Menu

مساع أميركية للتطبيع بين لبنان وإسرائيل تُفاقم الانقسام الداخلي

أنيس محسن

نشر في مجلة الهدف العدد (69) (1543)

بخلاف الادعاءات الإسرائيلية، فإن هدف البقاء على احتلال خمس تلال مشرفة حدودية في جنوب لبنان، ليس احتلالاً أمنياً، وهو أمر تؤكده الوقائع التقنية، وتعرفه الأوساط الرسمية والسياسية في لبنان، وتجاهر به مبعوثة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى لبنان مورغان أورتاغوس: إنه عنصر من عناصر الضغط لفرض التطبيع بكل ما يحمل من معانٍ صهيونية؛ أي الرضوخ للشروط الأسرا - أميركية من دون نقاش، والعودة إلى اتفاق 17 أيار/ مايو 1983 الذي ألغته انتفاضة 6 شباط/ فبراير 1984!

خدعة وقف الأعمال العدائية

باشر حزب الله معركة إسناد لقطاع غزة في اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى" التي شنتها "كتائب عز الدين القسام" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أي في 8 من الشهر نفسه، واستمر الاشتباك حدودياً على مسافة نحو 5 كلم من جهتي خط الحدود بين لبنان وشمال فلسطين المحتلة، حتى يوم 17 أيلول/ سبتمبر 2024، حين نفذت إسرائيل اعتداء واسعاً عبر تفجير آلاف أجهزة الاتصال "بيجر" التي يستخدمها عناصر من حزب الله وموظفون مدنيون في مؤسسات مدنية يديرها الحزب، موقعة آلاف الشهداء والجرحى، ليلي ذلك في 19 أيلول/ سبتمبر شن الطائرات الإسرائيلية مئات الغارات على مواقع في جنوب لبنان والبقاع، وفي اليوم التالي شنها غارات على الضاحية الجنوبية لبيروت. وتصاعدت الاعتداءات الإسرائيلية ووصلت إلى ذروتها بعملية اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في 27 أيلول/ سبتمبر وبعد 3 أيام عملية اغتيال ثانية طاولت الأمين العام المنتخب سراً السيد هاشم صفي الدين، ورافق الاغتيالين وسبقهما اغتيال عدد كبير من قادة الصفين الأول والثاني، ثم الثالث، من الحزب، فضلاً عن استهداف البنى التحتية والمباني في الضاحية، ثم في بيروت نفسها، بعد أن جرى تدمير قرى الحافة الأمامية اللبنانية المحاذية لفلسطين المحتلة، وأحياء كاملة في مدينتي صور والنبطية. وفي المقابل، أمطر حزب الله المستعمرات الإسرائيلية بآلاف الصواريخ، وصولاً إلى تل أبيب، وبلغت بعض الصواريخ مستعمرات في الضفة الغربية، كما تصدى مقاتلو حزب االله، وتشكيلات من المقاومة الفلسطينية واللبنانية للعملية البرية التي باشرتها قوات الاحتلال في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، ليستمر القتال عنيفاً وسط مساع أميركية لوقف لإطلاق النار، قادها المبعوث الرئاسي آموس هوكشتاين، نجحت في تحديد فجر 27 تشرين الثاني لبدء وقف للأعمال العدائية (وليس وقفاً للنار كما يُشاع).

وقد نص الاتفاق على تنفيذ الطرفين القرار 1701 بالكامل، كما أعطى إسرائيل ولبنان الحق بـ "الدفاع عن النفس"، مشدداً على حصرية السلاح للقوى المسلحة الرسمية اللبنانية التي ستنشر 10 آلاف جندي في منطقة جنوب نهر الليطاني، وأن تعمل الأطراف الثلاثة المعنية بتنفيذ الاتفاق، لبنان وإسرائيل وقوات اليونيفيل، بوجود ممثلين عن الولايات المتحدة وفرنسا على مصادرة الأسلحة غير المصرح بها، ومنع وجود أي سلاح أو مسلحين غير القوات المسلحة اللبنانية الرسمية، وأن تبلّغ إسرائيل ولبنان قوات اليونيفل عن أي انتهاكات مزعومة.

منذ اللحظة الأولى لم تستجب إسرائيل للاتفاق، وبدل أن تباشر انسحاباً منظماً من جميع المساحة التي احتلتها في قرى الحافة الأمامية، عملت على التوسع باتجاه مناطق لم تتمكن من دخولها خلال القتال البري، وباشرت تدميراً ممنهجاً للبنى التحتية والمباني، ورفضت تنفيذ الجدول الزمني للانسحاب وفق الاتفاق، زاعمة أن الجيش اللبناني لا ينفذ المطلوب منه، وهو أمرٌ كذبته تقارير اليونيفل، لتستقر في 18 شباط/ فبراير 2025 على انسحاب جزئي مع الحفاظ على وجود جيشها في 5 تلال تتحكم بجنوب لبنان، أي بعد أكثر من 45 يوماً من التاريخ الذي نص عليه الاتفاق للانسحاب من مختلف المساحة التي احتلتها في الجنوب، فيما يظهر أن الاتفاق كان مجرد خديعة لتحقيق سلم ما لم تستطع تحقيقه حرباً، بتواطؤ أميركي واضح، على الرغم من أن ضابطاً أميركياً عُيّن للسهر على تنفيذ الاتفاق، بل ليظهر أن الهدف الحقيقي هو أبعد من الجغرافيا، ويُلامس المسألة السياسية.

التطبيع ثمناً بتواطؤ أميركي

ما أُخفي خلال مفاوضات التوصل إلى اتفاق وقف الأعمال العدائية، وما بعد التوصل إلى هذا الاتفاق، هو الثمن السياسي المطلوب إسرائيلياً وأميركياً من لبنان؛ فلا يخفى على أحد، حتى لو لم يكن عسكرياً، أن الاحتفاظ بتلال داخل لبنان بذريعة حماية المستعمرات الإسرائيلية ومراقبة أي خرق يمكن أن يجري داخل لبنان، هو محض هراء، فالتكنولوجيا الحديثة المحملة عبر الطائرات المسيّرة باتت قادرة على كشف أي تحرك في أنحاء لبنان وليس فقط في جنوبه، وليس خافياً على أحد أن إسرائيل هي من يخرق الاتفاق، وقد خرقته أكثر من ألف مرة، وحتى نهاية آذار/ مارس 2025، تسببت بمقتل أكثر من مئة وجرح أكثر من 300 منذ وقف الأعمال العدائية، على الرغم من التزام حزب الله الصارم بالاتفاق.

لقد بلغت الوقاحة الأميركية في النطق باسم إسرائيل مدى غير مسبوق. أولاً حين زارت المبعوثة الخاصة إلى لبنان، مورغان أورتاغوس البلد أول مرة في 7 شباط/ فبراير 2025، وصرحت من القصر الجمهوري عن امتنانها "لحلفيتنا إسرائيل لهزيمة حزب الله"، ثم في 19 آذار/ مارس كشفت قناة "الجديد" التلفزيونية اللبنانية أن أورتاغوس "اتصلت بكل من رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام وحضتهما على ضرورة تشكيل لجان مدنية للتفاوض مع إسرائيل تحت طائلة سحب اليد الأميركية من لجنة المراقبة وإعطاء إسرائيل حرية التصرف."

هذا الموقف قابله رفض رئاستي الجمهورية والحكومة في لبنان، وموقف واضح من رئيس مجلس النواب نبيه بري برفض أي تفاوض بعيداً عن المفاوضات الأمنية التقنية. وفي هذا السياق، صرح بري لجريدة "الشرق الأوسط" في 23 آذار/ مارس بأن "لدى إسرائيل نيّة لاستدراجنا للدخول في مفاوضات سياسية لتطبيع العلاقات بين البلدين، ولكننا لسنا في هذا الوارد"، مضيفاً "لدينا اتفاق يحظى بدعم دولي وعربي وبتأييد الأمم المتحدة، ونحن نطبقه ونلتزم بحرفيته، وإسرائيل هي من يُعطل تنفيذه وتسعى للالتفاف عليه."

خطر الداخل يؤازر خطر الخارج

ليس بسيطاً أبداً الضغط الأميركي والإسرائيلي على لبنان، سواء عبر فرض معادلة التطبيع مقابل الانسحاب، أو ربط إعادة الإعمار بإقصاء حزب الله، ومعظم الطائفة الشيعية، عن مركز القرار في السياسة اللبنانية، وتهميش ممثلي الطائفة متمثلين بحزب الله وحركة أمل.

لكن ما يُمكن أن يُعتبر خطراً أكبر، هو استخدام الانقسام السياسي الداخلي، العميق والذي هو أبعد من حرب تشرين الأول/ أكتوبر، والممتد إلى زمن تأسيس لبنان وتوزيع السلطة فيه على الطوائف.

ففي مقالة نشرها موقع "التقرير العربي" الإلكتروني في 23 آذار/ مارس ينقل الصحافي والكاتب اللبناني قاسم قصير مشاعر قلق تسود معظم مكونات الطائفة الشيعية، ويقول إن "تحديات كبيرة خارجية وداخلية" تواجه لبنان "قد تؤدي إلى انهيار الآمال التي عُلِّقت على العهد الجديد بعد انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة برئاسة الدكتور نواف سلام"، اللذين وصلا إلى الحكم بضغط شعبي داخلي وبدفع عربي ودولي بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، شبيهة "إلى حد ما بمرحلة الرئيس إلياس سركيس الذي انتخب في سنة 1976 بعد حرب السنتين وبدعم عربي ودولي من أجل إنقاذ لبنان من الصراعات الداخلية والخارجية."

ويلفت قصير إلى "بروز خلافات لبنانية داخلية بشأن كيفية مواجهة كل هذه التحديات، وإصرار بعض الأطراف اللبنانية على الدعوة لنزع سلاح حزب الله بالقوة إذا لم يتم الاتفاق على ذلك بالتراضي، وتبرير البعض للعدوان الإسرائيلي على لبنان باستمرار وجود سلاح الحزب في مناطق شمال نهر الليطاني."

ويشير إلى "مخاوف جديّة من عودة الفتنة الداخلية، مع رهان بعض القوى السياسية على تدخلات خارجية لنزع سلاح حزب الله، وكذلك منع إعادة إعمار المناطق التي دمرها الجيش الإسرائيلي، وسط سجالات داخلية، تثير مخاوف لدى غالبية الطائفة الشيعية من وجود مشاريع داخلية وخارجية لاستهدافها."

إن من يُراقب أداء القوى السياسية في لبنان، يستنتج أن المرحلة خطيرة للغاية، وليست تحذيرات قصير، الصحافي والكاتب والشيعي العابر للطائفة، والمشارك في الكثير من مبادرات التقريب بين الأديان والطوائف في لبنان، سوى مؤشر إلى حقيقة الوضع، والشعور الذي يعتري أكثر من ثلث عدد اللبنانيين من مسعى لتهميشهم، وبالتالي دفعهم نحو التقوقع، أو الانفجار مجدداً في إستعادة لتاريخ انتفاضة 6 شباط/ فبراير 1984، لكن في سياق وضع أكثر تعقيداً محلياً وإقليمياً ودولياً، الأمر الذي يُفاقم من الخطر، وخصوصاً إذا تساوق بعض الداخل مع بعض الخارج الذي يختزن حقداً على لبنان لما أصابه فيه من هزائم سابقة، وتحقيقاً لهدف السيطرة الكاملة على الإقليم كله، بواسطة إسرائيل، ولمصلحة الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، الأمر الذي يتطلب تفكيراً من خارج الصندوق من القوى المُستهدفة في هذه الهجمة الساحقة، سواء في لبنان، أو فلسطين، أو باقي المنطقة.