يعتبر يوم الطفل الفلسطيني مناسبة هامة لتسليط الضوء على معاناة الأطفال الفلسطينيين الذين يعانون من انتهاكات متواصلة لحقوقهم الأساسية، وأحد أبرز أوجه هذه المعاناة هو الاعتقال في سجون الاحتلال.
إذ يتعرض العديد من الأطفال الفلسطينيين لعمليات اعتقال ممنهجة تهدف إلى تفكيك بنيتهم النفسية والاجتماعية، وهي عملية سلب متعمدة لبراءتهم، وتشويه مراحل نموهم الطبيعي. من خلال فهم السياق النفسي والسياسي لهذه المعاناة، يمكننا أن نرى كيف يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى "إعادة هندسة" الطفل الفلسطيني نفسيًا وعاطفيًا وفق نظام ممنهج، محاولًا زرع الخوف واليأس في روح هذا الطفل.
بحسب تقرير الاحصاء الفلسطيني لعام 2024، يشكل الأطفال دون سن 18 عامًا 43% من سكان فلسطين، أي ما يقارب 2.38 مليون طفل. وتظهر الأرقام بشكل خاص حجم المعاناة في قطاع غزة، حيث يشكل الأطفال نحو 47% من السكان. في ظل هذا العدد الهائل، يعاني الأطفال في غزة من تحديات كارثية نتيجة العدوان المستمر والممارسات الاحتلالية التي تهدف إلى تقويض طفولتهم.
من أبرز أشكال انتهاك الطفولة في الأراضي الفلسطينية هو الاعتقال الممنهج للأطفال. ففي العام 2024 وحده، تم اعتقال أكثر من 700 طفل فلسطيني، ليصل إجمالي الأطفال المعتقلين منذ اندلاع احرب الابدة على غزة، إلى أكثر من 1,055 طفلًا.
يُظهر تقرير صادر عن مؤسسات حقوق الأسرى أن عمليات الاعتقال لا تقتصر على السجن، بل تشمل اقتحام المنازل ليلاً، والاعتداء البدني على الأطفال أمام أعين ذويهم، مما يشكل انتهاكًا صارخًا لحقوق الطفل وفقًا للقانون الدولي.
النظريات النفسية تشير إلى أن الاعتقال له تأثير طويل الأمد على نفسية الأطفال، ويؤدي إلى اضطرابات نفسية عميقة مثل القلق المزمن، الاكتئاب، وتراجع التطور الاجتماعي والعاطفي. إضافة إلى ذلك، فإن التجربة النفسية التي يمر بها الطفل في المعتقلات تُضعف من ثقة الطفل في النظام الاجتماعي الذي من المفترض أن يوفر له الأمان.
التأثير النفسي للاعتقال على الأطفال الفلسطينيين يتجاوز مجرد الخوف اللحظي، ليصل إلى حالة من فقدان الأمل في المستقبل. وفقًا لنظريات في علم النفس الاجتماعي، فإن تعرض الطفل لممارسات قمعية تعيق تطوره الطبيعي وتخلق بيئة من العنف والضغط النفسي المزمن، مما يؤدي إلى زرع مشاعر العجز واليأس. طفل فلسطيني اعتُقل أو شهد اعتقال أقاربه يعاني من "انفصال عاطفي" عن المجتمع المحيط به، مما يجعله يواجه صعوبة في بناء علاقات صحية ومرنة مع المحيطين به في المستقبل.
إضافة إلى ذلك، يتعرض الأطفال الفلسطينيون في المعتقلات للعديد من أشكال المعاملة القاسية، من ضرب وتعذيب نفسي وجسدي، ما يعمق الجروح النفسية. تشير الدراسات النفسية إلى أن مثل هذه التجارب قد تؤدي إلى تطور اضطرابات ما بعد الصدمة، مما يؤثر على تطورهم الذاتي والعاطفي والمهني.
تأثرت حياة الأطفال الفلسطينيين بشكل كبير بعد حرب الإبادة على غزة في 7 أكتوبر 2023. وفقًا للتقرير الصادر عن مؤسسات حقوق الإنسان، فإن 17,954 طفلًا فلسطينيًا قد استشهدوا في العدوان، بينهم أطفال حديثو الولادة، كما أصيب 113,274 آخرون، 69% منهم من الأطفال والنساء. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل تمثل مأساة إنسانية حقيقية تعكس الآثار النفسية والجسدية المدمرة على جيل كامل من الأطفال. إن تدمير البنية التحتية التعليمية في قطاع غزة، بما في ذلك تدمير أكثر من 111 مدرسة حكومية، جعل التعليم حلمًا بعيد المنال لما يقارب 700,000 طفل. هكذا، تتوالى الضغوط النفسية على الأطفال الفلسطينيين، ما يضاعف من معاناتهم في بيئة مليئة بالحروب والعنف.
استنادًا إلى نظريات الفلسفة النفسية مثل نظرية "الإدراك المباشر" التي طرحها الفيلسوف والباحث الألماني إدموند هوسرل، يمكننا القول إن الطفل الفلسطيني يعاني من إدراك مشوه لواقع حياته في ظل القهر والممارسات الإسرائيلية. هذه الصدمة المستمرة لا تؤثر فقط على معايير تطور الطفل الاجتماعية والنفسية، بل تخلق لهم نظرة سوداوية تجاه المستقبل. كما تشير نظرية "الصدمة الجمعية" التي طورها الفيلسوف النفساني أندرو جوتينغ إلى أن الشعور الدائم بالتهديد والخوف يؤدي إلى تشكل شخصية الطفل بشكل يتسم بالحذر المفرط، العزلة الاجتماعية، وفقدان الثقة بالمؤسسات.
في ظل العدوان المستمر، يعاني الأطفال في غزة من المجاعة وسوء التغذية الحاد. وفقًا للتقرير الصادر عن التصنيف المرحلي للأمن الغذائي، من المتوقع أن يعاني نحو 60,000 طفل في غزة من سوء التغذية الحاد. هذا الوضع يعمق من معاناتهم الجسدية والنفسية، ما يعكس كيفية محاولات الاحتلال الإسرائيلية لتدمير نموهم الجسدي والعقلي من خلال حرمانهم من الغذاء والتعليم والعلاج.
من خلال الاعتقالات الممنهجة والتدمير الشامل لموارد التعليم والصحة، يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى محو مستقبل الأطفال الفلسطينيين، ليس فقط عبر قتل الأجساد بل أيضًا عبر قتل الأحلام والبراءة. يوم الطفل الفلسطيني يجب أن يكون فرصة لتوعية العالم بأهمية هذه المعاناة المستمرة، ولحث المجتمع الدولي على العمل الجاد لحماية أطفال فلسطين وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي اللازم لهم.