بعد الإفلات الصهيوني من استحقاقات المرحلة الثانية واستبعادها أو استبدالها، باستئناف الحرب صبيحة الثلاثاء 18 / 3 / 2025 / مارس/ آذار، وجد ما يسمى رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو نفسه في وضع مريح نتيجة الضغوط التي تحيط به من كل جانب، أو بعبارة أخرى في مواجهة سبع جبهات حسب زعمه، وذلك فاسحاً المجال أمام الآلة العسكرية لتحقيق ما عجز عنه طيلة الخمسة عشر شهرا ً قبل توقيع الاتفاق على وقف إطلاق النار16 / 1 / 2025 بينما تمسكت قوى المقاومة بالاتفاق الذي ينص في مرحلته الثانية على وقف إطلاق النار والانسحاب الكامل، وإعادة الإعمار.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعترف بتعقد القضية، ويقر بحجم الكراهية بين الطرفين، ويأمل أن تسير الأمور على ما يرام، وذلك بإرسال مبعوثه الخاص وصديق ملاعب الغولف والعقارات ستيف ويتكوف، ومدير شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي إريك تريجر، اللذان مكثا في الدوحة ثلاثة أيام متواصلة في محاولة لتجسير الهوة ورأب الصدع التفاوضي، وتقريب وجهات النظر بين طرفي الصراع، الوضع الذي نتج عنه تمديد الهدنة من المرحلة أولى إلى آخر شهر رمضان ونهاية عيد الفصح اليهودي، مع إطلاق سراح الأسير مزدوج الجنسية عيدان الكسندر بالإضافة إلى أربعة جثامين مزدوجي الجنسية أيضاً، الأمر الذي أزعج قادة الكيان الصهيوني، متهمة واشنطن بالاستفراد وتفضيل أسراها عن بقية الرهائن الصهاينة، ومازاد الطين بلّة تصريحات المبعوث الشخصي للرئيس الأمريكي، أدم بولر الذي وصف محادثاته مع وفد التفاوض التابع لحركة حماس بالمفيد جدا ً، وزاد على ذلك بقوله، لسنا عملاء لإسرائيل ولدينا مصالح. تلك التصريحات كانت سببا ً بخروجه من المشهد السياسي بعد حملة الغضب الصهيوني الفاعل في الولايات المتحدة .
رؤية الكيان للعملية التفاوضية تتمثل بوجود «إطار عمل» يفضي لوقف إطلاق النار في اليوم الأول، وإطلاق سراح خمس رهائن من بينهم عيدان الكسندر، ومن ثم يتم تركيز المفاوضات لوقف دائم، وإطلاق باقي الرهائن، وهذه المدة تحدد بخمسين يوماً مع دخول المساعدات الإنسانية ووقف الطيران الحربي فوق القطاع، وضمان كل من الولايات المتحدة و مصر وقطر هذا الاتفاق والعمل على تنفيذه.
لقد كان رد حركة حماس على المقترحات، وجود «آليات» بدلا ً من الإطار التي طرحته «إسرائيل» لما فيه من الإيهام والإبهام!، واستمرار التفاوض ( غير المباشر ) برعاية الوسطاء مع حرصها على تفضيل الأمور الإنسانية وفتح المعابر وإيصال المساعدات قبل الإفراج المتفق عليهم، ومطالبة الكيان الصهيوني بالانسحاب من محور صلاح الدين ( فيلادلفي ) والسماح لسكان غزة بالعودة، والانسحاب من محور نتساريم أيضا ً .
وفي سياق الرد الصهيوني على مطالب حماس، طالبت «إسرائيل» بالإفراج عن 11 من الرهائن الأحياء و16 من الرفات مقابل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، وبعد التبادل؛ الشروع بمفاوضات غير مباشرة بعد 40 يوم وعلى الوسطاء أن يضعوا الآليات المناسبة لإيصال المساعدات للمدنيين من غير العسكريين والمقاومين، بالإضافة إلى تلقي تقارير طبية عن الأحياء والأموات من الرهائن مع التزام الضامنين بتحقيق وتوقف دائم لإطلاق النار .
تسعى الولايات المتحدة وقت الهدنة لإيجاد حل دائم لوقف إطلاق النار مع رؤيتها ‘‘غياب حماس’’ عن المشهد السياسي، أو انتهاء إدارتها للقطاع. وفي تصريح لترامب يقول فيه، لا أحد يريد تهجير الفلسطينيين من غزة، ليعطي الأمر أكثر غموضا ً من ذي قبل، لأن ما يشاع في الأخبار عن الحديث أن السودان وأرض الصومال مكانان مناسبان لاستقبال الفلسطينيين باعتبارهما دولتان فاشلتان لا يمكنهما أن يعترضا على الرؤية الأمريكية، وربما يتم إغرائهما بالمال، لأن الوزير الصهيوني المتشدد بتسلائيل سموتريتش والذي يحمل حقيبة المالية، يُحرض ويحُض رئيس العدو الصهيوني نتنياهو بالبدء بتنفيذ خطة ترامب بالترحيل واستئناف الحرب، وعودة المتطرف الآخر ايتمار بن غفير زعيم حزب عوتسما يهوديت وزير الأمن القومي، إلى الحكومة تزامن مع استئناف الحرب مشترطا ً على نتنياهو القضاء على أشكال المقاومة في غزة حتى آخر مقاتل من حماس .
تصميم «إسرائيل» على نزع سلاح المقاومة، ونفي القادة إلى الخارج، يمثل خطا ً أحمر. وزيرخارجية الكيان جدعون ساعر يقول، إن «إسرائيل» لن توافق على أي شيء أقل من نزع السلاح بشكل كامل، وإنهاء حكم حماس. واستئناف الحرب بالشكل الهمجي البربري، يؤكد مزاعم الصهاينة، بدورها المقاومة تؤكد على أن الرهائن لن يخرجوا إلا عبر صفقة وبالشروط التي تراها مناسبة، فالقضية دخلت في منعطف خطير، لأن المسافة بين الطرفين تعد بالصفرية، وحجم الكراهية وتباينات المواقف بين الطرفين تفضي إلى المكاسرة العسكرية والسياسية.
الهجمات التي شنتها الولايات المتحدة مع بريطانيا على اليمن الشقيق، تأتي نتيجة الاستعصاء السياسي الذي بدوره قدم الحلول العسكرية على الدبلوماسية في أقله أن المواقف لا تكاد أن تصل إلى حلول وسط أو ما يسمى بالرجوع عن الأهداف المعلنة، فالولايات المتحدة مصممة هذه المرة على إحداث ما يسمى كسر الإرادة اليمنية ومنعها من استهداف الملاحة الدولية، والتهديد والتلويح بعمل عسكري أيضا ً لإيران باعتبارها الراعية لجماعة أنصار الله والمزودة الوحيدة له بالسلاح والعتاد وربما بالرجال، في حين تصر جماعة أنصار الله أن تفتح جبهة الإسناد لمناصر الأشقاء الفلسطينيين المظلومين، لأنه مبدأ ديني وأخلاقي..
تتوجس الولايات المتحدة من الانزلاق بالحرب على الجبهة اليمنية، وذلك، يعود للذاكرة التي لا تكاد أن تنطفئ وما جرى لها في أفغانستان، حين قررت الانسحاب وترك الميليشيات التابعة لها، وعودة العلاقات الأمريكية الأفغانية، والاعتراف بحكومة طالبان، وهي التي قصفت بأم القنابل من المرحلة الأولى من حكم ترامب، وبالتالي وصفت هذه المرحلة بالبراغماتية الأمريكية الساعية إلى تصفير المشاكل، واستبدالها بإقامة علاقات دبلوماسية من شأنها أن تنفع البلدين! لكن الحقيقة تقول غير ذلك، واشنطن هربت نتيجة صمود حركة طالبان ومرونتها على تضاريسها، وصرف المليارات التي تذهب هباءً منثوراً، وصعوبة إيجاد شخصية كـ «حامد قرضاي» تكون موالية لواشنطن تنفذ ما يطلب منها .
واشنطن و«إسرائيل»، تجربان ما يطلق عليه «نظرية الرجل المجنون»، فـ «إسرائيل» بشخص نتنياهو الذي يعاني من المساءلة القانونية لقضايا تتعلق بالرشى والفساد، يجد نفسه مرغما ً للهروب إلى الأمام بافتعال الحروب وديمومتها، وهو الذي يخشى من تنفيذ الاستحقاقات الموقعة مع المقاومة، لأن من شأن ذلك أن ينهي مسيرته ، ويذهب بقدمه إلى غياهب السجون، لذلك أقدم على عزل وزير الحرب يوآف غالانت، وبعض القادة الأقل رتبة، وليس آخرهم بالطبع رئيس الشاباك رونين بار، الذي يتابع بنفسه التحقيقات والملابسات جراء الفشل الاستراتيجي العسكري في السابع من أكتوبر العام الماضي، وصادق الكنيست على عزل المستشارة القانونية جالي بهراب ميارا، في خطوة وصفها رئيس العدو الصهيوني الأسبق إيهود باراك، رصاصة الرحمة على دولة الكيان، ودعا إلى إضراب شامل يهدف إلى شل المؤسسات.
ترمب يتقمص شخصية ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق السابع والثلاثين. مبتكر نظرية الرجل المجنون الذي بموجبها العمل على شيء لا يمكن تصديقه، وإدخال الخوف والرعب لكل من يتعامل معه، وخصوصا ً الدول التي تعارضه أو تحاول أن تشرح وجهة نظرها في موضوع ما، إلا أن نيكسون في نهاية المطاف لم يكمل ولايته لأنه أزيح من منصبه نتيجة الأخطاء الكارثية ( ارجع لأسباب إزاحته عن الحكم ) عن طريق البحث، وبالتالي فإن ترامب يسير على ما يبدو على نهجه، عمل على تنظيف البيت الأبيض من الحرس القديم، وأولهم جون بولتون صقر الجمهوريين، ليأت بأشخاص تمثل شريحة الكارتلات، وملوك العقارات، وملوك الغولف والسيارات الكهربائية، إذ أحاط نفسه بالاليغاريشية التي لا همّ لها إلا الصفقات والقفز فوق العادات والتقاليد، وعينه على الدولة العميقة التي وعد بحملته الانتخابية بالقضاء عليها وتطهير الولايات المتحدة من غير البيوريتانيين الذي يرون في أنفسهم حق القيادة، بعيدا ً عن المهاجرين الدخلاء الذين يشكلون خطرا ً كبيرا ً كما يزعمون .
ترامب ونتنياهو، لا يمكنهما أن يشذا عن القاعدة الغامضة في التاريخ التي تقول، أن لكل شيء ذروة، وعندما تنتهي تبدأ بالتلاشي والأفول، وأعتقد أن «إسرائيل» دخلت مرحلة المسادا ( الانتحار اليهودي الجماعي )، وذلك بافتضاح أمرها وارتكابها لجرائم إبادة مسجلة على الهواء مباشرة، الوضع الذي ربما في الأيام القادمة تجد واشنطن نفسها مرغمة على القبول بمبدأ المحاسبة والمساءلة التي كانت من التابوهات المستحيلة، وهذا نلمسه بجامعاتها التي كانت بالأمس تجُرم من يذكر المظلومية الفلسطينية .