Menu

اسمك باقٍ... ومأثرتك خالدة!

أحمد بهاء شعبان

نشرت في مجلة الهدف العدد (67) (1540)

اسمك مجهول.. ومأثرتك خالدة" هو ترجمة النقش المحفور على النُصب التذكاري للجندي المجهول، في حديقة "ألكسندروفسكي" في موسكو، تخليداً لذكري مئات الآلاف من الشهداء الأبطال، مجهولي الأسماء، الذين ضحوا بحياتهم الغالية فداءً للوطن والحرية، وقد اخترت وأنا أكتب هذه الكلمات عن أحد معلمي الكبار، ورفيق الدرب والمسار، القائد "أبو أحمد فؤاد"، أن أُدخل بعض التعديل على هذه الكلمات البسيطة والبليغة، لعنوان كلماتي المُستقى من هذا النص البليغ، فراحلنا العَلَم والمُعَلِّم، الذي غادرنا منذ أيام، وترك خلفه مآثره الخالدة، كان ملء السمع والبصر، حتى فترة وجيزة، وسيبقى اسمه معلوما للصديق والعدو، وذكره محفوفا بالاحترام والإجلال، وبصمته النبيلة خالدة على العديد من الإنجازات والمآثر.

علاقتي بالقائد الكبير لم تكن محض علاقة عادية، وإنما كانت رابطة وثقى تجمع بين رفيقين، من وطن عربي واحد، وإن كان مُمزقاً بفعل تدخُّلات خارجية وأسباب داخلية عديدة، ومن بلدين عربيين مُهمين، فلسطين ومصر، ارتبطا بمصير مُشترك، بفعل عوامل الجيرة ومفاعيل التاريخ، ولذا فقد وَحَّدَ بينهما التشارك في حلم واحد، والعمل الدؤوب باتجاه تحقيق الأمل الواعد، وربطتهما وشائج النضال السامية، التي لا يشوبها البحث عن منفعة ذاتية، أو التصارع حول مواقع أو مكاسب رخيصة، وإنما زانها احترام كامل مُتبادل، ومني، لقائد مُجرب، ومُناضل مُتمرس، زاهد في متع الدنيا الصغيرة، يحيا من أجل يوم تتحرر فيه أرضه، ويمنح ذوب وجدانه لقضية شعبه وقضيتنا: تطهير التراب الوطني الفلسطيني من رجس الإمبريالية والصهيونية.

وقد كان من نِعم الحياة أن لقاءاتي بالعزيز الراحل، تعدّدت، في العقود الأخيرة، بصورة متواترة، لأسباب عديدة، أولها: تكرار زيارة وفود الفصائل الفلسطينية الوطنية التقدمية إلى القاهرة، للمشاركة في جلسات المباحثات حول أوضاع القضية وتطوراتها الإيجابية والسلبية، وجلهم من أصدقائي الحميمين، وفي مقدمتهم كان الرفيق "أبو أحمد فؤاد"، خاصةً في الفترة التي تولى فيها مسؤولية نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وثانيها: تكرار زياراتي إلى بيروت للمشاركة في الأنشطة المقاومة للتطبيع مع العدو الصهيوني، والمُساندة لصمود الشعبين الشقيقين: الفلسطيني واللبناني، والتي تزايدت بعد تشكيل "الجبهة العربية التقدمية"، بمبادرة رفاق من لبنان وتونس والمغرب وسوريا وموريتانيا، وليبيا، ودول عربية أخرى عديدة، في القلب منها فلسطين ممثلة في "الجبهة الشعبية"، التي مثَّلها في لجنتها التنفيذية الرفيق "أبو أحمد" وأطراف مناضلة أخرى. وثالثاً: حينما شرَّفني الرفيق القائد " جورج حبش "، باختياري عضواً بمجلس أمناء "مركز الغد العربي للدراسات" والذي أسسه "الحكيم" بعد اعتزاله العمل التنظيمي المباشر، واختاره منبراً لمواصلة نضاله الفكري والثقافي، من مقره في دمشق، وكانت لقاءاتنا به، تتم غالباً في حضور ومشاركة الرفيق "أبو أحمد"، الذي تحلت إسهاماته دائماً بالموضوعية وسداد الرأي، والرصانة والترفُّع عن فُحش القول، والتركيز على "لُب القضية": ما الذي يخدمها ويُضيف إليها في بداية ونهاية المطاف، كما شرّفني الرفيق "أبو أحمد" بأن نتشارك في صياغة كتيب توعوي صغير حمل عنوان: "الشرق الأوسط الجديد: بين المقاومة وبدايات النهوض الشعبي".

وقد كان لدى الرفيقين الراحلين، "الحكيم" و"أبو أحمد"، إدراكاً ثاقباً لخطورة وأهمية دور مصر التاريخي والحضاري في المنطقة، وكذلك فيما يخص القضية الفلسطينية ومساراتها، في فترات نهوض مصر وصعود المد القومي والنضالي فيها، والأخطر في فترات تراجع هذا الدور وبروز الاتجاهات الانعزالية والتابعة المُهيمنة عليها.

وهو إدراك صحيح، تثبت الأيام صدقه، فمصر ـ مهما أرجف المُرجفون ـ هي قوة فاعلة، إن لم تكن "القوة الفاعلة"، وعامل مؤثر للغاية في الوضع العربي، سلباً وإيجاباً، خاصةً منذ أقدم "أنور السادات" على توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" والصلح مع العدو الصهيوني، وفتح بوابات "التطبيع" العربي البائس أمام العدو لاجتياح المنطقة، الأمر الذي رفضه الشعب المصري رفضاً قاطعاً، وما زال، حتى الآن، رغم أن النظام المصري كان أول من سعى في هذا الطريق المحفوف بالعار والمخاطر.

وقد كان للرفيق "أبو أحمد" ذات النظرة الصحيحة لأهمية الدور المصري وانعكاساته المُباشرة، وخطورته في كل الأحوال، بالنسبة للواقع العربي عموماً وبالنسبة للقضية الفلسطينية على وجه التحديد، وهي ذات النظرة التي أوضحها الرفيق "جورج"، بقوله: "إن دور مصر في المنطقة هو الأساس، وخروجها عن ساحة الصراع خسارة كبيرة لنا جميعاً، ستترك آثاراً سلبية هامة في كفاحنا ومسيرتنا، وعلينا أن نبذل جهدنا الأقصى لكي نقاوم مسار تصفية القضية، حتى تعود مصر إلى سابق عهدها ودورها".

وإضافة إلى الخبرة السياسية الرفيعة التي تراكمت عبر السنين لدى الراحل الكبير، فإنه كان يمتلك وعياً عميقاً، وفهماً ناضجاً لمضمون وركائز "حرب التحرير الشعبية"، وخبراتها المُتراكمة لدى الشعوب الصديقة، التي سبقت الشعب الفلسطيني في خوض غمارها، ومن نافل القول إنه كان أحد أعمدة العمل الفلسطيني المسلّح، جامعاً في معيته خبراتها في الاتحاد السوفييتي السابق، وكوبا، والصين، وفيتنام، وغيرها.. وكنت دائماً ما أتساءل كيف يتسنى لمناضل فذ مثله، قاد، ورفاقه، جانباً لا يُنسى من معارك التصدي للعدوان الصهيوني، مثلما حدث في أعوام 1978، 1982، وغيرهما، بصلابةٍ واقتدار، أن يكون على هذه الدرجة من الرقّة والدماثة، والترفّع والحنو، ورهافة الخلق والحس الإنساني الراقي، إلّا أن يكون ابناً باراً لهذا الشعب الفلسطيني الأسطوري، الذي حيّر العالم كله، بصبره وصموده، وقوة بأسه وعظمة احتماله؟!

*******

وقفت أمام شاشة التلفزيون أشهد المنظر الملحمي، الذي تتقاطر فيه جموع أبناء الشعب الفلسطيني العظيم، في طوابير لا نهاية لها، مُتحديةً التدمير والمجازر، والجوع والعطش والبرد والمرض، والخطر الداهم من كيان القتلة الإرهابي الذي لا يأبه لقيمة أو يمتثل لقانون...

أنظر إلى الطوابير المُتدفقة، في رحلة العودة إلى "الأطلال" المقدّسة، ضاربةً عرض الحائط بمُخطّطات "التهجير" المزعوم، وهي تحمل أغراضها البائسة، وتحتضن أجداث شهدائها، وتتحرك بعجائزها وشبابها، بمرضاها ومُصابيها، فيما تتحدى، هازئةً ساخرةً، القتلة وأسيادهم، و"ترامب" وأوهامه، وحلف "الناتو" وصنائعه، وعرب الهرولة والانبطاح ومساخرهم!

وأدركت أن مثل هذا الشعب الأبي لا يُمكن أن تهزمه قوة مهما طغت أبداً، وأن الدنيا كلها لو اجتمعت لكي تمنعه من نيل حقه المشروع في الحياة الكريمة، ما استطاعت أن تقف دون تحقيقه لغايته المُستحقة... وعرفت من أين أتى "أبو أحمد فؤاد"، الراحل / الحاضر، بكل هذا الرقي وتلك الصلابة؟!

وتذكرت ما كتبه "برتولد بريخت" ذات مرّة: "الفوز العظيم ألّا تُمَكِّنَ طاغية من القضاء عليك... لتبقى بعده"... فهكذا فعل الشعب الفلسطيني، وشهداؤه وراحلوه.. وهكذا فاز الرفيق "داود أحمد مراغة" بالبقاء في وجدان شعبه، ووجداننا جميعاً.