من أكتوبر أي اليوم التّالي من العملية، إذ انّ استعادة الرّدع لم تعد عملية يمكن تحقيقها من خلال قطاع غزة حصرًا، بل هو أمر يرتبط مباشرة بالسؤال الذي يدور في ذهن كل مغتصب ومسؤول إسرائيلي "هل ستتكرر مشهدية السابع من أكتوبر"؟
ما فتحَ بابَ النّقاش على مصراعيه حول إستراتيجية الرّدع الإسرائيليّة ومدى نجاعتها في مواجهة التّحديات والتهديدات، وطُرحت العديد من الأسئلة عن مدى اعتماد إسرائيل الكبير على هذه الإستراتيجية ومدى تآكلها والفشل باستعادتها، حتى بعد مرورِ عامٍ من العدوان على غزة. فأصبح قادة قوات الاحتلال الصهيوني والمستوطنون في الكيان على يقين بعدم القدرة على تحقيق الهدف من الحروب المتواصلة على غزة، ويقينٍ أكبرَ بعدم القدرة على القضاء ولو على فصيلٍ مقاومٍ واحدٍ.
في حين يَبرز هذا السؤال جيّداً الأثر الاستراتيجي الذي حققته عملية "طوفان الأقصى" إذ إنها مسّت بشكلٍ مباشرٍ ما بُني الكيان عليه وهو "الأمن"، وما يدعم هذا السيناريو خصوصاً هو أولاً الفشل، النّسبي، في العمليّة العسكريّة بغزة بحسب تقدير العسكريينَ الإسرائيليينَ أنفسهم بعدم تحقيقها هدفها الأساسي في القضاء على قدرات المقاومة الفلسطينيّة، وثانياً ما تشعر به إسرائيل من تهديدٍ هائلٍ باجتراء المزيد من القوى الإقليمية عليها بعد الطوفان، بالضربات العديدة من حزب الله والحوثيين، فضلاً عن إيران و اليمن وسوريا والحشد الشعبي العراقي والفلسطينيين أنفسهم بالطبع؛ بما يمثّله استمراره من تهديدٍ وجوديٍ ومن تحقيق فشلٍ كاملٍ للمشروع الصّهيوني، بتدمير مصداقية الكيان، الذي اُريد له ان يكون ملاذاً آمناً لكلّ يهودِ العالم؛ ما يفرض على إسرائيل بحسب نظرية استراتيجييها تدميرَ كاملِ خصومها في سبيل البقاء.
إلا أنّ ما واجهه العدو طوال هذه السنين كان معاكساً فبدلاً من تثبيت الرّدع على الجبهات، أصبح في حالة تآكل، فتأكّد الاسرائليون أنّه بعد السّابع من أكتوبر لا أمان لهم، وتلاشى مفهوم الرّدع الذي على أساسه بُنيتِ الاديولوجيّةُ الصّهيونيّةُ.
وفيما كان الاعتبار قائماً بأنّ إسرائيل تمكنت -قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023- من تعزيز مكانتها بوصفها قوةً عسكريّةً رادعةً في مواجهة إيران وحلفائها، وعزّزت اقتصادها وساعدت في تمهيد الطّريق للسلام مع بعض الدّول العربيّة المهمة، الا أنّ هجومَ حركةِ المقاومةِ الإسلاميّةِ (حماس) الذي تمكّنت فيه من قتل 1200 إسرائيلي وأسر 252، كشف أنّ أسطورةَ الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر مجرّدُ خُدعةٍ كبرى؛ فأصبحنا اليوم أمام مقولة "لا أمان للاسرائليين ما دام الفلسطينيون يفتقدون الأمان على أرضهم".
مشهديةٌ مغايرةٌ تؤكد أن الشّعب الفلسطيني عاد في وجه كلّ اتفاقيات التّطبيع التي خاضتها بعض الأنظمة العربية، ليراكم على تاريخ نضالاته الرّافضة للاحتلال والسّاعية للتّحرير، وليؤكّد أنّه لا أمان لمستوطنٍ مغتصبٍ لأرض تدعى فلسطين.
وكل ما اعتقد العدو انه حُققه سابقًا من ترميمٍ للرّدع، اتضح فجر السّابع من أكتوبر أنه كان خطأً جسيماً في التّقدير، فالخطوات التي أقدم عليها العدو طوال الفترة السّابقة، لم تكن رادعةً للمقاومة، بل عزّزت من موقفها في اتخاذ القرار النوعي بالقيام بهذه العملية النوعية بوجه المحتل، و أعادتِ التّأكيد ان هذا الكيان هو العدو الرّئيسي للسّلام في الشّرق الأوسط، ووضعَ نُصبَ عينيه منذ قيامه وليس فقط في المدى الزمني الماضي القصير القضاء على الفلسطينيين وتهجيرهم، وهو ما يرقى إلى مستوى التّطهير العرقي والإبقاء على دولة الفّصل العنصري.
ومنذ بدء الحرب في غزة، تسببت اشتباكات في شمال فلسطين المحتلّة مع حزب الله إلى الدّفع بأكثر من 250 ألف مدني إسرائيلي بعيداً عن الحدود، ما يعني أنّ حزب الله استطاع فرض شروط الاشتباك الخاصة به من خلال إنشاء منطقةٍ عازلةٍ داخل فلسطين ؛ ما أظهر مدى انعدام الشعور بالأمن لدى المستوطن ليس فقط الذي يعيش على حدود غزة بل أيضاً من يعيش في الشمال، فأصبح بالتّالي السؤال الرئيسي لدى المستوطن الإسرائيلي حول احتمالية تكرار العمليّة، وبالنّسبة للمسؤولين كيف نضمن عدم تكرارها، الأمر الذي جعل من الهدف الإسرائيلي "ضرورة استعادة الرّدع"، هدفاً رئيسياً.
فما تواجهه إسرائيل "يشكل إهانةً خطيرةً للرّدع الإسرائيلي"، بناءً على تصريحاتٍ للواء احتياطٍ في الجيش الإسرائيلي، غيرشون هكوهين، التي وصف فيها سلوك الجيش الارهابي في الشّمال بأنه "محرجٌ".
الا انّ هذه المعركة تفرض على شعوبنا العربية كافة وقواها التّحررية تعزيزَ تضامنها النضالي الشّعبي مع الشّعب العربي الفلسطيني في التّصدي لمواجهة هذا الكيان الغاصب المحتل وعلى هيمنته الامبرياليّة بغية التحرر من التبعيّة وصولاً الى مشروع التّحرر الوطني.