Menu

فلسطين: بين الحرب والقمة العربية والمستقبل

د. حاتم الجوهري

نشر في مجلة الهدف العدد (69) (1543)

عادت أمريكا ودولة الاحتلال سريعا لمشروع صفقة القرن المعلن منذ فترة ترشح دونالد ترامب الأولى عام 2015م، ودقا طبول الحرب مجددا في شهر رمضان المبارك 2025م، ضاربين عرض الحائط باتفاق وقف إطلاق النار والانتقال لمرحلتيه الثانية والثالثة، ليطرح السؤال الصعب نفسه؛ ما هو مستقبل القضية الفلسطينية بين القمة العربية غير العادية التي عرفت بـ"قمة فلسطين" والبيان الذي خرج عنها وعرف بـ"بيان القاهرة"؟ وبين مشروع صفقة القرن الخشنة والتهجير القسري للفلسطينيين خارج غزة (بعدما كانت الصفقة ناعمة نوعا في ولاية ترامب الأولى والاتفاقيات الإبراهيمية، وباعتبار الفلسطينيين سيكونون عمالة رخيصة للمحتوى الاقتصادي لصفقة القرن التي أعلنت رسميا نهاية ولايته الأولى)، وبعد إغداق المال والسلاح والعتاد على "إسرائيل" لتعود ثانية إلى الحرب والإبادة.

 

قمة فلسطين: الدافع الرئيس والهدف

بداية علينا أن نعرف المتغير الأبرز الذي حدث في المشهد الإقليمي والعالمي الذي دفع البلدان العربية لعقد قمة طارئة غير عادية، ليبرز أمامنا المستجد الأوضح مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مجددا، ونجاحه في الانتخابات ضد الحزب الديمقراطي الذي فشل في التمايز السياسي وكان باهتا مع جو بايدن، وفشلت كمالا هاريس في طرح نفسها منافسا انتخابيا على الرئاسة أمام دونالد ترامب، وكان ترامب ذكيا/ واقعيا بحيث استخدم خطابا غير واضح ليكسب أصوات العرب الأمريكيين الناقمين على سياسة الإدارة الديمقراطية، ويكسب أصوات اليهود الأمريكيين الذين يعرفون موقفه الصهيوني الأساسي جيدا.

وفور أن تمكن دونالد ترامب من سدة الحكم عاد إلى أسلوبه في السياسات الخارجية، القائم على التصعيد ورفع السقف في كل الملفات، ثم التفاوض والتراجع على قدر استجابة الأطراف المقابلة وأوراقها التفاوضية في كل ملف، تماما مثلما فعل في فترة ولايته الأولى، ليرفع خطابه في ولايته الثانية السقف تجاه أوكرانيا وكندا والمكسيك، والدعوة لضم جرينلاند من الدنمارك معاديا حلفاءه الأوربيين، ومهددا برفع الغطاء العسكري لحلف الناتو عنهم...

وفي ملف فلسطين كشف وجهه سريعا بخطاب سياسي تصعيدي ضد المقاومة الفلسطينية، ولم يتأخر في العودة للب مشروعه لصفقة القرن التي كانت معنونة "السلام من أجل الازدهار" (بعدما كان مشروع السلام الأصلي في "أوسلو" معنونا: الأرض مقابل السلام)، فطالب بالاستيلاء على أرض غزة وتحويلها إلى مشروع اقتصادي باسم "ريفيرا الشرق"! وتهجير أهلها إلى مصر والأردن، بخطاب سياسي فج ووقح مرتفع السقف والعنجهية للغاية، تجسد في لقائه بالبيت الأبيض مع ملك الأردن ووضعه تحت ضغط أمام وسائل الإعلام، مع رفض مصر لتصريحات ترامب وإعلان الرئيس المصري رفض زيارة واشنطن طالما تضمن جدول الزيارة مشروع التهجير.

من هنا ضغطت مصر والأردن عربيا لحشد سياسي ضد مشروع التهجير، لكن هذا الحشد لم يكن خلفه مشروع جيوثقافي عربي واحد، أو لم تكن هناك سردية عربية موحدة خلفه، إنما شاركت بعض الأطراف تحسسا من الحرج تجاه الرأي العام العربي، وعلى الجهة الأخرى نجد الموقف المعلن لبعض الدول العربية يميل لقبول "صفقة القرن" والمشروع الأمريكي سواء في وجهه الناعم نسبيا في فترة دونالد ترامب الأولى (دول الاتفاقيات الإبراهيمية)، أو وجهه الخشن حاليا في فترة ولايته الثانية القائم على التهجير والحرب، بل إن التسريبات الإعلامية والمواقف المعلنة تؤكد أن هناك دولة خليجية تعلن من وقت لآخر تحفظها على خطة مصر البديلة للتهجير أو خطة إعمار غزة، وتدعم ضمنيا أو صراحة خطة صفقة القرن المعدلة بكل تفاصيلها الخشنة وطرحها الراهن، أو تعديلاتها الممكنة وسيناريوهاتها المحتملة بين الناعم والخشن.

من ثم فإن "قمة فلسطين" حاولت مصر والأردن فيها التحرك وفق "الحد الأدنى" الممكن عربيا لتفكيك السقف المرتفع لدونالد ترامب، لكن حتى هذه اللحظة لم تظهر سردية عربية موحدة في مواجهة صفقة القرن الجديدة، لأن ترامب كان قد نجح في إدارة التناقضات وشق الصف العربي في ولايته الأولى لتمرير الصفقة و"الاتفاقيات الإبراهيمية"، لذا فالتقييم السياسي العام لقمة فلسطين يضعها في سياق أنها كانت بهدف رئيس، يرفض السقف المرتفع لترامب لتهجير أهل غزة باتجاه مصر والأردن.

 

ما بعد القمة وعودة الحرب

ومثلما تعودنا من ترامب؛ قام بعد القمة العربية وموقفها بتغيير تكتيكاته على أصعدة عدة، متراجعا عن خطاب التهجير المباشر إلى مصر والأردن، لتخبرنا وسائل الإعلام بمحاولته التفاوض مع السودان وأثيوبيا والصومال لاستقبال أهل غزة تحت مسميات مثل "الهجرة الطوعية"، وتمسكت دولة الاحتلال بمشروع التهجير علانية.

وفي الوقت نفسه كان نتانياهو قد لجأ لتخفيف الضغط الأمريكي والداخلي عليه، فقبل بالمرحلة الأولى لوقف إطلاق النار (تماما مثلما فعل في الهدنة الوحيدة التي حدثت في حرب غزة في نوفمبر 2023م)، وعاد بعدها لأسلوبه السياسي نفسه القائم على الحرب والتصعيد والسقف المرتفع، مباشرة بعد القمة العربية وبعد أن دعم ترامب ترسانة جيش الاحتلال بعدة مليارات من الأسلحة والذخائر، ليعلن عودة الحرب على غزة بعمليات قصف جوي يوم 18 مارس سقط خلالها عشرات الشهداء والجرحى.

 

المستقبل: فلسطين وأزمة السردية العربية

ودولة ما بعد الاستقلال

تعاني السردية العربية المنهكة من التشققات الكبرى، فلقد تفككت سوريا فجأة، ويتهدد السودان الخطر نفسه بإعلان تدشين الحكومة الموازية مؤخرا، وفي الطريق ذاته سارت ليبيا بشرقها وغربها، واليمن مع الحوثيين والجنوبيين والشماليين، والعراق في التسعينيات كانت ضربة البداية، والظروف مهيأة حاليا لانضمام مزيد من الدول العربية لحالة التفكك.

بيت الداء؛ أن "دولة ما بعد الاستقلال" في العالم العربي أصيبت سرديتها السياسية عن "القومية الاشتراكية" بالانسداد، ولم تفلح الثورات العربية في تقديم سردية بديلة نتيجة لأسباب متعددة، والممالك في الشرق العربي حافظت على استقرارها النسبي بسبب الوفرات النقدية التي حققها البترول، ولم تطور مشروعا يتجاوز فكرة "الإسلام العام" التي قدمتها السعودية بعد تفكك "الخلافة الإسلامية"وتبني تركيا للعلمانية الغربية المتطرفة، من ثم فإن الأزمة حاليا هي عجز الذات العربية عن تقديم سردية بديلة، ليس من أجل إنقاذ فلسطين ومقدساتها الدينية فقط، إنما لإنقاذ البلدان الباقية من الدول العربية من خطر الانسداد السياسي والتفكك.

تتفكك الدول بسبب الفشل في ظهور بدائل سياسية جديدة، بسبب العجز عن القيام بعملية "تنخيب طبيعي"، وإصرار التمثلات السياسية سلطة أو معارضة (يمينا ويسارا) على احتكار التمثيل، هنا وفي لحظة معينة نتيجة غياب بدائل سياسية معبرة عن مشتركات "مستودع الهوية" العربي بكافة مكوناته، يحدث التشقق والانهيار والتفكك لصالح سرديات أخرى.

الحقيقة أن فلسطين ليست وحدها هي المعرضة لخطر التفكك، والتهجير لصالح السردية الصهيونية وسردية المركزية الغربية في صورتها الحالية مع نظريات الصدام الحضاري الأمريكية، إنما كل البلدان العربية معرضة لخطر التفكك والهزيمة، نتيجة غياب الوعي العربي بضرورة ظهور سردية جديدة، وتجاوز التمترس والتخندق الذي تمارسه كل التمثلات السياسية حول مشروعها الخاص سلطة ومعارضة.. دونه الفوضى أو الفناء!

 

"التمثيل الزائف" و"الانشغال بالهتاف":

مأزق الذات العربية يكمن في غياب القوى الناعمة العربية والمفكرين العرب المنوط بهم إنتاج سردية بديلة؛ ذلك بسبب "التمثيل الزائف" و"الانشغال بالهتاف"...

"التمثيل الزائف" يعني أن الحواضن العلمية والثقافية والسياسية العربية سلطة ومعارضة لا تقوم على التمثيل و"الفرز الطبيعي" لأفضل العناصر الموجودة بالمجتمع العربي، إما بسبب التمترس أيديولوجيا حول مشاريع القرن العشرين التي انسدت بالفعل، أو بسبب "شراء الولاء" سياسيا على المستوى الرسمي واستقطاب عناصر ضعيفة لا تملك الإمكانيات المطلوبة.

و"الانشغال بالهتاف"؛ يعني على المستوى الثقافي الاشتباك الانطباعي المستمر مع الأحداث اليومية (حالة السوشيال ميديا)، دون وجود اهتمام بالاحتشاد والعمل المنضبط لبناء سرديات كلية بديلة، لتتجه البلدان العربية نحو الانسداد والتفكيك بسبب غياب البدائل السياسية والفشل في إنتاج سردية بديلة.

 

هل من بصيص أمل: آخر المراكز التاريخية

ويبقى الأمل؛ يبقى الأمل في تطور وعي سريع بأزمة الذات العربية وسرديتها الراهنة، فلسطين ليست سوى ناقوس الذات العربية (كما كتبت مقالة بالعنوان ذاته منذ سنوات عدة)، فلسطين هي أرفع مكونات "مستودع الهوية" العربي في مستواه الديني، وفي كل الأحوال ستكون دافعا لظهور سردية عربية إسلامية جديدة حتى لو تأخرت بعض الوقت، حتى ولو سقطت القدس ، كما سقطت من قبل واستعدناها.

يكمن الأمل الحقيقي في مصر المركز التاريخي للحاضنة العربية الإسلامية ومستودع هويتها، مصر هى آخر دول ما بعد الاستقلال المجاورة لفلسطين والتي ما تزال قائمة (تقع الجزائر جغرافيا بعيدا عن المواجهة)، إذا وعت مصر لنفسها واستطاعت اتخاذ قرارات سياسية قاسية بفك الانسداد السياسي الراهن، أيا كان ثمنه، فإنه يمكن أن تكون لحظة تاريخية لظهور سردية عربية جديدة.

دون ظهور سردية عربية جديدة تملك حلولا وخطابات ناجعة تجاه الجغرافيا الثقافية، والجغرافيا الاقتصادية، والجغرافيا السياسية، بما يرصف الطريق لتجاوز التناقضات التي تفجرت في المشهد القائم، وانسداد المسارات السياسية الخاصة به على مستوى السلطة والمعارضة على السواء، فإن فلسطين ليست وحدها المهددة بالسقوط والتهجير والإبادة.. إنما يبقى الأمل كامنا وممكنا في بزوغ سردية عربية جديدة -وإن تأخرت- رغم كل شيء.