باتت شاحنات المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية، أداة سياسية لخلق واقع أمني جديد يتحكم ويسيطر عليه جيش الاحتلال "الإسرائيلي" في قطاع غزة، إذّ عملت عصابات المساعدات بشكل منظم ومتكرر على سرقة عشرات الشاحنات يومياً على طريق صلاح الدين تحديداً المنطقة الواقعة عند معبر كرم أبو سالم شرقاً، وهي المساحة الجغرافية التي يعمل فيها سارقو المساعدات بحريةٍ فهي تقع تحت حماية وعين العدو الذي يتمركز فيها وتبلغ 7 كيلومتر.
وفي بداية الأمر، بدأ مسلحون باعتراض وقطع طريق شاحنات المساعدات والبضائع وإطلاق النار على السائقين، ثم البدء في سرقتها ونهبها، وبيعها في الأسواق وللتجار الذين يقومون بدورهم برفع أسعارها بأضعاف ثمنها الحقيقي عند بيعها للمواطنين، الأمر الذي أدى إلى تصاعد موجات الغلاء الفاحش التي لا تتحملها جيوب المواطنين، فضلاً عن تفاقم الجوع وعدم تدفق المساعدات بشكل يتلاءم مع احتياجات السكان، خصوصاً في ظل تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية لأكثر من مليوني نسمة.
هذا الغلاء في الأسواق استنكره المواطنون بعد أكثر من عام مضى على هذه المعاناة، ما جعلهم مؤخراً يلجؤون إلى خطواتٍ إضرابيةٍ تتمثل في عدم الشراء من التجار وموردي البضائع وإغلاق الأسواق حتى تنخفض أسعار السلع الأساسية الغذائية، لكن التجار قابلوا تلك الخطوة برفع أسعارها أكثر، في خطوة تستفز وتغضب المواطنون وتتجاهل ما أراده العشائر والأهالي تحقيقه من هذا الإضراب.
حملة أمنية تستهدف العصابات
كل ما ذكر آنفاً، دفع الأجهزة الأمنية الفلسطينية في قطاع غزة، إلى محاربة هذه الظاهرة والعصابات المسلحة التي تعمل على تجويع المواطنين وتحقيق هدف الاحتلال المتمثل في تفشي المجاعة بين سكان القطاع الذين يعانون من ويلات الحرب المستمرة لقرابة 13 شهراً، إذّ أعلنت الأجهزة يوم الإثنين الماضي قتل أكثر من 20 شخصاً من عصابات لصوص الشاحنات في عملية أمنية نفذتها بالتعاون مع لجان عشائرية.
يقول مصدر في الوزارة لـ "بوابة الهدف"، إنّ "الأجهزة الأمنية ألقت القبض على عدد من التجار الذين يتعاونون مع الاحتلال ويتلقون أوامر برفع الأسعار واحتكار السلع الغذائية والتموينية"، مضيفاً أنّ "التجار المقبوض عليهم اعترفوا بجريمة التخابر مع الاحتلال والتواصل مع ضباط "الشاباك" لأهدافٍ خبيثة".
ويؤكد المصدر، أنّ "مخابرات الاحتلال سهلت إدخال البضائع لهؤلاء التجار مقابل خدماتهم التي سيقومون بها لصالحه"، مشدداً أنّه "تم التعامل معهم وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية والحالة الثورية التي يمر بها شعبنا".
ويبين المصدر، أنّ "العملية الأمنية هذه لن تكون الأخيرة، وهي بداية عمل أمني موسع تم التخطيط له مطولاً وسيتوسع ليشمل كل من تورط في سرقة شاحنات المساعدات"، مؤكداً أنّ "الأجهزة الأمنية ستعاقب بيدٍ من حديد كل من تورط في مساعدة عصابات اللصوص".
وفي أعقاب العملية الأمنية التي نفذتها وزارة الداخلية، قامت مجموعات مسلحة بمنع الشاحنات التي تحمل المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية التوجه إلى معبر كرم أبو سالم، كما وسرقوا شاحنة سولار وأحرقوها وهي فارغة.
دفع إتاوات أو الاستيلاء على الشاحنات والقتل
وفي غضون ذلك، علمت "بوابة الهدف" من مصادر مؤسساتية إغاثية، أنّ "معظم هذه العصابات المسلحة هي من البدو القاطنين شرقي رفح، حيث عملوا على قطع الطريق أمام الشاحنات والسطو على المساعدات الإغاثية، وبعض العائلات تبرأت من أفرادها الذين يقومون بهذا الفعل، إلا أنّهم مستمرين في أعمال النهب"، مشيرةً إلى أنّ "سرقة الشاحنات أصبحت عائقاً أساسياً في الإمدادات الإنسانية للقطاع التي من ِشأنها تخفيف وطأة الجوع والأوضاع المعيشية".
وبحسب المصادر، فإنّ "العصابات المسلحة تجبر سائقي الشاحنات على دفع مبالغ مالية كبيرة جداً مقابل السماح بمرورها، ومن يرفض ذلك تُنهب شاحناته، وتشمل كذلك أعمالهم بإدخال السائقين في مناطق زراعية مكشوفة، ومن ثم يستولون على المساعدات"، مبينةً أنّ "هذه العصابات تطلق النار عليهم في حال رفضهم الانصياع لأوامرهم في الوقوف إليهم أو في حال اعتراضهم على سرقة المساعدات، وقد قتل بالفعل أكثر من سائق نتيجةً لذلك".
وتوضح المصادر، أنّ "الكثير من المؤسسات التي تعمل على إيصال المساعدات إلى قطاع غزة، قد أوقفت أعمالها ودعمها بسبب عمليات النهب والسرقة التي تحدث على الطرقات من قبل العصابات"، مقدرةً أنّ حجم السرقات وأعمال النهب التي قامت بها العصابات بـ "ملايين الدولارات"، حيث تشمل مواد غذائية ومعونات، ومستلزمات طبية، وخيام، ومياه، أدوية.
العشائر: سرقة المساعدات من العصابات تتم بغطاء الاحتلال
وفي الشهور الأخيرة تكررت حوادث استهداف مجموعات التأمين الحكومية أو العشائرية التي شكلت باتفاق الفصائل الفلسطينية لحماية شاحنات المساعدات، من أجل وقف ظاهرة السرقات من العصابات إلا أنّها لم تتوقف بفعل ملاحقة الاحتلال لتلك المجموعات وقصفها، الأمر الذي أسفر عن استشهاد وإصابة الكثير منهم، في المقابل لا يقوم الاحتلال باستهداف تلك العصابات المسلحة التي تسرق الشاحنات والمساعدات تحت عينه، ما يعكس رغبة "إسرائيلية" في تجويع القطاع وقطع الإمدادات الإنسانية عنهم.
من جهته، وصف رئيس "ملتقى العشائر والإصلاح" علاء العكلوك، عمليات النهب بـ "الفعل الشائن والمرفوض من كل ألوان الطيف الوطني الفلسطيني والعشائر"، موضحاً أنّ "هذا السلوك غير أخلاقي، ولا يمكن أن يكون صادراً عن أبناء الشعب الفلسطيني، لأنه عمل مندس، ويجسّد الفوضى وعدم الأمن، وذلك لصالح الاحتلال".
وقال العكلوك، في تصريحات صحافية، إنّ "بعض العائلات إضافة إلى العشائر تبرؤوا من أبنائهم المتورطين في هذه العمليات" مؤكداً أنّ "عمليات النهب والسرقة تتم بغطاء من الاحتلال، بخاصة أنها تحدث في بؤرة تسيطر عليها قواته".
العمل الإنساني محفوف بالمخاطر
وفي ظل غياب الأمن الكامل، وسيطرة الفوضى بالقطاع، جعل العمل الإنساني فيه محفوفاً بالمخاطر، إذّ تأثرت مؤسسات دولية بشكل كبير في دعمها لعدم وجود تأمين على إدخال مساعداتها بسبب تلك الأعمال الإجرامية، ومن أكبر تلك المؤسسات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" التي أعلنت يوم الإثنين الماضي، أنّ قافلة مؤلفة من 109 شاحنات تعرضت لعملية نهب باستخدام العنف عقب دخولها إلى قطاع غزة في 16 نوفمبر الجاري، الأمر الذي نجم عنه فقدان 98 شاحنة.
وأكدت "الأونروا"، أنّ القافلة المحملة بالمواد الغذائية من الوكالة وبرنامج الأغذية العالمي، تلقت أمراً دون فترة إعداد كافية من الاحتلال، بالدخول عبر طريق غير معتاد من خلال معبر كرم أبو سالم.
وتعقيباً على ذلك، يقول المستشار الإعلامي فيها عدنان أبو حسنة، إنّ "آلاف أطنان من الإمدادات الإنسانية والمعونات التي أرسلت إلى القطاع مؤخراً، تم نهبها وسرقتها من قبل عصابات مسلحة على طريق صلاح الدين في منطقة رفح".
ويوضح أبو حسنة لـ "الهدف"، أنّ " أعمال سرقة قوافل المساعدات متواصلة، حيث لا أمن ولا أمان للإمدادات الإنسانية وشاحنات المساعدات في ظل عدم تأمينها، وسبق أنّ استهدف الاحتلال عناصر الشرطة التي كانت تعمل على تأمينها"، مشدداً أنّ "هناك حاجة كبيرة إلى تعزيز الوصول الإنساني والضمانات الأمنية وإتاحة مزيد من الإمدادات كي تصل المساعدات بشكل سريع لجميع المحتاجين إليها في أنحاء غزة بالكميات الضرورية".
منظمات دولية: الاحتلال يشجع نهب المساعدات الإنسانية
وفي الإطار، أكّد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أنّ "الأمم المتحدة مُنعت من التعامل مع الشرطة المدنية الفلسطينية لتأمين المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، وسط الفوضى والانعدام الكامل للأمن هناك"، مؤكداً أنّه في منتصف نوفمبر الحالي، تمكنت 33 شاحنة فقط من إدخال الإمدادات إلى غزة، شملت المياه والطعام والمواد الطبية الضرورية، ومع ذلك، يواصل الوضع الإنساني في المنطقة التدهور، حيث تواجه الشحنات الإغاثية تحديات هائلة في الوصول إلى المناطق المتضررة بسبب الهجمات المستمرة على القوافل وتدهور الظروف الأمنية.
أما مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، فقد بين أن "انهيار النظام والسلامة العامة في غزة، يهدّد بشكل متزايد العمليات الإنسانية والعاملين في مجال الإغاثة"، موضحاً أنّ "14 من بين 20 شاحنة مساعدات من معبر "كيسوفيم"، الذي افتتح حديثاً، قد تعرضت لإطلاق نار ونهب مما أدى إلى إصابة ثلاثة سائقين، وقد وصلت الشاحنات الست المتبقية إلى مستودع في دير البلح بوسط قطاع غزة".
وطبقاً لـ 29 منظمة دولية غير حكومية، فإنّ جيش الاحتلال يشجع على نهب المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، عن طريق مهاجمته قوات الشرطة الفلسطينية التي تحاول تأمين المساعدات.
وجاء في تقرير مشترك لهذه المنظمات، ومن بينها "أطباء العالم" و"أوكسفام" والمجلس النرويجي للاجئين، أنّ "النهب مشكلة متكررة، نتيجة استهداف "إسرائيل" ما تبقى من قوات الشرطة في غزة، وانعدام الطرق وإغلاق معظم نقاط العبور".
وأضاف التقرير، أنّ جيش الاحتلال لا يمنع نهب شاحنات المساعدات ولا يمنع العصابات المسلحة من ابتزاز المال من المنظمات الإنسانية، مشيراً إلى أنّه "في بعض الحالات حينما كان عناصر الشرطة الفلسطينية يحاولون اتخاذ إجراءات ضد اللصوص، فإنهم تعرضوا لهجوم من الاحتلال".