كتب وسام رفيدي
ربما يسارع البعض عندما يقرأ عنوان المقالة، بالاعتقاد أنني أعيد النظر بانحيازاتي لنهج المقاومة والمقاومين، على غرار أولئك (العقلانيين) الذين لا يرون في معركة الطوفان سوى مناسبة للطعن بذلك النهج والقابضين على جمره، تحت شعارات (العقلانية)، ونبذ (الشعبوية)، و(التفكير الهادئ والنقدي الضروري). تلك نغمات نسمعها في الساحة الفلسطينية منذ انطلاقة الثورة المعاصرة، فكما كان هناك دائماً نهج مقاوم، كان على المقلب الآخر نهج معادٍ للمقاومة، أو بحده الأدنى لا يتفق مع نهجها، وإن لم يعاديها، تحت شعار (الظروف الموضوعية غير مهيأة). ورغم أن النهج المعادي للمقاومة، وعبر خياره الاستسلامي تماماً في أوسلو، أوصلنا لكارثة محققة ومذلة منذ 34 عاماً، إلا أنه يتمسك بخياره، وكأنه يصر على موقعه المتذيل والخادم لسياسات المستعمِر.
مثلما تطرح المعارك الكبرى، التي تؤسس لمرحلة جديدة، أسئلة وقضايا تستوجب فحص المسلمات والتوجهات، هكذا أيضاً تفعل معركة الطوفان كمعركة كبرى، تطرح أيضاً أسئلة وقضايا، ولكن ليس على قاعدة نقض فكر المقاومة ومنهجها، ولا إعلان الهزيمة، رغم التضحيات والخسائر هنا وهناك، أو الاحتجاج بحجم الضحايا للطعن أصلاً في المقاومة، بل على قاعدة أن المقاومة خيار لا بديل عنه، زكّته تجربة شعبنا وتجارب الشعوب الساعية للتحرير، وقد تم تجربة الخيار البديل، التسوية السياسية المذلة منذ 34 عاماً، كما تجربة التعلق بأهداب الشرعية والقانون الدوليين منذ 76 عاماً، وكأن حركة التحرر الفلسطينية منظمة غير حكومية، وكلا الخيارين فشلا فشلاً مريعاً ولم ينتجا لا حقوق ولا مطالب، بل في أفضل الأحوال أضاعا البوصلة والاتجاه طوال سنين وسنين.
الكيان لا يحتمل حرب استنزاف
وهذه مسلمة في الفكر والتوجه السياسي الفلسطيني تلازم التحليلات والمقاربات السياسية والإعلامية. ومنذ 8 أكتوبر كانت راسخة، وبُني عليها تقديرات أن المعركة لن تستمر أكثر من أسابيع أو شهور بالحد الأقصى لأن (العدو لا يحتمل حرب استنزاف). لم تأتِ هذه المسلمة من فراغ، إذ تستند لوقائع الحروب السابقة التي سعى الكيان فيها لحسم المعركة سريعاً، فكل معارك الكيان لم تصل المعركة لشهور ثلاثة، بل سعى سريعاً لوقفها بطريقة ما. وبناءً على تلك التجربة التاريخية كان من المتوقع، وذلك علميٌ تماماً، الاستنتاج بأن العدو لا يحتمل استنزافاً بشّرته به المقاومتان الفلسطينية واللبنانية منذ الأسابيع الأولى للمعركة. ومع أن أصواتاً عديدة من صحافيين ومحللين وجنرالات متقاعدين حذّروا من أن ما يجري هو حرب استنزاف، إلا أن القرار كان استمرار الحرب وعلى جبهات متعددة، فلسطين، لبنان، اليمن، العراق وإيران، ومَنْ يعتقد أنها توقفت على بعض تلك الجبهات، مثل لبنان، فعليه إعادة حساباته، فكل المؤشرات، بعد سقوط نظام الأسد، والمنجزات الصهيونية في سورية ولبنان، ترجّح نقض الاتفاق في لبنان، وتوجيه ضربة قوية لليمن للسعي للإطاحة بنظام أنصار الله، بالتعاون مع أنظمة السعودية والإمارات، وكذا ضربة قوية لإيران لتصفية معظم قدراتها العسكرية إن تأكد للصهاينة محدودية القدرة الإيرانية على الرد.
باختصار، لم يوقف الصهاينة حربهم رغم أنها بدأت تكتسب طابع الاستنزاف منذ شهور. أما أنهم يستندون في قرارهم هذا للدعم غير المحدود للإمبرياليات العالمية في أوروبا وأمريكا، فهذا صحيح إلى حدٍ ما، دون المبالغة بذلك حد الافتراض أن الكيان بذاته لا يمتلك بعضاً من مقومات الاستمرار في الحرب، علماً أن التقدير المنطقي كان يجب أن ينطلق من حقيقة الدعم المطلق للإمبرياليات للكيان في كل الظروف، وبالتالي قدرته على خوض حرب الاستنزاف.
واضح، على الأقل بالنسبة للمقاومتين في فلسطين ولبنان، أنها بنت نفسها استعداداً لحرب تطول، وهذا تأكد من قدرة حزب الله على استرداد سريع لقدراته البنيوية على التحكم والسيطرة والقيادة بعد الضربات القاتلة لقيادته ومقاتليه، وواضح من استمرار المقاومة في القطاع في الفعل الميداني حتى بعد 15 شهراً. إن هذه الاستعدادية يجب أن تؤسس لحقيقتين، الأولى نقض فكرة أن الكيان غير جاهز لحرب استنزاف طويلة، والثانية اتخاذ المقاومة في المرحلة المقبلة قراراتها بالاستناد للحقيقة الأولى كبنية وتجهيزات وتوقيت.
الكيان لا يترك أسراه طويلاً
ليس فقط ثبت أن قيادة الكيان لا تضع أسراها على رأس أولوياتها، بل أنها مستعدة للتضحية بهم دون أن يرف لها جفن، وما بروتوكول هانيبال بإعدام الأسير والآسر إلا دلالة على ذلك. كل البروبوغاندا الإعلامية حول العمل (لتحرير الرهائن) معدة للاستهلاك المحلي وموجهة تحديداً لأهالي الأسرى، وحجم الدعوات للفعاليات الشعبية لإطلاق سراح الأسرى بكل المقاييس غير شاملة وغير كبيرة ولا ضاغطة بالتالي، وبالتالي تصرف الكيان بأريحية طوال 15 شهراً ولم يضع أسراه على رأس أولوياته.
من وجهة نظر الكيان فسلوكه منطقي تماماً. لماذا يخسر معركة وجودية تاريخية بالتنازل للمقاومة من أجل عشرات الرهائن؟؟؟ هذا ما كان يقوله باستمرار عتاة الفاشيين رداً على أهالي الأسرى. ولنتذكر أن التوجه لإطلاق سراح شاليط استغرق أكثر من 5 سنوات!!! في هذا دلالة كافية على ضرورة نقض فكرة أن الكيان لا يحتمل إبقاء أسراه في الأسر، فتلك أخلاقية إنسانية لا محل لها في الأيديولوجيا الصهيونية.
الكيان لا يحتمل الخسائر البشرية والاقتصادية
وتلك أيضاً مسلمة كانت، وما زالت، العديد من التحليلات والتصريحات تُبنى عليها، حتى بعد 15 شهراً. بالتأكيد تزعج الكيان خسائره الاقتصادية، ولكن لن يوقف حربه بسبب ذلك فاقتصاده قوي، والدعم الإمبريالي الغربي، ورأس المال الصهيوني، يسنده، لذلك فخسارة حفنة مليارات لن تدفعه لوقف الحرب.
أما الخسائر البشرية فهي بكل المقاييس كبيرة لمجتمع هو بضعة ملايين، أخذاً بعين الاعتبار خسائر الكيان طوال حروبه كلها. خسر الكيان في حربه في العام 1948 لتهجير شعبنا حسب إحصائياتهم 5600 قتيل وهو رقم متواضع قياساً بحجم الهدف المنشود، تهجير شعبنا وتأسيس دولتهم، أما في العام 1967 فخسرت بين 650-800 كتقدير نسبي لمعظم الأرقام، فيما في حرب أكتوبر 73 قُتل 2656، أما في اجتياح 82 للبنان فقُتل 376، فيما في الحرب على القطاع 1641، ومعظم هذه الأرقام حسب الإحصائيات الإسرائيلية التي بات معروفاً، حتى بالنسبة لبعض المحللين والإعلاميين الإسرائيليين، أنها تخفي حقيقة قتلاهم.
ومع ذلك، ورغم مئات القتلى وآلاف الجرحى وحوالي 20 ألف معاق، فهم يتحملون ويستمرون في حربهم على القطاع.
وهنا ينبغي التوضيح أن تحملهم للخسائر البشرية والاقتصادية لا يعني أنها لا تؤثر بالمطلق في قراراتهم، خاصة في ظل التنافر والتناقض بين مختلف المستويات، الذي يظهر أحياناً، وظهر كثيراً، في الحرب على القطاع وجنوب لبنان، وبالتالي استخدام المؤسستين العسكرية والأمنية لتلك الخسائر لوقف الحرب، كما حصل في لبنان بعد معركة البياضية، ولكن نعتقد أن تلك الخسائر لم تكن يوماً هي الحاسم في قرارات الحرب. ففي القطاع، ورغم الإعلان منذ شهور عن (تطهير) شمال القطاع من المقاومين، إلا أنه في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا تنفجر في وجوههم العمليات الفدائية، ولا يبدون متوجهين لوقف القتال، إلا لفترة محدودة، كما نتوقع في الجنوب اللبناني.
أما التوضيح الثاني الذي ينبغي تأكيده فهو أن الكيان، وإن كان يعج بالتناقضات والصراعات التي ظهرت على السطح طوال 15 شهراً، إلا أن الحقيقة التي تتأكد في كل المعارك والحروب معه، أن هذا الكيان، شأن أي تجمع استيطاني استعماري، يتوحد، رغم تناقضاته، في وجه شعبنا ومقاومته، بحيث تنتفي تماماً التناقضات.
ختاماً ليس فيما تناولناه أعلاه مجمل القضايا والأسئلة التي طرحتها معركة الطوفان، ولكن حسب هذا المقال التعريج على بعضها، فيما على الفكر السياسي والبحثي أن يتعمق أكثر لحدود لا تسمح بها هذه المقالة.