لم يأبه الكيان الصهيوني بنتائج القمة العربية التي عقدت في الرابع من مارس / آذار الماضي بالقاهرة، فكان أول ردود فعله المباشرة يوم القمة بأن البيان الختامي "لا يعالج الواقع بعد السابع من أكتوبر"، وطالب وزير خارجيته جدعون ساعر، بـ"نزع كامل للسلاح في غزة للانتقال إلى المرحلة الثانية من المفاوضات مع حماس". لقد وجدت تل أبيب بيان القاهرة أضعف مما توقعت، فجاء بلا أنياب وآليات يعمل وفقها ولا خطوات عملية يجسدها على الأرض، فتصرف وفق ذلك بمزيد من المجازر والتطهير العرقي في قطاع غزة وصعّد جرائم القتل والاستيطان ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية، وكأن بيان القمة منحها ضوءا أخضر، يضاف إلى مواقف الإدارة الأمريكية المشاركة في العدوان والداعمة والمشجعة على المضي قدما في ارتكاب المجازر.
كأن القمة العربية لم تدرك بعد أن ليس هناك ترف الوقت والبيانات المرسلة والمنمقة وغير القادرة على تمرير قنينة ماء لطفل يعاني العطش والجفاف، وكأن غزة في جغرافيا بعيدة يستحيل الوصول إليها. لم تلتفت القمة العربية لآلاف الشهداء الذين طُمِروا تحت ركام بيوتهم ولم يُصَل عليهم أحد، كما لن يُصلّى على الذين طُمِروا بعد انفضاض القمة وعودة الزعماء إلى بلدانهم محملين ببيان الثلاثة والعشرين بندا. كان البيان إنشائيا بامتياز ولم يخرج عن البيانات التي اعتادتها القمم العربية السابقة، فلم تتمكن حرب الإبادة من تغيير اللهجة بعد سقوط أكثر من 150 ألف بين شهيد وجريح ونحو مليوني مشرد وتدمير كامل للبنى التحتية. هذا البيان جعل الكيان مطمئنا أكثر بأن قمة كهذه لن يرف له جفن على مخرجاتها، فاستمر في تمزيق اتفاق وقف إطلاق النار ورفض الشروع في المرحلة الثانية من الاتفاق مشترطا الإفراج عن أسراه بلا مقابل.
كان يفترض في قمة القاهرة أن تعقد في السابع والعشرين من فبراير/شباط الماضي وفق إعلان القائمين عليها، إلا أنه تم تأجيلها للرابع من مارس بحجة المزيد من التحضير وضمان حضور القادة العرب. لم يتم الاتفاق على تسميتها. هل هي قمة طارئة أو استثنائية أو غير عادية، فقد دب التململ في مفاصل دول القمة قبل أن تبدأ. تشير بعض المعلومات أن التأجيل سببه إتاحة الفرصة والوقت الكافيين "لصياغة رؤية عربية موحدة إزاء غزة ومستقبلها وإعادة إعمارها، والعمل على التفاهم مع الأطراف الفلسطينية حول مستقبل إدارة القطاع". سبق القمة الكبيرة قمة مصغرة في السابع والعشرين من فبراير /شباط الماضي في العاصمة السعودية الرياض للتحضير الجيد للقمة العربية، لكنها انتهت دون بيان ختامي، بل تم تخفيض سقف نتائجها قبل أن تعقد، فاعتُبرت "لقاء أخويا غير رسمي، وأن قراراته ستكون ضمن جدول أعمال القمة العربية الطارئة"، حسب بعض المصادر التي تحدثت عن خلافات بين المجتمعين حول حسم القضايا الرئيسية المفترض طرحها في القاهرة.
هذا التلكؤ ليس جديدا على القمم العربية. فالحسابات القُطرية الضيقة تحكم مواقف كل نظام سياسي دون التعمق في المعطيات التي تؤكد وجود مخططات كبرى لا تستثني أحدا من الدول العربية وحتى الإسلامية، حيث يجهر الكيان الصهيوني بأهدافه في التطهير العرقي وطرد الشعب الفلسطيني إلى مصر والأردن أو أية دولة عربية أخرى سواء كانت قريبة أو بعيدة عن جغرافية فلسطين.
أُثقِلَ البيان الختامي لقمة القاهرة بحشوٍ كثير عن القضية الفلسطينية وكانها قضية مستجدة على الساحة وليست ساحة حرب إبادة ومشروع لتدمير المزيد من الدول العربية التي تخرج عن بيت الطاعة الأمريكي-الصهيوني. في بنوده الـ23، عرّج بيان القمة العربية على مفاصل القضية الفلسطينية بدءا من تحقيق السلام العادل والشامل، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتكثيف التعاون مع القوى الدولية والإقليمية، بما في ذلك مع الولايات المتحدة الأميركية، وتأكيد الموقف العربي الرافض لأي شكل من أشكال تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه أو داخلها، وإدانة القرار الصادر مؤخرا عن الحكومة الإسرائيلية بوقف إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة وغلق المعابر المستخدمة في أعمال الإغاثة، والتحذير من أن أي محاولات آثمة لتهجير الشعب الفلسطيني، أو محاولات لضم أي جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة، وإعادة إعمار غزة والتأكيد على أولوية استكمال تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار لمرحلتيه الثانية والثالثة، والترحيب بالقرار الفلسطيني بتشكيل لجنة إدارة غزة تحت مظلة الحكومة الفلسطينية، التي تتشكل من كفاءات من أبناء القطاع، لفترة انتقالية بالتزامن مع العمل على تمكين السلطة الوطنية للعودة إلى غزة، تجسيدا للوحدة السياسية والجغرافية للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ودعوة مجلس الأمن إلى نشر قوات دولية لحفظ السلام تسهم في تحقيق الأمن للشعبين الفلسطيني و"الإسرائيلي" في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، على أن يكون ذلك في سياق تعزيز الأفق السياسي لتجسيد الدولة الفلسطينية..الى آخر البنود.
لكن خطوة عملية لم تقدم عليها القمة، فماذا لو قررت الدول العربية المطبعة مع الكيان مدعومة بالمجتمعين إيقاف مسيرة التطبيع وسحب سفرائها من تل أبيب والطلب من سفراء الكيان مغادرة العواصم العربية؟
ماذا لو توقفت بعض الدول العربية عن إمداد الكيان بالنفط والسلع التي منعت عليه من البحر الأحمر؟
ماذا لو قررت القمة فتح المعابر والطلب من المجتمع الدولي مراقبة رد فعل الكيان على هذه الخطوة؟
ما الذي جعل رقاب الدول العربية تحت مقصلة الكيان والولايات المتحدة الامريكية؟
غياب الإرادة
ببساطة، أن الإرادة التي تمتع بها أبطال طوفان الأقصى والمقاومة الفلسطينية والبيئة الحاضنة في غزة والضفة الغربية، غير موجودة لدى النظام الرسمي العربي الذي يضم 22 دولة عربية بتعداد سكاني يزيد عن 400 مليون نسمة، وبحجم اقتصاد يبلغ ناتجه المحلي الإجمالي 3.5 تريليون دولار يتقدمه الاقتصاد السعودي بناتج إجمالي يصل إلى 1.1 تريليون دولار، يليه الإمارات بأكثر من 500 مليار دولار، ومصر بنحو 350 مليار دولار.
عجز الدول العربية في مواجهة التحديات الكبرى وفي مقدمتها القضية المركزية للأمة، فلسطين، ينبع من عدم قدرتها على اتخاذ القرارات المصيرية باستقلالية نظرا لغرق أغلب هذه الدول العربية في أزمات اقتصادادية واجتماعية مستفحلة مثل الفقر الذي يبلغ نحو ثلث السكان والبطالة التي تصل بين الشباب العربي نحو27 بالمئة والديون التي تصل في أعلى 10 دول مدينة لقرابة 1.5 تريليون دولار، وتردي الأداء الاقتصادي والسياسي. فالمواطن العربي مُغيب عن اتخاذ القرار في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية والاجتماعية وفشل برامج التنمية المستدامة بسبب استفراد الأنظمة بالقرارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية دون مشاركة مجتمعية، ما اغرقها في ديون عامة تبوأت في بعضها الباب الأول لمصروفات الميزانية العامة للدولة.
يضاف للواقع الاقتصادي المتردي حالة التفتت والتشردم وتساقط العديد من الدول في قائمة الدول الفاشلة أوالمفتتة، فضلا عن مخرجات الحروب والتطاحن الداخلي الذي أدى إلى هذا المستوى من الانحدار كما هو الحال في الصومال و السودان وسوريا والعراق وليبيا، فيما تسير بعض الدول إلى ذات المستنقع. وحيث تتحفز الإدارة الأمريكية الجديدة التي يتحكم في العديد من قراراتها اللوبي الصهيوني، فان على بعض الدول العربية أن تتحضر لقرارات ضاغطة من أجل التطبيع مع الكيان وخصوصا دول مجلس التعاون الخليجي. فلم يكن صدفة أن تشن إدارة الرئيس ترامب هجوما ظالما على الكويت وتطلق تصريحات مرسلة على عواهنها وتتهم الدولة الخليجية بفرض ضرائب اضافية على السلع الأمريكية، وتدعّي بأن امريكا دفعت 100 مليار دولار من أجل تحرير الكويت في 1991، بينما تفيد البيانات بغير ذلك، فالكلفة المقدرة رسميا لحرب تحرير الكويت بلغت 60 مليار دولار، دفعت الكويت ودول خليجية منها نحو 55 مليار دولار ولم تدفع الولايات المتحدة سوى 5 مليارات دولار وعوضتها أضعافا عبر صفقات التسلح مع دول الخليج. إن هذه التصريحات الهجومية هي مقدمة لضغوطات أكبر على الكويت وعلى السعودية أيضا، تهدف للتطبيع الكامل بين الكيان ودول مجلس التعاون الخليجي، للفوز بأكبر كعكة نفطية في المنطقة والعالم.
في ضوء هذا الواقع المزري والتفكير المطوق بشعار "القُطر أولا" إنزلقت العديد من الدول العربية نحو الهويات الفرعية القاتلة والاحترابات الداخلية والفتن الدينية والطائفية والمذهبية، وركنت على الرف قضية فلسطين. كيف يمكن اتخاذ قرارا جريء يلجم اندفاعة الكيان في القتل والتدمير، حتى لا نقول محاربته، لمواجهة حرب الابادة في فلسطين، بينما يعاني الوضع الداخلي العربي من هذا الكم الهائل من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية؟! إن الإدارة الأمريكية ومن ورائها اللوبي الصهيوني يمارسون أقصى درجات الضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ويهددون بزعزعة الاستقرار الهش في العديد من البلدان العربية التي تعاني من مصاعب اقتصادية وسياسية، وما أكثرها. وهل يمكن إيقاف التطبيع وتجميده مع الكيان بينما تمعن بعض النظم العربية في فتح الجسور البرية والبحرية والجوية للتعويض عن ممر البحر الأحمر وباب المندب المغلق على الكيان؟
في هذا الشأن فإن نمو التجارة بين الكيان وبعض الدول العربية يكشف بعض الوقائع. تشير البيانات الصهيونية إلى أن حجم التبادل التجاري بين دولة الاحتلال والدول العربية الخمس المطبعة معها (مصر، الأردن، الإمارات، المغرب و البحرين ) قد سجل ارتفاعا ليصل إلى 4.524 مليار دولار في العام 2024 (دون حساب واردات مصر من الغاز الطبيعي) بزيادة قدرها 15 بالمئة عن العام الذي سبقه، في الوقت الذي كان يفترض أن تتوقف هذه التجارة حيث يطبق الحصار على قطاع غزة لدرجة التجويع والعطش ومنع الدواء والمحروقات!!
كيف للمعابر أن تُفتح في ظل عدم القدرة على اتخاذ قرار بهذا الحجم بينما رقاب الأنظمة تحت مقصلة ترامب الذي يتصرف كامبراطور على العالم ويضرب على وتر نقاط ضعف النظام الرسمي العربي المهترئ في بنيته الداخلية وقاعدته الاجتماعية والشعبية؟
إن هذه المعطيات تقود بالضرورة إلى مخرجات باهتة للقمة العربية، وهي مخرجات لا يمكن التعويل عليها في إسناد الشعب الفلسطيني مادامت الأوضاع على ما هي عليه من تردٍ وتراجعٍ وتواطؤ مع العدو الصهيوني. فحين تُسلب إرادة الدول وتصادر سياداتها لصالح الكارتيلات المالية الكبرى والدول المتحكمة فيها، لا يمكن لها أن تتخد قرارات مستقلة تلبي مصالحها ومصالح شعوبها، بقدر ما تخضع لإرادة ومصالح الأطراف المقررة في مفاصل الاقتصاد والسياسة المتعارضة حتما مع المصالح الوطنية والقومية.
على هذا الأساس لم يكترث الاحتلال لقرارات القمة، حيث تيقن وتأكد أنها قرارات إنشائية غير قادرة على وقف ما يحضر له من جولات جديدة من الإبادة وفرض التهجير على أهالي غزة والضفة الغربية وسعيه لإخفاء جرائمه بتصعيد استهدافه للصحفيين وعائلاتهم بهدف طمس الحقيقة ومنع انتشارها للرأي العام العالمي، الذي بدأ يعي أن هذا الكيان ليس سوى قاعدة عسكرية متقدمة للولايات المتحدة وحلفائها، وأنه كيان أبارتهايد عنصري يقتل أكثر مما يتنفس منذ تأسيسه قبل 77 سنة.