في الذكرى السنوية لاقتحام سجن أريحا، تعود الذاكرة إلى واحدة من أبرز المحطات النضالية في تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية، حيث تجلى الصمود في أسمى صوره، وسُطرت ملاحم البطولة والتحدي أمام جبروت الاحتلال. لم يكن هذا الاقتحام مجرد عملية عسكرية استهدفت اعتقال الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القائد الوطني أحمد سعدات أبو "غسان" ورفاقه الأربعة منفذي عملية اغتيال الوزير الصهيوني "رحبعام زئيفي"، بل كان فصلًا جديدًا من فصول المواجهة بين إرادة الاحتلال القمعية وعزيمة الأسرى الصلبة، الذين رفضوا الانكسار رغم القصف والحصار والتآمر الدولي.
وبهذه المناسبة، تستضيف "بوابة الهدف الإخبارية" الأسير المحرر سامر المحروم، الذي عاش تفاصيل السجن وذاق مرارة القيد على مدار 37 عاماً، وكان شاهدًا على معاناة الأسرى في زنازين الاحتلال، لكنه ظل صامدًا يحمل راية الحرية والنضال، وفي هذا اللقاء، يستعيد المحروم شريط الذكريات، متحدثًا عن القائد أحمد سعدات، ذاك الرجل الذي جسّد مدرسة نضالية متكاملة، وقاد مسيرة المقاومة بإرادة لا تلين، وروح لم تنكسر رغم سنوات الأسر الطويلة.
رجل بحجم الوطن وصبر لا ينكسر
في حديثه مع "الهدف"، يؤكّد المحروم، أنّ "هذه الذكريات ليست مجرد أحداث عابرة، بل محطات نضالية تملؤها البطولة والثبات، فأبو غسان قائد فلسطيني عربي قومي، شكل بصلابته وإرادته مدرسة نضالية متكاملة، وقدوة للأحرار والمناضلين في كل مكان، وهو رجلٌ لا يلين، ولا تهزه المحن، ثابت كالصخرة أمام بطش الاحتلال، لا يعرف التراجع ولا يعرف الاستسلام".
ويقول المحروم، إنّ "الذكريات مع القائد الوطني الكبير كثيرة ومتشابكة، لكن ما يميزه هو تواضعه الجم، رغم مكانته النضالية العظيمة، ففي السجن، لم يكن يتذمر أو يشتكي، بل كان هادئًا، متواضعًا، خدومًا، يعيش مع الأسرى كواحد منهم، يشعرهم بالراحة، لا يعلو عليهم، ولا يفرض نفسه قائدًا، بل أخًا ورفيقًا، حتى في أبسط التفاصيل، لم يكن يطلب شيئًا، فإن أراد قهوة أو شاي، يقوم بتحضيرها بنفسه، دون أن يشعر الآخرين بأنه صاحب مكانة خاصة، رجلٌ لا يعرف الغرور، بل يرفع من حوله بروحه الطيبة وسلوكه النقي".
ويضيف المحروم، أنّه "في منتصف الثمانينات، كنت شابًا في بداية التجربة النضالية، وكان سعدات في قمة عطائه الثوري، كنا في قسم واحد، تفصلنا مسافة قصيرة، لكنها لم تكن حاجزًا أمام تأثيره العميق فينا، رأيت بعينيّ كيف كان يتحمل الألم بصمت، كيف كان الاحتلال يُمعن في قسوته معه أكثر من أي أسير آخر، لم يسمح لوجعه أن يكون عبئًا على من حوله، وفي الوقت الذي كنا فيه نتألم ونشكو، كان هو يكتفي بابتسامة صامتة، هادئة، لكنها تحمل معاني الصمود والثبات، وكأنها تخبرنا أن الألم لا يجب أن يكون عائقًا أمام الإرادة، وأن الصبر هو سلاح الأقوياء".
ويوضح المحرر أبو آدم، أنّ "سعدات قائد حمل همّ القضية الفلسطينية على عاتقه منذ شبابه، ليس قائداً سياسياً فقط، بل نموذج للإنسان الذي وهب حياته من أجل حرية وطنه، وتاريخه الحافل بالمقاومة والصمود، جعله قدوة للكثيرين في مسيرة النضال الوطني، فهو صوت الحق الذي لا يخبو، حتى وهو خلف القضبان، عُرف بشجاعته ومواقفه المبدئية التي لم تتزحزح رغم سنوات الأسر الطويلة في سجون الاحتلال الصهيوني"، مبيناً أنّ "أبو غسان لم يتغير رغم قسوة السجن وظروفه اللاإنسانية، كان نموذجًا للبساطة والعطاء، رجلاً يعيش من أجل الآخرين، لا لنفسه فقط، إنسانيًا إلى أقصى الحدود، يحمل قلبًا نابضًا بالمحبة والحكمة، ولا يبخل بالنصيحة على أي إنسان، بغض النظر عن خلفيته أو تجربته، وجوده في السجن لم يكن مجرد وجود عادي، بل كان مصدر طاقة وإلهام، يُشعر كل من حوله بالأمان والطمأنينة، حتى في أشد لحظات القهر.
ويتابع المحرر من معتقلات الاحتلال لـ "الهدف"، أنّني "التقيت بالأمين العام في سجن رامون، ورغم تدهور حالته الصحية في الفترة الأخيرة التي رأيته فيها، إلا أن معنوياته كانت في عنان السماء، وكأن المرض والسجن مجرد تفاصيل أمام عزيمته الفولاذية، لم تفقد عيناه بريق التحدي، ولم ينحنِ ظهره أمام قسوة الأسر، ليؤكد أن السجن قد يقيد الأجساد لكنه لا يستطيع أسر الروح الثائرة".
قلاع صامدة في وجه القيد والتآمر
وبشأن اعتقال القائد سعدات ورفاقه بعد اقتحام سجن أريحا، يؤكد المحروم، أنّه "لم يكن اعتقالهم حدثًا عابرًا أو محض صدفة، بل كان جزءًا من مخطط محكم ومعركة معقدة تخوضها المؤسسة الاحتلالية بأدواتها القمعية، في محاولة بائسة لضرب الروح الثورية وكسر إرادة المقاومة، ولم يكن الأمر مجرد اعتقال، بل عملية معقدة، تداخلت فيها الحسابات السياسية والتآمر الدولي، بهدف إخضاع من رفضوا الانحناء أمام المحتل".
ويبين المحروم، أنّ "سعدات ورفاقه خاضوا معركة صعبة منذ لحظة وقوعهم في الأسر، حيث واجهوا أبشع صنوف القمع والعزل والحرمان، لكنهم ظلوا صامدين كالصخور، لم تنل منهم سنوات السجن، ولم تضعف معنوياتهم أساليب الاحتلال الوحشية، وكانوا يعرفون أن الأسر ليس نهاية الطريق، بل مرحلة أخرى في مسيرة النضال، وأن الاحتلال مهما حاول أن يطوّق حريتهم، فلن يتمكن من تطويق أفكارهم أو خنق إرادتهم الحديدية".
الحركة الأسيرة الفلسطينية: معركة قاسية في مواجهة القمع وصمت العالم
وحول أوضاع المأساوية التي يمر بها الأسرى في الوقت الراهن، يقول المحروم لـ "الهدف"، إنّ "الحركة الأسيرة الفلسطينية تعيش اليوم واحدة من أحلك الفترات في تاريخها، حيث يتعرض الأسرى داخل سجون الاحتلال لأبشع أنواع القمع والتنكيل، ولم يسبق أن كانت المعاناة بهذا المستوى من الوحشية، إذ يخوض الأسرى حربًا على جبهتين: حرب داخلية مع سياسات الاحتلال القمعية، وحرب خارجية مع صمت العالم وتواطؤ بعض الجهات التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان.
ويضيف: "الأسرى في السجون يعيشون حالة طوارئ حقيقية، مهما كان عمرهم أو صحتهم أو انتماؤهم، الجميع يرزح تحت وطأة تعذيب ممنهج من الاحتلال، لا يتوقف ليلًا أو نهارًا، إذ تُمارس عليهم سياسات إفقار متعمد، وعزل قاسٍ، وحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية، حتى أصبح السجن مقبرة للأحياء"، مبيناً أنّ "ما يعترف به الاحتلال بشأن ما يعانيه الأسرى يتجاوز حتى أوصافه الجائرة، فقد أقر بذاته، دون تهويل أو مبالغة، والوضع داخل السجون بلغ مستوى غير مسبوق من السوء والقمع والانتقام، ومع ذلك، فإنّ وصفه للمأساة يبقى أقل بكثير من الحقيقة المروعة التي يعيشها الأسرى يوميًا خلف القضبان".
ويتابع المحروم، إنني "حين أسترجع ذكريات الأسر والمحن التي مررنا ها، يكاد الأمر يبدو وكأنه كابوس أو حلم مرعب، لكن الحقيقة أكثر إيلامًا من أي خيال، ورغم كل هذه المآسي، يظل الأسرى صامدين، يحملون إرادة لا تنكسر، ويواصلون النضال بأجسادهم التي أنهكها القيد، وبأرواحهم التي تأبى الهزيمة، إنهم في معركة وجود، يقفون في وجه آلة البطش الإسرائيلية، ويثبتون كل يوم أن الحرية تُنتزع ولا تُمنح، وأن الاحتلال مهما تمادى في قسوته، لن يتمكن من كسر عزائمهم أو إسكات أصواتهم التي تنادي بالحرية والكرامة".
ويؤكد الأسير المحرر، أنّ "هذه المرحلة القاسية التي يمر بها رفاقنا الأسرى ليست سوى محطة أخرى من محطات الصمود، ورغم قسوة الظروف وشراسة العدو، فإنّ إرادتهم تبقى عصية على الانكسار، وصفقات التبادل الأخيرة تشير إلى أنّ هذه المعركة قد شارفت على الانتهاء، لأن الحرية قادمة مهما طال الزمن، ولأن الأسرى ليسوا مجرد أرقام، بل هم شعلة النضال التي لن تنطفئ، ويحملون راية القضية رغم الجدران والسلاسل".
هدفٌ استراتيجي للاحتلال وثقل سياسي وثوري يمتد من فلسطين إلى عمق الأمة العربية
وعن رفض الاحتلال التكرر بالإفراج عن الأمين العام للشعبية خلال صفقات التبادل السابقة، يشير أبو آدم، إلى أنّ "أبو غسان يُعد من الشخصيات الفلسطينية الوازنة التي تركت بصمة لا تُمحى في مسيرة النضال الوطني، فهو ليس مجرد قائد سياسي أو فدائي حمل السلاح في وجه الاحتلال، بل مدرسة نضالية متكاملة، تجسّد الفكر الثوري والموقف المبدئي الذي لا يعرف المساومة".
ويردف المحروم، أنّ "ثِقله السياسي والجماهيري جعل منه هدفًا رئيسيًا للاحتلال، الذي لم يتوقف يومًا عن محاولة كسره، فالاحتلال يدرك تمامًا أن سعدات ليس شخصية عابرة، بل هو قائد بحجم وطن، ويمثّل ثقلًا سياسيًا وثوريًا يمتد من فلسطين إلى عمق الأمة العربية، لذلك، فإن استمرار اعتقاله هو محاولة مدروسة لاستنزاف الحركة الوطنية، وإيجاد مرحلة ضغط على المقاومة من خلال احتجازه، على أمل انتزاع تنازلات أو خلق حالة من الإرباك داخل الصف الفلسطيني".
ويشير الأسير المحرر، إلى أنّ "الاحتلال أخطأ في حساباته، فالقادة الحقيقيون لا تُكسر إرادتهم بالأسر، ولا تنال من عزيمتهم سنوات السجن، بل على العكس، تحوّل أحمد سعدات إلى أيقونة مقاومة، وكلماته تشكّل زادًا للأحرار، وصموده خلف القضبان بات أشدّ وقعًا من رصاص البنادق، لأن أمثال سعدات ورفاقه لا يُهزمون، بل يواصلون النضال بكل الوسائل، حتى من داخل الزنازين"، موضحاً أنّ "ما يجهله الاحتلال، أو يتجاهله، أن القادة من طراز أحمد سعدات لا يُكسرون بالاعتقال، ولا تُفرَض عليهم المعادلات بالقوة، فهو في أسره، كما كان خارجه، ثابت على المبدأ، رافضٌ للانحناء، مدركٌ أنّ الحرية ليست مجرد خروج من السجن، بل تحررٌ من قيود الاحتلال بأشكاله كافة، وسيظل اسمه منقوشًا في سجلّ القادة الذين لا تهزهم العواصف، ولا تزيدهم المؤامرات إلا صلابة وعزيمة".
ويدعو أبو آدم، إلى توحيد الفلسطينيين والتوافق الوطني وجعل القضية الفلسطينية على رأس الأولويات خصوصاً في هذا الوقت الذي يشن الاحتلال حربه على أسرانا البواسل في سجون الاحتلال، حيث يواجهون حملة قمع وتنكيل ممنهجة، خاصة في مسلخ "سيدي تيمان"، الذي شهد استشهاد العشرات، وإصابة وإخفاء المئات من معتقلي غزة، وعدوانه على أبناء شعبنا في غزة ومخيمات الضفة المحتلة.
الأسرى صمودٌ أبدي وقضية لا تموت خلف القضبان
ويختم المحروم حديثه مع "الهدف"، قائلاً: "ورفاقه هم أكبر دليل على أنّ القيد لا يُسكت صوت الحق، ولا يُطفئ وهج الحرية في القلوب، إنهم رموزٌ لن تُنسى، وقضيتهم ستظل حيّة في وجدان شعبهم، لأن فلسطين لا تنسى أبناءها الأوفياء، ولا تقبل أن يبقى أبطالها خلف القضبان"، متمنياً لكل الأسرى الذين يدفعون ثمن كرامتنا بأرواحهم وصبرهم وعذاباتهم اليومية أن يُكسر قيدهم، ويعودوا إلى حضن شعبهم أحرارًا كما يستحقون، فهؤلاء الأسرى لم يكونوا يومًا مجرد أرقام في قوائم الاعتقال، بل في شوارع فلسطين وبين أبناء شعبهم، يقودون المسيرة، ويواصلون النضال الذي لم ينقطع يومًا، فالحرية ليست مجرد حلم لهم، بل حقٌّ انتزعوه بصلابتهم، وصبرهم، وإيمانهم بعدالة قضيتهم.
تبقى ذكرى اقتحام سجن أريحا محطة بارزة في تاريخ النضال الفلسطيني، تُجسد روح الصمود والتحدي في وجه الاحتلال، وما زالت قضية الأسرى، وفي مقدمتهم القائد أحمد سعدات ورفاقه، شاهدة على حجم التضحيات التي يبذلها أبناء الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والكرامة، إنّ الواجب الوطني يحتم علينا جميعًا إبقاء قضيتهم حيّة في الوجدان، والعمل على تحريرهم بكل السبل، لأن حريتهم جزء لا يتجزأ من حرية الوطن، ونضالهم هو الشعلة التي تُنير طريق المقاومة حتى زوال الاحتلال.