استحقاقات كبيرة سياسية واقتصادية وإجتماعية وملفات ساخنة تداهم الوضع اللبناني بعد العدوان الصهيوني وإتفاق وقف إطلاق النار وفق القرار 1701، إزدادت حماوة بعد الإنهيار المريع للنظام السوري السابق، وتراجع الدور الإيراني، بحيث دخلت المنطقة كلها في حقبة إنتقالية سياسية وعسكرية جديدة مفتوحة على مخاطر داهمة لم تكن متوقعة في الحسابات الاستراتيجية للصراع، وفي سرعة ميل دفة ميزان القوى الدولية والإقليمية والعربية المنخرطة في مشروع الشرق الأوسط الاستعماري الجديد لصالحها، وبشكل صادم من البوابة السورية. خصوصاً، بعد إستعصاء تحقيق هذا الميل السهل من جبهتي الصمود والمقاومة في غزة ولبنان.
الوقائع المستجدة أرخت بثقلها على المحور الإيراني برمته، وفرضت تداعياتها الخطيرة على سوريا وغزة والعراق واليمن، كما على لبنان خصوصاً بعد العدوان الصهيوني والإتفاق على وقف إطلاق النار وتداعياته، وعلى سلة متطلبات إعادة تشكيل السلطة السياسية بما فيها موقع رئاسة الجمهورية التي تحكمت بمفاصلها وقراراتها شركاء التدخل والوصايات الغربية والعربية منذ ما قبل إتفاق الطائف عام 1989.
اليوم، وفي ظل الإستفادة من مهلة الستين يوماً للبدء بتطبيق إتفاق 1701 الذي أعلن في 27 نوفمبر الماضي، ومع إرتدادات الزلزال السوري، تسعى القوى الدائرة في فلك الإمبريالية الاميركية المحلية والعربية والإقليمية لممارسة لعبة تشكيل السلطة على قاعدة الريح والخسارة، وفق موازين القوى الجديدة، تكسب بموجبها أميركا على صك الوصاية، وعلى تعهد بتوفير ضمانات مريحة والسير بعملية التطبيع مع العدو الصهيوني، والإنتهاء من المقاومة الإسلامية وسلاحها خارج إطار الشرعية. وإلا فالويل والثبور وعظائم الامور بتأجيج الفتن والصراعات وخلق الفوضى، مع تعميم قرار المقاطعة الخليجية العربية للبنان وإغلاق أبواب المساهمات في الإعمار والتعويضات، والتلويح بالعقوبات، وعدم الإلتزام بالقرار 1701. لا سيما بعد فتح شهية "نتنياهو"على إبتزاز المقاومة الاسلامية وتقييد حركتها والتزامها بمفاعيل الإتفاق ليسرح ويمرح في الجنوب اللبناني كما يريد دون رقيب أو حسيب. بالإضافة إلى نشوة الإنتصار الكبير والمريب الذي حققه بإحتلال المرتفعات السورية وتوغل جيشه بعمق أربعين كيلومتر داخل الأراضي في الجنوب السوري، وتدمير البنى العسكرية والعلمية وكل مقومات الدولة السورية من دون مقاومة أو حتى موقف لقوى الامر الواقع الجولانية في سوريا، ومن إحكام تطويق المقاومة اللبنانية من الجانب السوري وقطع طرق الإمدادات العسكرية عليها. هذا عدا، عن تصريحه إثر الاتفاق "بأن الحرب مع لبنان لم تنته". لذلك، لم يلتزم نتنياهو لحظة بالإتفاق بالتوطؤ مع الاميركي، ليسجل حتى اللحظة أكثر من 850 خرقاً له في الجنوب والبقاع (قصف وتفجير وجرف منازل في القرى الحدودية، وتمشيط الوديان، وإستهداف المواطنين ومنعهم من العودة لقراهم ومنازلهم)، كمحاولة منه لتحقيق ما عجز عنه إبان العدوان، بفعل قوة وثبات وتضحيات المقاومة التي تصدت ببسالة لعدوانه البري الوحشي على مدى شهرين كاملين، وأفشلت أهدافه، رغم إتساع هجماته وتعدد محاورها الحدودية، ورغم تجهيزاته وتقنياته العسكرية القاتلة والمدمرة التي إستهدفت البشر والحجر في كل لبنان.
أمام المتغيرات السياسية والأوضاع المقلقة في لبنان، تحاول القوى اليمينية – الطائفية التقاط الفرصة لتحقيق أهدافها الأصلية المتعلقة بشعار لبنان أولاً، وهي أهداف تطال إعادة تشكيل التوازنات الداخلية، وسلاح المقاومة الاسلامية، والحياد، وكل خطوط الصراع ومسار التفاوض والتطبيع مع العدو الإسرائيلي، وطبيعة العلاقات مع سوريا، وتحالفات الحكم في لبنان، صلاحيات رئيس الجمهورية..الخ.
في المقابل، تحاول قوى الممانعة – الطائفية (ورأس محورها حزب الله) الاستفادة من هدنة ال60 يوماً، للملمة وضعها الميداني والعسكري والسياسي والتنظيمي، وتقييم قدراتها وإطرها بعد الخسائر والتضحيات الكبيرة والقاسية التي لحقت بها. بالإستدارة نحو الجبهة الداخلية وإستحقاقاتها الداهمة، لا سيما بعد زلزال سوريا، لمحاولة التماسك وإظهار القوة قدر الإمكان. وبما تسمح الظروف لعدم الاستعجال في تقديم تنازلات أمام شركائها في السلطة، والتزامها بإتفاق1701، وإنتخاب رئيس جمهورية وفق الدستور، وبإتفاق الطائف، والمساهمة بإعادة الإعمار، وتنشيط مؤسسات الدولة المنهارة. وهي مؤشرات دالة على تموضعها السياسي الداخلي الراهن في محاولة لضبط الإيقاع، والتخفيف من إندفاعة الأخصام، والمساومة على أي تغيير محتمل ضمن تبدل الحصص داخل مكونات النظام. بالرغم من كل الخلافات السياسية العميقة بين المحورين. هذه المؤشرات لا تبتعد عن إتفاقات تقاسم الحصص السابقة لناحية إعادة تعويم النظام البرجوازي التبعي- الطائفي ذاته، برعاية خارجية، واستمرار أزماته الوطنية عالقة ومؤجلة وجاهزة غب الطلب للإقتتال الداخلي لمنع التغيير الديمقراطي.
إن إنتخاب رئيس للجمهورية ضرورة وطنية،لا غاية طائفية أو حاجة خارجية. لذلك، فإن المشروعية الوطنية التي يكتسبها أي رئيس قادم ليس أسمه أو صفته ورتبته، بل مشروعه للإنقاذ الوطني الشامل إلى جنب مع الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية : مبدأ الغاء الطائفية، وفصل السلطات، وتجهيز وتأهيل جيش وطني إلى جانب مقاومة شعبية، واقتصاد وطني منتج، وقانون إنتخاب ديمقراطي نسبي وخارج القيد الطائفي، وحقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية، وتشكيل مؤسسات للمراقبة والمحاسبة.. وهذه الاسس تبني قواعد صلبة لبناء الدولة الوطنية العلمانية الديمقراطية المقاومة. وما عدا ذلك، فإن إنتخاب رئيس للجمهورية بقرار خارجي وإتفاق محلي، سيكون رئيس شركة إدارة الأزمة، وتجديد للتحالف الثلاثي المقدس السياسي الرأسمالي الريعي والطائفي المفلس.
إن مصير جلسة إنتخاب الرئيس المقررة في التاسع من كانون الثاني 2025(بعد شغور الموقع من أول نوفمبر 2022 لغاية اليوم) ضبابية وغير واضحة بعد. والكتل النيابية المقررة لا تمتلك قدرة تصويتية على حسم إسم أي مرشح. وعلى طريق "قصر بعبدا" زحمة مرشحين بأكثر من 14 مرشحاً مارونياً، وبورصة أسماء مطروحة للمناورة أو الحرق أو الغربلة من الداخل والخارج. فالفرنسي (ماكرون) مهتم بالموقع ولبنان (آخر معقل له في المنطقة)، ويسوق لإسم المصرفي سمير عساف. ومع تراجع حظوظ سليمان فرنجية للرئاسة (مرشح الثنائي الشيعي)، فإن أسهم أسم قائد الجيش جوزيف عون ترتفع نسبياً(مرشح وليد جنبلاط)، وليتم التداول بأسماء مثل جهاد أزعور أو جورج خوري.. ليأتي تصريح مستشار ترامب لشؤون الشرق الأوسط بولس مسعد ليفرمل الجلسة الإنتخابية في 9 كانون الأول2025، ويخلط الأوراق من جديد. خاصة، وأن أميركا والسعودية لم تعلنا بعد عن أسم أي مرشح ( ربما - وضمناً السعودية تطرح أسم قائد الجيش). وهذا ما دفع سمير جعجع (القوات اللبنانية) نحو محاولة تسويق شخصه للموقع، مستفيداً من الإشارات الاميركية والرهان على كسب الوقت، أو فشل وتطيير أو تأجيل الجلسة المقررة للإنتخاب، لتقديره بأن تتغير الامور لصالحه كرئيس أو أقله لتكريس زعامته وفق موازين القوى بعد دخول ترامب البيت الأبيض. هذه اللوحة المعقدة في تخبط الداخل اللبناني، ستبقى مرهونة بقرار الفصل والحسم من الخارج. وقد تعود الشعب اللبناني خلال الوصاية السورية سابقاً على كلمة سر "الربع الساعة الأخيرة" التي قد تقصر أو تطول اليوم بإنتظار طبخة الوصاية الأميركية.
***
لعنة نظام الطائفية والتبعية في لبنان تتلبس القوى الحاكمة المسيطرة في لبنان. يجب فكها وحلها من قوى البديل الثوري. فمرحلة الصراع الراهنة في لبنان والمنطقة، تقتضي بالضرورة خلق إطار جبهة وطنية لبلورة حالة سياسية وشعبية من القوى اليسارية والعلمانية والديمقراطية والعاملة والنقابية والقطاعية والشبابية والنسائية، تواجه بمشروع وطني ديمقراطي مقاوم، ومن خلال أطر وآليات عمل تستجيب للمرحلة، وإجراء تقييم شامل يصب في خدمة أهداف المشروع: في مراكمة فعل "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" وتعزيز دورها وخبراتها وقاعدتها الشعبية من أجل التحرير من رجس المحتل الصهيوني، وفي مقاومة التطبيع أو سلام الوصاية الترامبية ، وكل أشكال التدخل والإنتداب والتبعية للخارج. وفي كيفية الإستنهاض ببرنامج الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي من أجل التغيير الديمقراطي. وعمارة هذا المشروع الوطني الديمقراطي تصب حكماً في خدمة مشروع حركة التحرر الوطني العربية. وفي القلب القضية المركزية - فلسطين. وحق الشعب الفلسطيني في المقاومة والتحرير والعودة وإقامة الدولة الوطنية الديمقراطية وعاصمتها القدس ، كما حق الشعب السوري والشعوب العربية في النضال والمقاومة من أجل التحرر الوطني والاجتماعي الشامل. وما عدا ذلك، سنبقى في لبنان والمنطقة نتتظر أوامر اليوم التالي.