في حضنها تنام فلسطين، وفي قلبها يتردد صدى الأذان من مآذن القدس ، وترتسم ألوان البحر في عكا ويافا، وتتلألأ أضواء الحلم المنسي على أسوار الخليل وغزة. إنها الأم الفلسطينية، التي لا تحمل في أحشائها طفلاً فقط، بل تحمل وطناً بأكمله، تحفظه بين ضلوعها كما تحفظ الأمهات أسماء أبنائهن.
" فلسطين ليست وطنًا نعيش فيه فحسب، بل هي روحٌ تسري في دمائنا، وذاكرةٌ تمتد من بحر يافا إلى زيتون القدس، ومن جبال الخليل إلى أزقة غزة."
أيُّ امرأةٍ غيرها تهمس في أذن رضيعها: "أنتَ من تراب هذه الأرض، روحك من زيتها، وعيناك من بحرها، لا تنسَ يا بني أنّك ابن فلسطين"؟ أيُّ أمٍّ غيرها تنجبُ أطفالها ليكونوا حجارةً في يد الوطن، وزيتًا يُشعل قناديل المقاومة؟
إنها التي لا ترضع أطفالها الحليب فقط، بل تطعمهم حكايات يافا المشنوقة في ذاكرة البحر، وعكا الصامدة على كتف الموج، و القدس التي لا تُغلق أبوابها رغم ثقل الاحتلال. تجلس عند عتبة بيتها في نابلس، تُمسكُ مفتاح الدار العتيق، وتحكي لهم كيف كان البرتقال يعانق البحر قبل أن يسرقه المحتل، وكيف كانت الحارات تُنشد أغاني الفرح قبل أن يُخيم عليها لون الدمار.
“"من ينسى يافا، ينسى قلبه، ومن يفرّط بالقدس، يفقد روحه، ومن يبيع فلسطين، يبيع شرفه.
لكنها، رغم كلّ الألم، لا تنكسر، لا تضعف، لا تتراجع. حين يأتيها خبر استشهاد ابنها، لا تصرخ، لا تولول، بل ترفع عينيها إلى السماء وتتمتم: "الحمد لله الذي شرّفني بهذا الفخر." تودّع أبناءها بالزغاريد، ليس لأنها لا تبكي، بل لأنها تؤمن أنّ فلسطين تستحق العطاء، وأنّ الدماء التي تروي ترابها لا تذهب سُدًى.
تتذكر جيدًا كيف حملت صغيرها بين ذراعيها لأول مرة، وكيف كانت تعدّ له الزوادة كل صباح، وكيف كانت ترسم له الطريق إلى المدرسة بحكايات عن الشيخ الجليل في الأقصى، وعن صيادي عكا الذين يقهرون البحر، وعن بائع الكعك في حواري القدس الذي يخبئ خلف ضحكته قصة انتظار لا تنتهي. واليوم، تودّعه شهيدًا، لكنها تعلم أنّ روحه لن تفارق المكان، ستبقى تحلّق مع طيور يافا، وتضيء شوارع القدس كلما خفتت الأضواء.
" فلسطين ليست قصة تُحكى، بل هي وجعٌ يُعاش، وحبٌّ لا يموت، ودمعةٌ تُولدُ مع كل شهيد."
في الليل، عندما يهدأ القصف، تجلسُ الأم الفلسطينية أمام صورة ابنها المعلقة على الجدار، تربّت عليها كما لو كان جسده ما زال هناك، تسأله: "هل رأيتَ يافا يا بني؟ هل رأيتَ البحر كما كنتَ تحلم؟ هل عدتَ إلى حيفا كما وعدتَ جدتكَ؟" ثم تهمس للريح: "قولوا له إنّني ما زلتُ أعدّ له العشاء كلّ مساء، وإنّني لم أنسَ أن أُعدّ له كوب النعناع كما كان يحبّ."
إنها لا تفكر في نفسها، بل في الأرض التي ستورّثها للأجيال القادمة. تُعلّم أطفالها أنّ المسجد الأقصى ليس مجرد حجر، بل قبلة عشق لا تسقط بالتقادم، وأنّ شوارع القدس لا تُرسم بالحبر، بل تُكتب بالدم والعرق، وأنّ العودة ليست حلماً مستحيلاً، بل حقٌّ يولدُ مع كلّ طفل فلسطيني جديد.
يا قدسُ، يا زهرة المدائن، سنعودُ يوماً، سنعودُ مهما طال الطريق، ومهما اشتدّ الظلام، فهناك على أبوابكِ ستُقرع الأجراس، وسيُرفع الأذان، وسنرتل جميعاً: "هذا يوم العودة".
في عيدها، لا تحتاج الأم الفلسطينية إلى وردٍ مغلّف ولا هدايا ثمينة، يكفيها أن ترى الوطن أقرب إلى التحرير، أن تستيقظ يوماً دون أن تُحصي عدد الشهداء، أن تسمع صوت البحر في غزة دون أن يقطعه صدى الانفجارات، أن تُشعل قنديل بيتها دون أن تخشى انقطاع الكهرباء، أن يركض أطفالها في شوارع نابلس والخليل دون أن يعترضهم جنديٌّ صهيوني محتل.
إنّها ليست أمّاً فقط، بل ذاكرةُ وطن، وأغنيةُ مقاومة، وصوتٌ لا يخفتُ مهما حاولوا أن يُسكتوه. إنها التي تنبتُ في قلبها السنابل، وتُزهرُ في يديها الأرض، وتُضيءُ في عينيها شمسٌ لا تغيب.
يا أمّ فلسطين، يا زهرة الحقول، ويا نجمة المساء، إليكِ ألفُ تحيةٍ وسلام، فأنتِ الوطنُ في حنانه، وأنتِ الأرضُ في صبرها، وأنتِ الحكايةُ التي لا تموت.