في خطوة مفاجئة لعدد من المتابعين والمراقبين، قامت حركة حماس مؤخرًا بالجلوس على طاولة التفاوض مع ممثلين عن الحكومة الأمريكية في قطر ، وهو ما كان يعد مستبعدًا في وقت سابق. تعود جذور هذا التحول إلى موقف حماس الذي كان واضحًا في رفض الجلوس مع الأمريكيين أو قبول التفاوض المباشر معهم، بل كان قياديون بارزون في الحركة مثل موسى أبو مرزوق قد أشاروا في مناسبات عديدة إلى أن حماس "ليس لديها مشكلة في الجلوس مع الأمريكيين". فما الذي دفع حماس إلى اتخاذ هذه الخطوة، وما هي دلالات وتداعيات هذه التحولات؟ وكيف يمكن فهمها في السياق التاريخي الأوسع لحركات التحرر؟
التغير في موقف حماس: لماذا الآن؟
لطالما ارتبط موقف حماس برفض التفاوض مع الولايات المتحدة، وهي التي كانت تؤكد على أنها حركة مقاومة تحارب الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، مع التأكيد على أن أمريكا داعمة لهذا الاحتلال. هذا الموقف كان يعكس رؤية حماس لأمريكا باعتبارها خصمًا في صراع طويل الأمد. ولكن هناك عدة عوامل قد تفسر سبب اتخاذ الحركة لهذا القرار في هذا الوقت بالذات:
التحولات الإقليمية والدولية: منذ عام 2011، شهد الشرق الأوسط تحولات جذرية بسبب ما عرف بـ"الربيع العربي" والتغيرات السياسية الواسعة في الدول العربية. حركة حماس كانت جزءًا من هذه التحولات، وعلاقاتها مع العديد من القوى الإقليمية والدولية قد تأثرت بشكل كبير. وعلى الرغم من تراجع علاقتها مع الأنظمة العربية التي كانت تدعمها في السابق، فإنها تسعى الآن لتوسيع هامش الحركة في التعامل مع الأطراف الدولية، بما في ذلك أمريكا. قد يكون هذا التفاوض خطوة تهدف إلى إعادة تحديد مكانة الحركة في المعادلات الإقليمية.
الضغوط الاقتصادية والإنسانية: الوضع الاقتصادي في قطاع غزة، الذي تحكمه عليه حماس، يشهد تدهورًا مستمرًا. الحصار الإسرائيلي المستمر، خصوصاً ما بعد معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر عام 2023 إضافة إلى الأزمة الاقتصادية في المنطقة، يضع الحركة أمام تحديات كبيرة. في هذا السياق، ربما تكون حماس قد شعرت بضرورة البحث عن طرق لتحسين الأوضاع الاقتصادية في غزة، ما قد يتطلب التواصل مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة. كما أن حماس قد تسعى للحصول على دعم مادي أو سياسي قد يساعدها في تخفيف الضغوط على الشعب الفلسطيني في غزة.
الواقعية السياسية: قد يكون حماس قد أدركت أن التعامل مع أمريكا، حتى ولو كان غير مرغوب فيه من الناحية الأيديولوجية، قد يكون ضروريًا لتثبيت نفسها كفاعل سياسي مهم في معادلة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. قد تكون الحركة قد تبنت نهجًا أكثر واقعية في التعامل مع القوى الدولية، إدراكًا منها أن الجلوس على طاولة التفاوض قد يساهم في تحسين موقفها دوليًا.
الرغبة في التخفيف من العزلة الدولية: في السنوات الأخيرة، عانت حماس من عزلة دولية، حيث لم تعترف معظم الدول الغربية، بما في ذلك أمريكا، بها كحركة سياسية شرعية. بل صُنفت كحركة "إرهابية" من طرف الولايات المتحدة. قد يكون التفاوض مع أمريكا بمثابة خطوة نحو تقليص هذه العزلة، وربما خلق نوع من الاعتراف بحركة حماس كطرف لا يمكن تجاهله في عملية السلام المستقبلية، حتى وإن كانت النظرة الأمريكية لها لا تزال تتسم بالشكوك.
التداعيات المحتملة لهذه الخطوة
قد يكون لهذا التحول في موقف حماس عدة تداعيات على المستويين المحلي والدولي:
التأثير على العلاقة مع إسرائيل: قد تثير هذه الخطوة تساؤلات حول موقف حماس من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. هل تعني هذه الخطوة أن الحركة مستعدة للانخراط في مفاوضات تؤدي إلى هدنة طويلة الأمد مع الاحتلال عبر الوساطة الأمريكية؟ هذا سيكون سؤالًا حساسًا بطبيعة الحال، خاصة أن حماس دائمًا ما أكدت على أن المقاومة هي الخيار الوحيد لتحرير الأراضي الفلسطينية. كما قد يعتبر الاحتلال هذه الخطوة بمثابة تنازل من "حماس"، ولكن هنا علينا التأكيد أن قناة التفاوض مع الولايات المتحدة ليست "تنازل" عن سلاح المقاومة، بل تأكيد على شرعية السلاح إذا ما تتبعنا نماذج التاريخ في هذا السياق، حيث الأمريكي يرضخ في النهاية ويفاوض هذه الحركات التي لطالما رفض الجلوس معها، ومجرد الجلوس هو اعتراف غير مباشر بحقها بالمقاومة.
ردود الفعل من باقي القوى الفلسطينية: من المتوقع أن تثير هذه الخطوة ردود فعل متباينة داخل الساحة الفلسطينية. فحركات مثل فتح قد ترى في هذا التفاوض نوعًا من التقارب مع القوى الغربية، مما قد يساهم في تعزيز موقعها. بينما قد تشعر بعض الأطراف، مثل الجهاد الإسلامي أو فصائل أخرى، أن هذا التحرك يشكل تهديدًا لمصداقية حماس في نظر الشارع الفلسطيني، خاصة إذا بدا أن الحركة تتراجع عن مواقفها الثابتة في مقاومة الاحتلال، وهذا الطرح قد يروج له البعض، ولكن حركات التحرر تسعى لتحقيق اهداف سياسية بطبيعة الحال، وهو ما يتطلب مناورة في الملعب "التكتيكي"، أو اللعب في الادوات والمتغيرات والوسائل لحركات التحرر.
ردود الفعل الإقليمية والدولية: قد يكون لهذه الخطوة تداعيات على علاقات حماس مع الدول العربية، خصوصًا تلك التي كانت تساندها في السابق. في الوقت ذاته، قد تشكل هذه الخطوة نقطة انطلاق لتعزيز علاقات حماس مع القوى الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي أو حتى الصين وروسيا، وهي دول قد تسعى لتحقيق نوع من التوازن في تأثيرها على الشرق الأوسط.
التفاوض مع القوى الكبرى: نماذج تاريخية لحركات التحرر
من المهم أن نلاحظ أن حركات التحرر حول العالم قد خاضت تجارب مشابهة في التعامل مع القوى الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة. على سبيل المثال:
حركة التحرير الوطني الجزائرية (FLN): في أثناء حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، كانت جبهة التحرير الوطني الجزائرية ترفض التفاوض مع فرنسا، إلا أن الوضع العسكري والسياسي تطور في وقت لاحق، مما دفع الحركة إلى التفاوض مع فرنسا تحت إشراف دولي، وهو ما مهد لاستقلال الجزائر.
الحركات الوطنية في جنوب أفريقيا: الحركات الوطنية المناهضة للتمييز العنصري في جنوب أفريقيا، بقيادة نيلسون مانديلا وغيره، خاضت جولات من المفاوضات مع القوى الغربية والولايات المتحدة بعد أن تعرضت لضغوط دولية مكثفة وعقوبات.
الخاتمة:
قد تكون خطوة حماس في التفاوض مع الولايات المتحدة خطوة استراتيجية تهدف إلى إعادة التموضع السياسي في ضوء التغيرات الإقليمية والدولية والضغوط الاقتصادية والإنسانية. هذه الخطوة قد تحمل تداعيات كبيرة على الساحة الفلسطينية والإقليمية، وقد تفتح الباب أمام حوار جديد مع القوى الكبرى. في ذات الوقت، فإن التفاوض مع أمريكا لا يعني بالضرورة أن حماس قد تخلت عن خيار المقاومة أو عن مبادئها الأساسية، بل قد يكون بمثابة تحرك تكتيكي ضمن سياق أكثر تعقيدًا ومتشابكًا.