Menu

عين الهدف ونبض الحقيقة.. الصحفي أحمد بدير في الذكرى الأولى لاستشهاده

لمى الشطلي

نشر في مجلة الهدف العدد (67) (1541)

 

في الغياب تقرأ تعاليم الأرض على أفواه من رحلوا.. وكيف لو كانت الأرض غزة.. وماذا لو كان الحديث من الشهداء.. ماذا لو عبرت الحقيقة من المأساة إلى الصوت والصورة.. هكذا عرفنا صورة غزة وصوتها هكذا تجلّى لنا اسماً عصياً على النسيان ويقرع جدران الخزان بلا توقف.. وهكذا كان أحمد.. الزميل الصحفي أحمد نعيم بدير عبر من الوجود إلى ما بعده، مضى حينما كان ينقل عدد الشهداء هنا أو هناك، أخبرنا عن مرارة أنت تكون منطوياً تحت تعريف الصحفي في حياة لا تؤمن بقسمة العدالة وحرية الصحافة، لأنك في حين غرّة وبلا أي قصد منك تتحول من صفةٍ إلى أخرى هكذا من دون أن تدري..

هو منطق الحرب إذاً حياً في الصوت والصورة للحظات، وشهيداً في لحظة واحدة يقرر بها جيش المغول الوحشي الجديد أن ينتزع الأرواح بلا توقف، في إبادةٍ تقتص من شعب استبسل لأجل معنى الحرية والإنسان وحده، لكن أحمد آثر أن يوثّق بالصوت والصورة ممارسات الاحتلال، لم تردعه الصواريخ التي شقت صدر السماء ولم تخيفه المدافع التي فتكت بالأرض وساكنيها، اختار بملء إرادته أن يكمل معركة الحقيقة حتى لو كانت تركن في خيمة أمام مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح..

أحمد عين الهدف ونبض الحقيقة

عمل أحمد في بوابة الهدف الإخبارية كمحرر ومعد للتقارير وكان أحد أهم أعمدتها، حاملاً على عاتقه رؤية فلسطين وغزة كما يشتهي ويحبّ، متفانياً في العطاء يصبّ الأفكار على الورق تماماً كما سكب دمه في بوتقة الحقيقة، لأن الصلة ما بين العمل والهوية لا يمكن فصلها أبداً، الاحتلال يشتعل من الهوية ويموت غيظاً ممن يعطيه مرآة تكشف عن وجهه، لأجل هذا كانت مهنة الصحافة في فلسطين هويةً للقتل العمّد، وأحمد دخل تلك المعادلة بإصرار المقاتل العتيد، واختار الاستمرار متحدّياً احتمالات الموت وأوجهه ..

الرفيق الجبهاوي المحارب

انتمى أحمد لكلمات غسان كنفاني "الحقيقة كل الحقيقة للجماهير"، لكن الحقيقة في غزة ممزوجة باللحم والدماء بصرخات الثكالى والمكلومين، ولأنه يعي أنّ انتزاع وجه الحقيقة من أيدي العدو يمكن أن تدفع لأجله روحك، اختار نبل المحارب في خوض المعركة ونقل الصوت والصورة تماماً مثلما علّمنا غسان، فكان كلّ الحقيقة وجع الصوت وأنين الصورة، كان غزّة بكاملها، لك أن تتخيل أن تنقل وجع أرض بجسدٍ واحد، هكذا فعل هكذا أحبّ أن يظهر بعين غزة، لا بأعين العالم، رفيقاً متحدياً قذارة العالم بشجاعةٍ تتخطى ظروف الزمان والمكان والاحتلال..

أحمد الفنان والإنسان القلم الذي لا يموت

يقول محمود درويش ليس شهداؤنا أكبر من الكلمات ولكنهم أكثر من الكلمات، والكثرة في قاموس أحمد تدخل في كلّ تفاصيل حياته كما شخصيته، كثير العطاء والتفاني، وكثير الشغف بالعمل، كثير المحبة، كثير البسمة تلك التي لم تفارقه حتى يوم استشهاده، اليوم في حرب غزة يا رفيقي نتقن جميعاً فن الموت وحدك من آثرت أن تصعد خشبة المسرح ليس كما نحن واقفون ما بين العجز والذكرى. إنما شهيداً يقرأ لكنفاني ويحدّث عن الحكيم جورج حبش ويتلون مع رسومات ناجي العلي تماماً كتلك الزاوية المعلّقة على جدار مكتبك، أيأخذك الإيمان بالقضايا وأصحابها والكتابة عنهم إلى هذا الحد حتى تندمج معهم بصورةٍ واحدة، لكن اليوم يا صديقي صرت معلقاً على جدارية غزة نكتبك نحن بلا توقف..

أحمد الصحفي الشهيد بقلب غزّة

أتدري يا رفيقي بأنك كما غزّتك، عصيٌ على الانكسار تأخذنا إلى حيز الضوء حيث كلماتك ترسم الأرض كما عرفتها من رفاقك الأوائل، رأيناك واقفاً ما بين الخبر والقلم وفي محارب عينيك حكايات النكبة وقهر كلّ اللاجئين ومن مبسمك ينفجر التحدي كما تنفجر غزة مدافعةً عن كل الشعب الفلسطيني، هكذا تجتاز الصحافة حدود الحقيقة إلى المجاز، والحقيقة يا ابن الشجاعية أنّ غزة صمام أمان هذه القضية كما كنت صميم الهدف والمجاز خيار واحد: "نحن باقون وللحلم بقية"، وبقيت أنت حيّاً شهيداً في قلب غزة..

نحن لا نودعك حقاً.. إنما نقول إلى اللقاء يا رفيقي... إلى اللقاء في أرض تشبهنا إلى اللقاء في فلسطين الخالدة..

ولا تحزن قد حملتنا جميعاً معك بتلك القبلة التي تركتها أمك على يديك حينما اختبرنا جميعاً مرارة الفقد..

"فسلامٌ عليك افتقدناك جداً.. وعلينا السلام فيما افتقدنا.."