السيرة الذاتية:
وسام الرفيدي الأسير المحرر وأستاذ علم الاجتماع السابق في جامعة بيت لحم، عمل سابقاً محاضراً غير متفرغ في جامعة بيرزيت لعلم الاجتماع والدراسات الثقافية. حاصل على شهادتي ماجيستير من جامعة بيرزيت، الأولى في علم الاجتماع عن رسالته، التحولات على مكانة المرأة في الرواية الفلسطينية المعاصرة، ما قبل وبعد أوسلو، والثانية في الدراسات العربية المعاصرة.
للباحث رواية منشورة (الأقانيم الثلاثة) حول تجربة التخفي لتسع سنوات، بطبعتين في رام الله ودمشق، وقد جرى ترجمتها للإنجليزية بمبادرة من حركة الشباب الفلسطيني في أمريكا، وصدرت عن دار النشر (1804)، وحالياً يجري ترجمتها للإسبانية عن دار النشر الحكومية في كوبا. صدر له عن دار الفارابي كتاب حول (المرأة والرواية الفلسطينية بين زمنين: أوسلو والمقاومة)، كما صدر له في رام الله كتاب (حول صناعة الكتاب في فلسطين) قُدِم لمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب، وكتاب (الرواية الفلسطينية للتاريخ: تاريخ منسيّ ومكونات مشطوبة). وأخيراً صدر له عن دار الرعاة نص (قصص المرايا. سجين صحبة الشيخ إمام).
له العديد من الدراسات العلمية المنشورة في مجلات وكتب، منها "دراسات في الهوية الفلسطينية بعد أوسلو"، "القومية المتخيلة والعنف في النص التوراتي"، و"الخطاب الفكري للمنظمات غير الحكومية"، "الهوية المزدوجة للسريان الفلسطينيين".
يتفرغ الآن للكتابة السياسية في الصحافة والمواقع المحلية والعربية.
يبدو الكاتب متشابهاً كوجه في المرآة في لوحات " قصص المرايا" هو في لحظة الصمود والثبات والآخر في لحظة الارتباك والعدوان.. هل كان الأمر لديه تضحية وفداء لأنه ربطه بقضية أكبر من ذاته الشخصية، بينما بقي لدى الآخر أمراً شخصياً؟ هل منحت المرايا قوة خفية تحمل وسام الرفيدي لأن إيمانه ب فلسطين جعل إيمانه بنفسه وبحتمية النصر أقوى؟ بينما كان الأمر أضيق من هذا لدى الأعداء؟
يسر مجلة الهدف أن تستضيف الكاتب الفلسطيني والأسير المحرر وسام الرفيدي في هذا الحوار.
أجرى الحوار: محمد أبو شريفة - مدير تحرير مجلة الهدف
السؤال الأول: هلّا حدثتنا عن الرفيق خالد بكير/ دلايشة الذي أهديته قصص المرايا. كيف تعرفت إليه؟ وبماذا ألهمك؟ وكيف حدث ذلك؟ ومتى؟
الرفيق خالد بكير/ دلايشة المولود في مخيم اللاجئين الجلزون في العام 1955 عاش حياته مناضلاً بكل ما في الكلمة من معنى، منذ التحاقه بالجبهة أواسط السبعينيات. كان (ابن مخيم) بكل معنى الكلمة: ينشط ويشارك في الأنشطة الاجتماعية لخدمة أبناء المخيم، فكان يحظى بحب كل مَنْ عمل معه وعرفه، كان تأثيره بارزاً على جيل بأكمله، حتى قيل عن رفاق عديدين في المخيم إنهم (تربية أبو المجد). حاصل على درجة البكالوريوس في الهندسة المدنية من العراق.
منذ اعتقاله الأول في العام 1976 حتى رحيله في 2007 اكتشف المحقق الصهيوني أنه أمام مناضل لا يحرك لسانه في أقبية التحقيق تجسيداً للمقولة التربوية التي اجترحتها منظمة الأرض المحتلة (الاعتراف خيانة). وهكذا كان الرفيق في مجمل اعتقالاته. في العام 1985 وفي غمار الهجمة الواسعة على منظمة الأرض المحتلة، تعرض لتعذيب قاس ودموي استمر 5 أشهر، فكانت تجربته مأثرة في الصمود والبطولة. أُعيد اعتقاله في الأعوام 1992 و 1994 و2002 وكان كما تعودنا عليه: بطلاً حقيقياً يلفّه الصمت والهدوء والتواضع، ليس صمت العاجز، بل صمت الجبل قبيل الانفجار عندما تحين اللحظة.
أمضى ما مجموعة 12 عاماً في السجون. انتخب لعضوية المكتب السياسي للجبهة الشعبية في المؤتمر الخامس 1993 ولعضوية اللجنة المركزية العامة في المؤتمر السادس في العام 2002.
لقد شرّفني العمل الثوري للجبهة بمعرفة الرفيق سنوات عديدة، ومنها سنوات الأسر منذ العام 1994-1998 حيث جمعتنا سنوات مواجهة السجان ونضالات المعتقلين الإداريين. الانتماء والصلابة وروح التضحية والمثابرة والتواضع كلها قيم ألهمتني وألهمت العديد العديد من الرفاق الذين عملوا معه وتأثروا به.
ربما أكثر ما يميز الرفيق الراحل أبو المجد هو ذلك الجمع الخلاق بين الصلابة والهدوء، في تجسيد لمقولة درويش الشعرية (يا أحمد العربي كيف جمعت هذا الفارق اللفظي بين الصخر والتفاح بين البندقية والغزالة). لقد خسرت الجبهة الشعبية برحيله رفيقاً عز نظيره فعلاً، وهذا ما عبّر عنه العديد ممن رثوه في ذكرى رحيله الأربعين، مثل المكتب السياسي للجبهة، الرفيقة ليلى خالد، القوى الوطنية والإسلامية، نقابة المهندسين، والعديد من رفاقه.
السؤال الثاني: من الواضح أن النص مزيج بين السيرة الذاتية والفن المتخيل. ما الرابط بينهما؟
للحقيقة فالنص ليس فيه (فن متخيل) فكل ما ذُكر فيه واقعي تماماً وحقيقي تماماً، ويبدو أن بعض الواقعية تبدو وكأنها فن متخيل، وهذا ما جعل الكاتب زياد خداش، يعتقد أن الفتاة اللفتاوية مثلاً في النص هي فن متخيل بينما هي واقعية تماماً. حياتنا الواقعية مليئة بالصور الفنية، وفقط على الكاتب التقاطها، ويبدو أن النص نجح بذلك بدليل اعتبار بعض ما ورد (فن متخيل).
السؤال الثالث: يتنقل شيخ الفنانين الملتزمين بقضايا الثورة والوطن والعمال والفلاحين والفقراء الشيخ إمام في قصص المرايا من الميدان إلى السجن إلى المستشفى إلى مختلف مفاصل النص، كيف تقيم استثمارك للفن الغنائي في نصك السردي؟
الشيخ إمام يرافقني منذ بدأت أشارك في فعاليات الشارع أواسط السبعينيات. تعرفت إليه أول مرة من إذاعة صوت الثورة من بغداد عندما سمعت أغانيه فتعلقت به ورافقني حتى اليوم، وبالتالي كان موجوداً معي في سنوات العمل السري والتخفي، في سهرات الرفاق الليلية، في الزنازين وغرف السجون، في الشوارع، في المظاهرات، لذلك كان طبيعياً أن يفرض حضوره في روايتي (الأقانيم الثلاثة) التي تسرد تجربة التخفي تسعَ سنوات، وكان الشيخ حاضراً فيها.
لكل ذلك من المنطقي برأيي أن يحضر الشيخ في النص، ليس من زاوية (التخطيط للاستثمار)، ولكن من زاوية الحضور البديهي الطبيعي الذي يعكس موقعه في حياتي السياسية، خاصة أن أغاني الشيخ الثورية هي تجسيد لحياتنا الثورية كمناضلين، فمن الطبيعي أن تتغلغل هذه الأغاني في النص، لا بل تفرض حضورها على عنوانه.
السؤال الرابع: هل قصص المرايا تعكس شيئاً من تجربة "كنعان" في رواية الأقانيم الثلاثة لا سيما أن التجربة النضالية مكتوبة بلغة الأدب في كلا العملين؟ هل من دور مشترك بين الروايتين؟
الأقانيم رواية سيرة ذاتية، وفيها بعض من (متخيل فني) لا ينتهك واقعيتها، بينما (قصص المرايا) نصوص أو لوحات أو محطات أو تذكرات كما أسماها الكاتب زياد خداش في مقدمته، أما أن هناك تواصلاً بين تجربة كنعان في الأقانيم وتجربتي في قصص المرايا، فهذا طبيعي إذ يمكن اعتبار قصص المرايا استكمالاً لتذكرات أو سردية كنعان في الأقانيم، فالأقانيم حول التخفي والقصص حول حياة المعتقل وفي الحالتين الشخصية نفسها، وإن تمت صياغة تجربة الشخصية في الأقانيم بلغة (أدبية أكثر).
السؤال الخامس: نلاحظ صراعات داخلية وتفككاً. ثم ضغوطات نفسية وتحدياً وحالة عاطفية بين المحطات الأربع في الرواية مما يضفي على النص حبكة تتابعية بأسلوب بسيط وغير معقد. صف لنا ذلك؟
سنجانب الصواب والعلم إن افترضنا أن الشخصية الإنسانية تتشكل من تناغم داخلي لا يعرف التناقض والصراع، فهذا غير واقعي وغير علمي. قلت في الأقانيم: كل منا يحمل تناقضاته، صليبه ويمشي. السؤال دائماً أي طرفي التناقض يسود في حياة الثوري: الضعف أم القوة. المرض ضعف ولكن قوة الإرادة انتصرت في المشفى، وكذلك صنوف التعذيب وحياة الزنازين صعبة ولكن الإرادة تنتصر، وحلول عيد ميلاد ابنتي وأنا بعيد يقهر ولكن القهر تحول لتحد بتنظيم الاحتفال في الأسر. ومثلها رسالة شهد لخالد التي لم تضعف خالد بل استثارت فيه، مع عاطفته لابنته، روح التحدي. وهكذا دواليك، نحسم تناقضاتنا لصالح الشعب والثورة والإرادة ونمضي، لتنشأ تناقضات جديدة ولنحسمها من جديد، وهكذا تمضي حياتنا.
السؤال السادس: هل تعتقد أن قصص المرايا هي انعكاس لتجربة فترة منتصف السبعينيات وما بعدها وحتى الوضع الراهن؟ أم أنها فقط تحاكي ذاك الزمن؟
لا يعرف التاريخ القطع بين المراحل بل تشابك وتداخل ديالكتيكي، وهذا ما يفسر مثلاً أن أغنية (شيد قصورك على المزارع) ما زالت تُسمع في المظاهرات والاعتصامات حتى الآن، كما حضور الشيخ في النشاط الحالي لجيل العقدين الأول والثاني من الألفية. فتجربة السبعينيات والثمانينيات كنز حقيقي في تاريخ الحركة الوطنية، وكل فعاليات اليوم هي بمعنى ما امتداد لهذا التراث بنكهة ما بعد الألفين والظروف المستجدة، فالزنازين هي هي وقيم التحدي ما زالت موجود، وكذا التمسك بالحياة والحلم رغم فاشية الصهاينة الذين يسعون لانتزاع الحلم من دواخلنا، هذا كان عبر تاريخ شعبنا وهو ذاته في السبعينيات واليوم.
السؤال السابع: في تحليلنا للرواية نجد أن ثمة عملية تصاعدية لنشوء وتطور الإنسان القادر على بناء وتطوير الثورة، إلى أي مدى يمكن القول بأن النص يتفاعل مع مفردات البيئة السياسية والاجتماعية الفلسطينية؟
لنتفق بداية على قضيتين: أولاً أنا لا أعتبر ما كتبته رواية حسب مفهوم الرواية كجنس أدبي، وثانياً من حق القارئ، بعد صدور النص، أن يقرأها بالطريقة التي يتذوقها ويستشعرها، فلا قيد عليه في تصنيفه لها روايةً. أنا أراها نصاً، لوحات، خواطر وذكريات.
أما عن أنه نص يتفاعل مع البيئة فبالتأكيد. بيئة الأسر مثلاً فرضت تفاصيلها على مفردات النص وتفاصيله، كما بيئة المشفى والحراس، كما سلوك ضباط التحقيق، وأخيراً بيئة فعاليات السبعينيات الشعبية وشعاراتها: (اخرس اخرس لا تتكلم عن الإدارة الذاتية....)، وشوارعها ومدارسها.... فتلك بيئة الفعاليات السياسية والشعارات والمطالب كلها تتجسد في النص. تلك ميزة النص التذكري إن اعتصم بناصية الإخلاص للتاريخ وأعتقد أن النص فعل ذلك.
السؤال الثامن: هل يمكن للأدب أن يلم بمراحل الثورة الفلسطينية المعاصرة؟ لاحظنا إنتاجاً أدبياً غزيراً في العقود الماضية منها ما هو مكرر، ومنها ما هو مباشر، ومنها ما هو دون الطموح، والقليل منها يمكن تصنيفه إبداعاً أدبياً؟ هل هذا صحيح؟
بالتأكيد، وتلك عظمة أدباء مثل كنفاني ودرويش والعلي، فكلهم وغيرهم أدباء تفاعلوا بطريقة إبداعية مع تاريخ شعبنا ونضاله و(أرّخوه) بمعنى ما، مع أن الأدب ليس تأريخاً بالنهاية.
أما حول الإنتاج الأدبي الحالي، فلنتذكر الراحل الشاعر زكريا محمد والروائيين إبراهيم نصر الله ومروان عبد العال وروائيين أسرى مثل كميل أبو حنيش وباسم الخندقجي، لنكون أمام إبداع حقيقي، فماذا يمكن اعتبار الملهاة الفلسطينية مثلاً لنصر الله إن لم تكن إبداعاً حقيقياً يلم بمراحل الثورة والقضية؟ تماماً كما يمكن اعتبار ثلاثية رجال في الشمس وعائد إلى حيفا وما تبقى لكم عند كنفاني، وكذلك مشروع عبد العال الذي يتواصل فيمرحل اللحظة الحالية إبداعاً، ومثله الخندقجي في رواية قناع بلون السماء.
السؤال التاسع: السردية الفلسطينية تتقدم على مستوى العالم جراء حرب الإبادة البشرية التي يقوم بها الاحتلال الصهيوني. كيف يمكن أن يقدم الأدب الفلسطيني هذه السردية؟
ببساطة على الأدب أن يحايث السردية الفلسطينية السياسية والتاريخية، محايثة فنية بعيدة عن المباشرة الخطابية المملة، أو الاستثمار التجاري كما بتنا نلحظ اليوم عند بعض (الكتّاب). في تفاصيل حرب الإبادة ملايين الوقائع التي يمكن صياغتها فنياً، في الرواية والقصة القصيرة والشعر والرسم والفيلم، وقائع على المبدع أن يعالجها فنياً لإظهار حقيقة البعد الإنساني للضحية والبعد المجرم الفاشي للصهيوني، مع الحذر من الوقوع في مطب (بكائية الضحية) على حساب بطولات الضحايا، وتلك (بكائية) تسود أحياناً في الخطاب بطريقة تشوه نضال شعبنا، فنحن وإن كنا ضحايا، إلا أننا مقاومون وصامدون.
السؤال العاشر: ماذا أردت أن تقول من خلال هذه الرواية مسيرتك الذاتية؟ أم مسيرة الفلسطيني الثائر؟
كل تجربة ذاتية هي بنت سياقها وتنبت من رحم التجربة الجماعية، فنضالات الطلبة في السبعينيات تصهر التجارب الفردية فيها، وتجربتي واحدة من تجارب الآلاف من الطلبة ولا تنفصل عنهم، بالضبط كما تجربة الزنازين ونضالاتها، وتحدي الضعف والتعذيب وظروف الأسر. ما تقوله نصوص (قصص المرايا) هو بالضبط تجربة ذاتية ضمن تجارب المجموع الفلسطيني الوطني وفي سياق النضال ضد المشروع الصهيوني، بالضبط كما فعلت (الأقانيم الثلاثة).