Menu

طوفان الأقصى والمشهد الجديد

أحمد عويدات

نشر في العدد الأخير من مجلة الهدف الرقمية

مضى عام وطوفان السابع من أكتوبر/ تشرين الأول لازال جارفاً وقد حمل معه رياح التغيير. انقضى عام ومضت معه تطورات حافلة بالتداعيات وصور الثبات والتضحية والصمود الأسطوري لأهل غزة. عام استثنائي جاءت به المقاومة بكل أطيافها، مسطرةً به صفحاتٍ لا تطوى من البطولة والبسالة والإباء لا يقابلها مثيل، صفحاتٍ سيتوقف عندها قارئو التاريخ مطولاً. كان عام هزيمة المشاريع الصهيونية وقوات الاحتلال الغازية، كان عاماً تغيَّرت فيه المواقف والسياسات الدولية والاصطفافات، وسقطت فيه كل الأقنعة والوجوه المزوّرة. عامٌ شَهِدَ نزف الدم الفلسطيني بما لا يُوصف، وبرع فيه الاحتلال النازي الفاشي بفنون القتل والتدمير الممنهج والإبادة الجماعية. عامٌ مضى على بدء الطوفان العظيم عاد فيه المارد الفلسطيني مزهواً بانتصاراته، لكنه مثخن بجراحه وآلامه لفقده القادة الشهداء الصغار والكبار والأهل وفلذات الأكباد، فداء للوطن الأسمى فلسطين، ومن أجل الزيتون والزعتر والبرتقال الحزين.

لقد أتت حرب نتنياهو الفاشية وقادة حربه القتلة على كل جوانب الحياة في قطاع غزة فلم تبقِ إلا النذر القليل من المنظومة الصحية من مشافٍ وتجهيزات وطواقم طبية وإسعافية. ودمرت القوات الغازية المنظومة التعليمية من مدارس وكليات وجامعات، وقتلت المئات من الكوادر التعليمية وآلاف الطلاب. ومع حلول الذكرى الأولى للطوفان ارتفع مؤشر الشهداء إلى 43 ألفاً والجرحى إلى ما يزيد على 97 ألفاً، إضافةً إلى 10 آلاف من المفقودين تحت الأنقاض وآلاف المعتقلين .لقد بات القطاع أكواماً من الأنقاض والدمار، دُفنت معه أحلام الفلسطينيين حتى تراثهم وزرعهم، ولم تعد هناك بنىً تحتية على الإطلاق. المشهد قاتمٌ وقاتلٌ لكنه حمل معه ما يبشّر بفجرٍ جديد، وكان أبرز ما أنتجته هذه الملحمة الكبرى أنها:

أولاً: أعادت وضع القضية الفلسطينية، بعد طول تجاهل وتهميش، على رأس اهتمامات معظم دول العالم، وإلى المكانة التي يجب أن تحظى بها في الأروقة الدولية من قبل منظمات وهيئات وشعوب وحركات وأحزاب ومؤسسات، وأعادت الاهتمام بها كقضيةٍ وطنية لشعب اقتُلعَ من أرضه وصودر حقه التاريخي فيها ، بعدما كان ينظر إليها مجرد قضية معيشية وإنسانية، كما فنّدت الرواية "الإسرائيلية" القائمة على الكذب والخداع والأباطيل والخرافات وتزييف الحقائق طيلة عقود مضت، وصدقت بالمقابل السردية الفلسطينية مما يثبت الحق التاريخي لشعبنا ب فلسطين لدى شعوب العالم. تم ذلك من خلال ما عبرت عنه في مظاهراتها الغاضبة واعتصاماتها الحاشدة وفعّالياتها المختلفة، المتضامنة مع حق شعبنا بالحرية وتقرير المصير، ومن خلال إدانتها الشديدة لجرائم ومجازر الاحتلال، وقتل الأبرياء من أطفال ونساء.

ثانياً: أكدت قدرة المقاومة على فرض أجنداتها وإيقاع الهزيمة بالعدو بامتلاكها قوة وسلاح الردع، وتوظيفها لأساليب القتال المختلفة والمتكيِّفة مع ظروف وطبيعة الأرض والمعركة. كما أن ثبات المقاومة وصمودها واستمرارها طيلة عام كامل برهن على قوّتها في التحكم بقواعد الاشتباك، وجر العدو إلى حرب استنزاف طويلة، على الرغم من سقوط الشهداء القادة وعلى رأسهم الشهيد يحيى السنوار وقبله الشهيد إسماعيل هنية رئيسي المكتب السياسي لحركة حماس، وغيرهما من القادة السياسيين والميدانيين من كافة الفصائل. ولا بد من القول هنا: إن عملية الطوفان أكدت أن المقاومة المسلحة خيار إستراتيجي لدحر العدو، وإسقاط مخططاته ومشاريعه، وأن لا شيء مستحيل أمام المقاومة التي بادرت إلى الهجوم، واستطاعت إفشال منظومته الأمنية والاستخبارية وكل حواجزه ودفاعاته، وكسرت إلى الأبد هيبة ومكانة جيشه المزوّد بأحدث الأسلحة والوسائل التكنولوجية. ولم يعد تلك الذراع الطويلة القادرة على الردع للولايات المتحدة وحلفائها بعد انهيار جنوده جسدياً ونفسياً، وفقدان التوازن أمام ضربات المقاومة النوعية. 

ثالثاً: أفضت إلى تنامي الوعي الجماهيري خاصةً في صفوف النخب الجامعية والأكاديمية، وتأثير ذلك في الميدان السياسي والتعبوي في دولها. هذا ما شهدته مظاهرات واعتصامات الجامعات الأمريكية والأوروبية على وجه الخصوص، والتي قُمعت بقسوةٍ مُسقطةً أقنعة الديمقراطية وحرية التعبير لأنظمة هذه الدول.

رابعاً: أكدت عدم جدية دولة الكيان والولايات المتحدة، بقبول أية مبادرة سلام تضمن حقوق الشعب الفلسطيني - ولو بحدها الأدنى - وضمان أمن واستقرار دول المنطقة، وسقوط طرح حل الدولتين، ومبدأ "الأرض مقابل السلام" الذي تتبناه المبادرة العربية، واستبداله "إسرائيلياً" على لسان نتنياهو بمقولة "السلام مقابل السلام"، والاصرار على استمرار الاستيطان والتهويد، خاصة في الضفة الغربية التي كان فيها نحو200 ألف مستوطن قبل اتفاقات أوسلو، وأصبحوا الآن ما يزيد على 750 ألفاً. هذا بدوره يفضح حقيقة الفكر الصهيوني التوسعي الاستحلالي والإجلائي، الذي بدا واضحاً في عرض نتنياهو مؤخراً أمام الأمم المتحدة لخريطة "البركة" ومشروعه للشرق الأوسط الجديد، وما يعبر عنه كل مطلع شمس الوزيران المتطرفان بن غفير وسموتريتش من ضرورة تهجير الغزاويين وبدء الاستيطان في غزة. ناهيك عما يصرِّح به ويطمح إليه الحاخامات من أن دمشق هي حدود عاصمة "أورشليم".

خامساً: أدت إلى إيقاف مسار التطبيع العربي الرسمي مع دولة الكيان ، وسقوط رهان الأنظمة عليه، بعد افتضاح أهداف هذا التطبيع في تقويض اقتصادياتها والتحكم بسيادتها، والاستيلاء على ثرواتها ومقدراتها، وقهر شعوبها. يتضح هذا من خلال رفض الشعوب لمخرجات هذا التطبيع، ومقاطعة فعالياته ورفض تواجد "إسرائيليين" في بلدانهم. وما المظاهرات التي خرجت بها الجماهير العربية، ومواقفها المناصرة لقضية الشعب الفلسطيني إلا تعبير عن هذا الرفض، ووعيها لخطورة هذه التطبيع ، ودوره في المشروع الصهيوني التوسعي.

سادساً: قادت إلى النجاح الدبلوماسي والسياسي والقانوني في استصدار عدد من القرارات الدولية، سواء من الأمم المتحدة باعتراف نحو 143 دولة بفلسطين كعضو كامل العضوية فيها، أو من محكمة العدل الدولية بقرارها التاريخي بعدم جواز احتلال الأراضي الفلسطينية، وتحديد مدة انسحاب دولة الاحتلال منها بعامٍ واحد. وأيضاً إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه على خلفية ارتكاب جرائم حرب، وكذلك مثول " إسرائيل " لأول مرة أمام محكمةٍ دولية. إضافةً لصدور الكثير من القرارات المؤيدة لقضيتنا عن القمم والمؤتمرات والمنظمات والهيئات الدولية الأخرى. 

سابعاً: دفعت إلى مزيدٍ من الاعتراف الدولي بدولة فلسطين وخاصة في أوروبا؛ مما يعطي دفقاً جديداً للقضية الفلسطينية على مستوى العالم. وازدياد دعم الأصدقاء والحلفاء وأحرار العالم في المحافل الدولية، وتجلى هذا في المقاطعة الواسعة للمنتجات والبضائع "الإسرائيلية"، والشركات العالمية الداعمة للاحتلال، كما ظهر من خلال قطع العلاقات الدبلوماسية أو تجميدها مع الكيان، وطرد السفراء خاصة في دول أمريكا اللاتينية، وبالعقوبات الاقتصادية على الكيان المارق؛ مما تسبب بعزلةٍ دولية كبيرة على المستويين الرسمي والشعبي في كافة أنحاء العالم. 

ثامناً: قادت إلى اتساع القاعدة الشعبية للجماهير العربية والإسلامية وأحرار العالم المؤيدة للمقاومة، وارتفاع وتيرة المواجهة بأشكال مختلفة مع الكيان الصهيوني وداعميه وشركائه، والتفاف هذه الجماهير حول المقاومة لتشكل حاضنةً منيعة قوية لها شرقاً وغرباً، تؤسس لمرحلةٍ أوسع وأكبر في عملية المواجهة، في المزيد من الساحات إضافة ً إلى ساحات المقاومة في الضفة ولبنان و اليمن والعراق، والتي شكلت جبهات دعم وإسناد لغزة.

تاسعاً: أفرزت هذه الملحمة وهذه الحرب أربعة اصطفافات: أولها معسكر الكيان الصهيوني وشركائه وداعميه، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، والذين ما بخلوا على الكيان بالسلاح والعتاد ولوجستياً واستخباراتياً وسياسياً ودبلوماسياً. وثانيها معسكر الأصدقاء والحلفاء، مثل الصين وروسيا وجنوب أفريقيا و إيران ودول أمريكا اللاتينية، الذين كانت مواقفهم مشرفة في المحافل الدولية وفي إدانة مجازر الإبادة والعدوان على شعبنا. وثالثها معسكر الصامتين المتخاذلين، ومعهم العاجزين وأكثرهم من الدول التي تسمي نفسها عربية وإسلامية. ورابعها معسكر الوسطاء والسماسرة، الذين لا تعنيهم القضية بقدر ما يعنيهم إرضاء "السلطان". إن هذا الفرز الواقعي حكمته المصالح والشراكات والفكر العنصري العدواني المتنكر لحقوق الشعوب وقضاياها، ولم تحكمه المبادئ والعلاقات الدولية القائمة على احترام المواثيق والقوانين الدولية. كما لم تشفع وحدة الدم والمصير والتاريخ المشترك واللغة الواحدة لأن يصطف العرب مع شعبنا، فتُرك فريسةً تنهشها الأعداء. من جهةٍ أخرى، ساهم هذا الفرز في زيادة عجز المنظومة الدولية على فرض إرادتها وقوانينها بوقف إطلاق النار، أو إدخال المساعدات، أو السماح بمعالجة المصابين، وفك الحصار عن المشافي. 

عاشراً: تسببت بتدهور الوضع الاقتصادي للكيان في كافة القطاعات السياحية والصناعية والزراعية والتكنولوجية؛ نتيجة هجرة مئات الآلاف من المستوطنين وإغلاق مئات الشركات والاستثمارات والمصانع ، وخسارة اليد العاملة الآسيوية والفلسطينية الرخيصة من الضفة وغزة، واضطرار الآلاف من العاملين للالتحاق بالجيش الغازي كجنود احتياط؛ مما أفقد هذه القطاعات موظفين ذوي خبرة، وبدوره أدى هذا الوضع إلى ارتفاع نسبة البطالة، وارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي إلى أكثر من 65%، وبلغ العجز لهذا العام نحو 23 مليار دولار، والزيادة في الإنفاق العام بلغت 12.5%. و قد تضطر نحو 60 ألف شركة إلى الإغلاق بسبب الوضع الأمني الخطير. ولهذا السبب أيضاً قامت وكالة فيتش بتخفيض التصنيف الائتماني، وبيع شركة إكسا الفرنسية استثماراتها. أدى هذا كله إلى حالة من الركود الاقتصادي. ويبقى العامل الأهم ارتفاع كلفة الحرب إلى ما يزيد على 103مليارات دولار بحسب وزارة المالية "الإسرائيلية" مؤخراً.

من نافل القول: إن هذه الملحمة شكلت ضربةً إستراتيجية على كافة المستويات للكيان مؤكدةً إمكانية هزيمته. وأن كل أنواع الجرائم والإبادات التي ترتكبها "إسرائيل" وآخرها وليس أخيرها ما سمي "بخطة الجنرالات" لإفراغ شمال القطاع وقتل وتهجير أهله؛ لن تنال من جذوة المقاومة، ولن تكسر صمود شعبنا وتمسكه بأرضه. ولن تُطوى صفحات هذه الملحمة الفلسطينية الكبرى والمستمرة منذ عام وأكثر، وإن قضى قادتها الذين صنعوها؛ فإن رفاق الدرب وإخوة المصير لازالوا على العهد مستمرين بالطوفان نحو النصر الحتمي.

 إن المشهد الأخير الذي أورثه لنا الفارس المشتبك الشهيد يحيى السنوار قائد هذه الملحمة ترك فيه إرثاً وزخماً نضالياً، وإرادةً لا تلين وإصراراً على الاستمرار بالنضال والمضي نحو الوطن فلسطين.