لقد كانت عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي عبَر فيها مقاتلو الشعب الفلسطيني السياج الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة في مستوطنات "غلاف غزة"، مسقطين فرقة كاملة من جيش الاحتلال في ضربة مباغتة استهدفت في جوهرها أسس الأمن والردع الإسرائيلية، وأثبتت أن عزيمة المقاوم المؤمن بحقه التاريخي في أرضه وحتمية انتصاره قادرة على التفوق على أعتى منظومات التكنولوجيا والإنذار المبكر والأمن والاستخبارات، إضافةً إلى تجاوز كل محاولات الاحتواء والتدجين.
على الرغم من النجاح النوعي للعملية البطولية، فإنها أيضًا لم تكن عملية ذات طابع عسكري/كفاحي فحسب، بل شكَّلت انطلاقًا لمرحلة تاريخية للشعب الفلسطيني، نظمت فيه المقاومة الفلسطينية الشكل الكفاحي الأكبر كضربة استباقية في مواجهة مخطط التصفية والحسم الصهيوني الذي يحمله ائتلاف "بنيامين نتنياهو" الحكومي.
أطلق الاحتلال العنان لكل مشاريعه الإجرامية، ووضع آلة القتل الصهيونية في حالة الانفلات الكاملة لممارسة شتى أشكال القتل والتدمير والإبادة بحق الشعب الفلسطيني، ضمن خطط بات واضحًا أنها مُعدَّة مسبقًا، تهدف إلى تصفية كل مقومات الرفض والمواجهة، تمهيدًا لـ"الشرق الأوسط الجديد" الذي تُعِدُّ الولايات المتحدة لإعادة تشكيله بحيث يتسيده كيان الاحتلال الصهيوني.
وضع "طوفانُ الأقصى" الشرقَ الأوسطَ على محك الرفض والمواجهة في وجه مشاريع التصفية وإعادة الهندسة، ليثبت معادلة رئيسية: القضية الفلسطينية البوابة الرئيسية لكل المعادلات، ولن تكون مخططات تصفيتها وتجاوزها إلا عبثًا بصمام الانفجار لكل الشرق الأوسط، الذي أعدت قوى المواجهة والرفض فيه نفسها بحيث تتحد الجبهات في لحظة المواجهة مع العدو الصهيوني.
"نتنياهو" وحلم "الشرق الأوسط الجديد"
رفع رئيس حكومة الاحتلال، "بنيامين نتنياهو"، قبل أقل من شهر من "طوفان الأقصى" خريطة لـ "الشرق الأوسط الجديد" من على منصة الجمعية العام للأمم المتحدة في دورتها الـ78، مقدِّمًا فيها رؤيته لشكل الشرق الأوسط المنشود: دولة كيان إسرائيلي ممتدة إلى جانب الدول المنخرطة في عملية التطبيع مع الاحتلال، وبلا دولة فلسطينية.
استند خطاب "نتنياهو" إلى فكرة أن المرحلة الآن مرحلة تجاوز الفلسطينيين بوصفهم عقبة أمام التطبيع مع الدول العربية، وهو يرى أن نموذج "اتفاقيات أبراهام" يجب أن يُعمَّم، حاملاً طموح إنجاز أوسَع تطبيع عربي يساهم في تحويل "إسرائيل" من كيان غاصب إلى مكون طبيعي في الشرق الأوسط، بل وقيادي في المنطقة، وذلك بإتمام التطبيع مع السعودية.
ترتكز رؤية رئيس حكومة الاحتلال على فكرة تحقيق أمر واقع بالمراكمة التدريجية للتغييرات، التي يقضي بها على أي أفق لدولة فلسطينية، ويحاصر أشكال التعبير السياسي للفلسطينيين عن هويتهم الجمعية، لصالح ابتلاع "إسرائيل" الضفة الغربية، والانخراط في مسارات اندماج وتفاهم مع الدول العربية بمعزل عن القضية الفلسطينية.
نجح "نتنياهو" في أن يُحمِّل إدارات البيت الأبيض المتعاقبة رؤيتَه بتفاوتٍ بين اللامبالاة بالأفق السياسي للفلسطينيين، والدعم المطلق لجولات العدوان على كل من قطاع غزة والضفة الغربية، وتوفير المظلة السياسية لمشاريع التطبيع، حتى غض الطرف عن مشاريع التوسع الاستيطاني.
وجد "بنيامين نتنياهو" فرصته لإنجاز التطبيع مع السعودية، مع وصول "جو بايدن" إلى رئاسة الولايات المتحدة، ليراكم على القفزات النوعية التي حققها في عهد الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب"، وتحويل رغبة إدارة "بايدن" في إعادة التموضع خارج الشرق الأوسط إلى فرصة لإنشاء حلف أمريكي في المنطقة العربية وترتيبات أمريكية واسعة لحلفاء الولايات المتحدة مع "إسرائيل" التي ستتولى الموقع القيادي في المنطقة.
"طوفان الأقصى" ومواجهة التحولات الإستراتيجية
بخلاف الحسابات، شكَّل "طوفان الأقصى" لحظة تاريخية فارقة، حملت المعادلات كلها إلى طور جديد، فرفع "الطوفان" سقف المواجهة إلى تهديد وجودي للكيان الإسرائيلي الغاصب على أبواب "لعنة العقد الثامن" التي يطمح "نتنياهو" لأن يكون زعيم "إسرائيل" الذي يتجاوزها، وأعاد "الطوفان" إلى القضية الفلسطينية حضورها ومركزيتها في الإقليم والعالم.
كان "طوفان الأقصى" نقطة تحول إستراتيجي لصالح القضية الفلسطينية مقابل مشروع التصفية، ومقابل مشروع "شرق أوسط جديد" بقيادة الكيان الإسرائيلي، لتكون مخرجات الحرب الحالية المدخل الرئيس لشكل المنطقة القادم.
كان رئيس حكومة الاحتلال يعي تمامًا أن ممكنات تعطيل رؤيته الإستراتيجية للشرق الأوسط تتمثل أساسًا بقدرة الفلسطينيين على الرفض والمواجهة، ووجود "خصوم" لـ"إسرائيل" في المنطقة مستعدين لتشكيل عنوان مواجهة واشتباك، فكان شريان الحياة للمشروع الصهيوني الكبير يتمثل بتحييد مظاهر المواجهة في الشرق الأوسط.
من جانبها، تعي المقاومة الفلسطينية أنه يجب تسخير كل الممكنات لمواجهة "إسرائيل" ومشروعها، إذ إن المواجهة الشاملة السبيل الأسلم لإعادة خلط أوراق الشرق الأوسط، ومواجهة "بنيامين نتنياهو" صاحب الائتلاف اليميني، والإدارة الأمريكية الباهتة التي تحاول الخروج من المنطقة مع ترتيبات مستدامة لحلفائها.
وضعت "إسرائيل" كل أثقالها بين مخطط التصفية وخطة المواجهة، إذ تتطلب المحطة المفصلية الاستثمار الأمثل لحالة الإرباك الدولي، والمرحلة الانتقالية بين إدارتين أمريكيتين، والمزاج العربي الرسمي المواتي لتمرير الجرائم الإسرائيلية.
الجدار الحديدي يتآكل
يرتبط رسم الهيكل الأساسي لإستراتيجية الأمن القومي بنظرية "الجدار الحديدي" الذي يحصن "إسرائيل" من تلقي ضربات كبرى، تلك النظرية التي صاغها "زئيف جابوتنسكي "، قائد عصابات "الإيتسل"، وحدَّثها العسكري المتقاعد "دان مريدور" بناءً على أربع أضلع رئيسية حكمت السلوك الأمني الإسرائيلي لعقود: الردع المؤثر؛ والإنذار المبكر؛ والدفاع القوي؛ والحسم السريع.
استثمر كيان الاحتلال في فكرة "الردع" بوصفها السبيل الأجدى لمنع خصومه من المبادرة بحروب ضده، لوجود اقتناع بأن "إسرائيل" الأقوى والأقدر على حسم أية مواجهة سريعًا، ما يجعل الردع الدرع الأكبر الذي يساعد الكيان على تلافي العدد الأكبر من التهديدات، ويكون خيار بدء الحرب في الوقت الذي تختاره ويعتمد اختيار المكان على فكرة ألَّا تخوض "إسرائيل" حروبها على "أرضها"، وأن تجنِّب جبهتها الداخلية أي خضوع إلى الضغط والتأثر بمجريات الحرب.
يتمثل جوهر الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية بالإنذار المبكر، وتستثمر "إسرائيل" من أجله مقدرات عديدة، ويدخل ضمن جهوده العمل الاستخباراتي لإصدار التحذيرات من نية العدو خوض الحرب، وذلك في الوقت المناسب الكافي لإجهاض الهجوم وإزالة مسبباته والتهديدات المتعلقة به، وإلى جانب العمل الاستخباراتي يقع الاستثمارُ في الأنظمة للرقابة والتحذير التقنية في جميع المواضع المُعرَّضة للهجوم، خصوصًا حدود الكيان مع المحيط المصنَّف إسرائيليًّا بوصفه معاديًا.
يستثمر الكيان في منظومته الدفاعية، المرتكزة على جعل "أراضيها" حصينة من الهجمات المباغتة، وتقليص احتمالية أن يتسبب أي هجوم في فترة الهدوء في أضرار نوعية في المقدرات والركائز، وبالإمكان الاستدلال على أدوات الدفاع في تحصين المنشآت والجدر التأمينية، وطبقات الدفاع الجوي، والتعزيزات المستمرة للنقاط الأمنية على الحدود، والتي تمثِّل تركيبة دفاعية للتعامل مع أي هجوم قد يَفشل الإنذار المبكر في تحديده وتحييده مسبقًا.
يعتمد الكيان على قدرته على توجيه ضربات مؤثرة لخصومه، لتوجيه ضربة استباقية بعد تشخيص الاستخبارات ومنظومات الإنذار بنوايا الخصم تنفيذ هجوم، أو لتعزيز "الردع بالعقاب" بتوجيه ضربات عقابية لدول/كيانات تخطط لتوجيه ضربات لـ"إسرائيل" في المدى البعيد، وترتكز الإستراتيجية الإسرائيلية إلى العمل على استخدام الهجوم الساحق والقوة الغاشمة لحسم أي حرب أو جولة مواجهة سريعًا، دون الدخول في حرب طويلة الأمد تؤثر على الاقتصاد والجبهة الداخلية في الكيان الإسرائيلي.
المعادلات بعد عام من "الطوفان"
أطال الكيان الغاصب قتاله في قطاع غزة، ثم القتال الحالي الدائر في جنوبي لبنان، للمدة الأطول منذ تأسيس كيان "إسرائيل"، وقد اخترق الكيان بذلك قاعدةً حكمت حروبه السابقة كلها والتي كانت قد تمثلت بالقتال السريع والحاسم وتجنُّب دخوله في مواجهات طويلة سعيًا منه إلى تلافي أثر الحروب على الاقتصاد والجبهة الداخلية في "إسرائيل" وعلى مجرى الحياة لمستوطنيها.
أطال الكيان الغاصب قتاله في غزة ولبنان في إطار السعي المحموم إلى ترميم الردع الإسرائيلي وتثبيت المعادلات الإسرائيلية من جديد في المنطقة. وبعد أن فشل ما أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية من دمار هائل في قطاع غزة في إعادة تشكيل الردع، ذهبت "إسرائيل" في اتجاه توجيه آلة القتل والدمار إلى ضاحية بيروت الجنوبية في لبنان، وقد ترافق ذلك مع استعراض إسرائيلي كبير للقوة النارية، واستعراض لقوة الاستخبارات الإسرائيلية وذلك بضربة أمنية هي الأكبر في تاريخ الشرق الأوسط ومن الأكبر في التاريخ كله تمثلت بـ"مجزرة البيجر"، بغرض إعادة "إسرائيل" إلى موقعها السابق في عقول سكان الشرق الأوسط، بكونها المتفوقة والحاسمة، وبكونها القادرة على إيقاع أكبر ضرر على خصومها بما لا يمنعهم من التفكير في إيذائها مرة أخرى فحسب، بل ويردعهم عن ذلك أصلًا.
على الرغم من أنه كان يُفترَض بالضربات الإسرائيلية الغاشمة في غزة وبيروت وطهران والحديدة أن تعيد المهابة إلى "يد إسرائيل الطولى"، تتلقى "إسرائيل" ضربات مستمرة متصاعدة من الجبهات المتعددة، وتباغتها الرشقات الصاروخية والمُسَيَّرات يوميًّا ومن كل حدب وصوب، وصولًاً إلى الضربة الإيرانية الكبرى في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري التي حملت في طياتها تأكيد القدرة الإيرانية على الضرب وإيقاع الأذى، إلى جانب استهداف "حزب الله" اللبناني منزل "بنيامين نتنياهو" استهدافًا مباشرًا، في مشاهد أثبتت بوضوح أن الرهان الإسرائيلي على طبقات الدفاع الجوي للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط رهانٌ فاشل.
فشلت "إسرائيل" وآلة حربها في سد الفجوة التي أحدثها السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبات تكسير أضلع مربع الأمن الإسرائيلي محفِّزًاً لقوى المنطقة كلها بتصعيد الضربات للاحتلال، وصولًاً إلى تلقِّي "تل أبيب" ضربات ناجحة من جبهات المواجهة المتعددة، دون أن يتمكن الكيان الغاصب من إيجاد صيغة سحرية لإيقاف الانحدار المستمر في قدرته على ردع خصومه.
لم تفلح "إسرائيل"، وعلى مدى أكثر من عام منذ بدء معركة "طوفان الأقصى"، في مواجهة التحول الإستراتيجي الذي أحدثه "الطوفان، على الرغم من منح المنظومة الدولية بقيادة الولايات المتحدة الاحتلال تفويضًا غير مسبوق للإجهاز على المقاومة، ومنحها جسرًا لا يتوقف من الإمدادات سواءٌ بالسلاح أو الاستخبارات، وصولًاً إلى الجهد المباشر على الأرض، في محاولة لإنجاح مساعيها الهادفة إلى عكس نتائج "طوفان الأقصى" وتكوين وقائع جديدة على الأرض تسمح للكيان الإسرائيلي الغاصب بأن يعود إلى مربعات الأمان التي سادت لسنوات طويلة، وتحييد "خصومه" لأطول فترة ممكنة.
يحمل الواقع معطيات تقول بخلاف ذلك، إذ سيلاحق الفشل قادة كيان الاحتلال، وسينعكس ذلك على مستقبل الصراع في الشرق الأوسط، وقد تحقَّق الهدف الإستراتيجي الذي طمحت إليه المقاومة الفلسطينية بضرب منظومة الأمن الإسرائيلية فعلًا في يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقد تعزَّز ذلك بالصمود الفلسطيني في قطاع غزة على مدار أكثر من عام دون أي أفق لنجاح "إسرائيل" في تحقيق أهدافها من حربها العدوانية التي امتدت وطالت لبنان، لتنتصر المقاومة حتمًا بإفشال العدو في تحقيق أهدافه، وتُعزِّز المقاومة انتصارها بتحويل الصمود الفلسطيني إلى مكاسب سياسية يحاول الاحتلال منعها من التحقق بالسعي إلى هندسة "اليوم التالي" للحرب، ذلك السعي المحكوم حتمًا بالفشل.