كتب د. عابد الزريعي
تأتي الذكرى الخامسة والسبعون لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لحظة تاريخية فارقة، بكل المقاييس السياسية والنظرية والنضالية، الأمر الذي يجعل التوقف والاحتفاء بالمناسبة يتجاوز حدود الاحتفال المعهودة، بما تنطوي عليه من تهاني مكررة من خارج الإطار، وشعور بالغبطة والرضى عن الذات من داخله. تجاوز المعهود يقود بالضرورة إلى مساءلة الموجود، وتفحص الواقع ببعديه الراهن والتاريخي، من أجل صقل أدوات تسمح بتفكيك وتجاوز معضلات اللحظة الوطنية والقومية، وتطوير منجزاتها. خاصة وأن المسار التاريخي للجبهة الشعبية ينضوي على كم هائل من زخم التجربة التي تسمح إذا ما تمت مساءلتها بعقل منفتح وفكر جريء، ببلورة الأدوات المناسبة. ذلك المسار الذي غرس جذره التاريخي في الفكر القومي، ونما جذعه في فضاء اليسار الماركسي ال لينين ي، وامتلك القدرة على المزج الخلاق بين القومي والوطني، مع الوعي بأن الوطني الفلسطيني، لخصوصيته يمثل نقطة ارتكاز وجذب. هذا المقال محاولة للتوقف أمام تجربة الجبهة الشعبية بهدف استخلاص بعض القضايا التي تشكل حاجة موضوعية لحركة التحرر العربية في اللحظة الراهنة، وذلك ضمن العناوين الآتية:
أولاً: ملامح اللحظة الراهنة:
تحل الذكرى الخامسة والسبعون وقد مضى على طوفان الأقصى في اندفاعه البطولي، وزخمه النضالي أكثر من عام. محققاً من الإنجازات والخبرات ما لم يكن وارداً في حسبان أحد. ومن الجلي أن الجبهة الشعبية قد شكلت أحد الروافع الأساسية لهذا الزخم، جنباً إلى جنب مع مختلف القوى الفلسطينية المقاتلة. كما تتبدى ملامح اللحظة في انحسار مواقع الإسناد لطوفان الأقصى، واقتصارها على اليمن (البعيد) بشكل أساسي، وإلى حد ما بعض الفصائل العراقية، بعد انكفاء الجبهة اللبنانية (لأسباب موضوعية). كما تأتي الذكرى في ظل ما حصل في سورية وما جرى على أرضها، من تدمير لكل مقدراتها العسكرية، وتقدم العدو إلى مساحات جديدة داخل أراضيها، إضافة إلى ما يكتنزه الحدث من أخطار ومخاطر، تلقي بظلالها على واقع ومستقبل الأمة وأداتها الكفاحية، خاصة وأن الحدث قد خيم على العقل والوجدان، وخلق حالة من الارتباك في وسط جمهور محور المقاومة، تبدى جزء منه في تبادل الاتهامات الخفية بين بعض أطرافها، وتحالفاتها. وإذا ربطنا هذا المشهد بكامل اللوحة، نجد أن هناك نهوضاً فلسطينياً نضالياً، رغم الأوجاع، في ظل حالة انكفاء عربي تبدت على المستوى الرسمي في اختيار الوقوف في الموقع المضاد، سواء بشكل علني أو ضمني. وقد جاء الحدث السوري ليعزز الموقف الرسمي المتخاذل، وليشكل ثقلاً ضاغطاً على مستقبل الأمة. كما تتبدى في حالة العجز على مستوى فصائل حركة التحرر العربية، تحول بينها والارتقاء بدورها إلى مستوى الإسناد الفعلي والمؤثر لهذا النضال، يترافق ذلك مع حالة من الجيشان العاطفي في أوساط الجماهير العربية، وانسحاب فعلي من المشاركة والإسناد الملموس.
هذه الصورة بشموليتها تكشف عن قضيتين ترتقيان إلى رتبة التحدي الواضح والمحدد على المستويين الوطني الفلسطيني والقومي العربي. تتبدى أولى هذه القضايا في أن اكتمال تفكيك الطوق من حول الكيان الصهيوني (مصر- الأردن- سورية) وتراجع حركة التحرر العربية وتشتت مختلف أجنحتها جعل من المسالة القومية نقطة الضعف الرئيسة في برامج حركة التحرر العربية، وفي ذات الوقت هي نقطة القوة التي يمكن من خلالها النهوض من جديد. وتتبدى القضية الثانية في أن حالة النهوض في مركز أو بؤرة المواجهة (القلب) أي الموقع الأساسي (فلسطين) في ظل تحديات جديدة جعل من العامل الفلسطيني وبعد كل هذه السنوات، عنوان الأمل الذي يمكن من خلال الالتفاف حوله، أن يوفر شروط النهوض الجديد على مستوى الأمة. إن العلاقة القائمة بين القضيتين تفتح الباب على الانتباه لتجربة الجبهة الشعبية، تلك التجربة التي تختلف عن غيرها، في كونها شقت طريقها ومضت في مسارها التاريخي على خط التفاعل والتقاطع الخلاق ما بين القضيتين، الأمر الذي يجعل من تمعنها واستخلاص ما يمكن أن يستخلص منها ضرورة موضوعية تسمح بالإجابة على تحديات اللحظة الراهنة..
ثانياً: الجبهة كحاجة موضوعية:
الحاجة الموضوعية للجبهة، تعني مسألتين، الأولى ضرورة الاستمرار والتطور وهي مسألة ذاتية تتعلق بأطر الجبهة ومؤسساتها المختلفة، وتصبح هذه الضرورة عاملاً محرضاً في حال وعي عميق بأهمية الوجود الفاعل في الفضاء النضالي، والوعي العميق بأهمية هذا الوجود، لأسباب وطنية عامة، وليس لأسباب تنظيمية خاصة. وبمعنى أدق إدراك الدور. والثاني إدراك ووعي أن هذه التجربة في بعدها التاريخي ينطوي على مجموعة من الخبرات والدروس، التي يسمح الاسترشاد بها، الإجابة على معضلات الحاضر وتحدياته، وهي مسألة ليست خاصة بالجبهة وأطرها فقط، وإنما بالأساس بسعي فصائل حركة التحرر العربية، ووعيها بضرورة الخروج من المأزق الراهن، بما يستدعيه ذلك من الاستنارة ببعض التجارب التي نمت في سياقها ومن ضمنها وأهمها تجربة الجبهة الشعبية، لأنها في عمقها التاريخي تكاد تتقاطع مع التحديات المفروضة. على ضوء ذلك فإن الحاجة الموضوعية هي حصيلة تفاعل بين المسألتين على أرضية الانتباه للمفاصل والمحددات الرئيسة للتجربة.
ثالثاً: المحددات الرئيسة للتجربة:
هناك مجموعة من المحددات الرئيسة لتجربة الجبهة، يسمح استلهام جوهرها بتوفير حزمة من الإجابات على تحديات اللحظة الراهنة وهي:
1 ــ أن المؤسسين الأوائل للجبهة وجزء كبير من كادرها بدأ تجربته النضالية في إطار الفكرة القومية، وذلك في سياق الرد على هزيمة عام 1948. وعندما تم بناء أدوات وطنية، كاستجابة لحاجات موضوعية في سياق هذا التوجه كان الأمر بمثابة الإغناء وليس الإلغاء للفكرة الرئيسة.
2 ــ أن ميلاد الجبهة الشعبية في سياق التحول إلى حزب ماركسي لينيني، لتكون قوة يسارية اجتماعية، وهي العملية التي قادها الرعيل الأول، لم تقطع مع المسألة القومية بل بقيت هذه المسألة تشكل النسغ العميق الذي ترتوي منه والذي يميزها عن غيرها من الفصائل الأخرى.
3ــ الخبرة التنظيمية المتطورة. خاضت الجبهة تجربة بناء أطر تنظيمية متجاوزة لما هو وطني، وذلك بعد التحول، وبغض النظر عما انتهت إليه هذه التجربة إلا أنها في جوهرها تعبر عن الانتباه إلى الجمع الخلاق بين الوطني والقومي ببعد يساري اجتماعي واضح.
4 ــ الدعوة الدؤوبة للوحدة الوطنية، وصياغة شعارات وحدوية تستجيب لتحديات قائمة في ظل الخلاف السياسي (وحدة الميدان ــ وحدة نقد) هذا الإصرار لم يكن على حساب البرنامج، لكنه يكشف عن مسألة تغيب عن كثيرين، وهي وعي الجبهة لموقعها ودورها ورفضها لسياسة الإقصاء، شرط توفر الأسس السياسية والنضالية.
تقود القراءة الدقيقة لهذه المحددات، إلى أن الخاصية الأساسية لهذه التجربة، التي يمكن أن تشكل مبادئ عمل، تسمح بالإجابة على تحديات اللحظة الراهنة التي تواجه حركة التحرر الوطني الفلسطينية وحركة التحرر العربية، تتمثل أولاً في الجمع الخلاق بين الوطني والقومي. ثانياً في أن الوطني الفلسطيني في جوهره عنصر قومي، وهو الذي يشكل ضمانة التفاف من قبل كل القوى، وبالنتيجة يوفر أرضية مناسبة للالتقاء. ثالثاً إن العامل القومي يحتاج إلى ابتكار أدوات تنظيمية جديدة تسمح بتأطير فصائل حركة التحرر العربية في أطر ديناميكية وفاعلة. رابعاً إن البعد الاجتماعي والديمقراطي مسألة أساسية وضرورية في بناء العلاقات بين هذه القوى وفي برامجها النضالية. خامساً تجاوز سياسة الإقصاء وتعزيز الالتقاء على أرضية البرامج وليس الأسماء. ومن الجلي أن هذه القضايا هي القادرة على التفاعل الإيجابي مع معضلة خريطة توزع وتشتت القوى على الساحة الفلسطينية وكذلك حركة التحرر العربية.