في لحظةٍ خُيّل فيها للعدسة أنها تحمي حاملها، وتوهّمت الكلمة أن صدقها يقيها شرّ الرصاص، امتدت يد الموت من السماء، لتغتال الحقيقة في مهدها، وتُسقط النار على خيمةٍ لم تُنصب إلا لتكون منبرًا للحق، وشاهدًا على الألم، خيمةٌ احتضنت الأمل، والكاميرا، وأصواتًا أبت أن تصمت، فضاقت بها الطائرات الصهيونية الغادرة فقررت أن تحوّلها إلى رماد.
لم يكن الشهيد الصحفي حلمي الفقعاوي يحمل سلاحًا، سوى عدسته التي وثّقت وجوه الأطفال وخراب البيوت. ولم يكن أحمد منصور الذي احترق جسده كما احترقت العدالة المُغيّبة أمام أعين العالم، مقاتلًا، بل كان يُسجّل بنبضه حكاية شعبٍ يأبى أن يُمحى، أما حسن إصليح، فكما عهدناه دائمًا، كان في قلب النار، شاهدًا لا يهاب، نجا بجسده ليُكمل الحكاية، شاهدًا حيًا على أن الكلمة الحرة تُطارد، لكنها لا تُهزم، مثل كثير من الصحفيين الأحرار، الذين فضحوا القاتل وعرّوا المجرم على الملأ، سيبقون صوت الحقيقة الذي لا يُسكت.
"كأنها ليلة سلام".. ثم جاء الموت
في منتصف ليلة الأحد الماضي، كان الصحفيون في خيمة خان يونس يستعدون لقسطٍ نادرٍ من النوم، بعد يومٍ طويل من التغطية الميدانية، أنهكهم التعب، ولفّ المكان هدوءٌ غريب، كأن الحرب قررت أن تأخذ استراحة، لكن فجأة، انقلب كل شيء، فاخترق صاروخٌ غادرٌ الخيمة، فمسح ملامحها من الوجود. لم يُبقِ خلفه سوى أنين الجرحى: حسن إصليح، أحمد الأغا، محمد فايق، عبد الله العطار، إيهاب البرديني، محمود عوض، ماجد قديح، وعلي إصليح، وأنقاض الحكاية التي كانوا يسطرونها بكاميراتهم وأقلامهم.
الزميل الصحفي علم الدين صادق يروي تفاصيل اللحظات الأخيرة قبل المجزرة، بكلمات تختلط فيها الصدمة بالألم، قائلاً: " كنا قد خلدنا إلى خيمتنا الكبيرة، نستعد للنومٍ بعد يوم طويل من الجري خلف مشاهد الدمار، وعلى غير العادة، كان الهدوء سيد اللحظة. بدأنا نتمازح، ونقول إن هذه الليلة مختلفة، وكأنها تنذرنا بشيء ما"، مضيفاً أنّ "طلبنا من الزميل حلمي الفقعاوي تسخين بعض الخبز، لنأكل قبل أن نخلد إلى النوم، وفجأة، دوّى الانفجار، سمعت أنين الزملاء ورأيت ألسنة النار تلتهم كل شيء، أدركت حينها أن القصف استهدف الخيمة الصغيرة الملاصقة لنا."
ويتابع بحزن وأسى في مقابلته: "خرجت مهرولًا، فوجدت حلمي قد استشهد، أما حسن إصليح كان مُلقى على الرصيف، وأحمد منصور لا يزال جالسًا على مكتبه يعدّ مادته الأخيرة، مصابًا في رأسه، والنيران تشتعل في جسده، وهو ما رأه العالم جميعاً أثناء احترقه"، مشيراً إلى أنّه "بقي في مكانه حتى تمكّن الزميل عبد شعث من سحبه وسط ألسنة اللهب".
لحظة إنقاذ الشهيد منصور: مشهد حي من تضحيات الصحفيين
الزميل الصحافي عبد شعث ظهر في المشاهد التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بعد القصف وهو يحاول إنقاذ الشهيد أحمد منصور، مراسل وكالة فلسطين اليوم، قال في فيديو له، إنّه "في تلك اللحظة، رأيت أحمد منصور جالسًا على كرسي خلف مكتبه في الخيمة، والنيران تلتهم جسده بالكامل، كانت لحظة صادمة، تركت التصوير وأسرعت نحوه محاولة إخراجه"، مضيفاً أنني "اقتربت منه وحاولت سحبه، لكن اللهب مزق بنطاله من شدة الحرائق، ومع كل محاولة، أصابتني الحروق في أصابعي، وحاولت مرارًا لكن النيران كانت أقوى مني، فانتقلت إلى زاوية أخرى محاولًا النجاة من النار".
وأردف شعث: "في تلك اللحظة، هرع عدد من الزملاء الصحفيين ومعهم زجاجات المياه، وساهموا في إخماد الحريق، وبفضلهم تمكنا أخيرًا من إخراج أحمد منصور، رغم أن الجروح التي أصيب بها كانت بالغة"، مبيناً أنّ "هذا المشهد ترك صورة حية من معركة لا تنتهي بين الصحافة والدماء، شاهدة على تضحيات الصحفيين في مواجهة آلة الحرب".
وفي السياق، شارك عشرات الصحفيين في غزة أمس الثلاثاء في وقفة احتجاجية تنديدًا باغتيال الصحفيين أحمد منصور وحلمي الفقعاوي، إذ رفع المشاركون لافتات تطالب بتوفير الحماية للصحفيين ومحاسبة الاحتلال على جرائمه.
وفي ظل العدوان المستمر على غزة، لا تكفّ آلة الحرب الصهيونية عن استهداف المدنيين والصحفيين، الذين يُلاحَقون بشكل متعمد في محاولات لطمس الحقيقة، بينما تُحرض منظمات صهيونية ومستوطنون على الصحفيين، وفي المقابل يسعى الاحتلال لإسكات أصواتهم التي تفضح جرائمه وتوثق معاناة الشعب الفلسطيني في مواجهة حرب إبادة، رغم التضحيات الجسيمة التي يقدمها الصحفيون بأجسادهم وأرواحهم.
الأسطل: استهداف الصحفيين يأتي بسبب دورهم في كشف جرائم الاحتلال
بدوره، أكد نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين، تحسين الأسطل، أنّ جريمة إحراق الصحفيين قرب مجمع ناصر الطبي تضاف إلى سلسلة الجرائم الوحشية التي يرتكبها الاحتلال "الإسرائيلي" بحق الصحفيين في الأراضي الفلسطينية.
وبين الأسطل، في تصريحٍ له، أنّ "الاحتلال مستمر في ارتكاب هذه الجرائم بفضل الحصانة التي توفرها الإدارة الأمريكية، التي تمارس ضغوطًا على الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية لعرقلة محاكمة قادة الاحتلال"، لافتاً إلى أنّه "منذ السابع من أكتوبر، استشهد 211 صحفياً فلسطينياً، وأن استهداف الصحفيين أصبح سياسة ممنهجة تشمل أيضًا الطواقم الطبية والإنسانية".
وأوضح الأسطل، أنّ "الصحفيين يتم استهدافهم بسبب دورهم في نقل حقيقة الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين"، داعياً الأسطل المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته في حماية حقوق الإنسان وحماية حرية الصحافة، مطالبًا بالضغط على الاحتلال والإدارة الأمريكية لوقف هذه الجرائم.
مركز حقوقي يطالب بتوفير حماية دولية لصحفيي غزة
من جانبه، أدان المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان بأشد العبارات استهداف قوات الاحتلال "الإسرائيلي" فجر الأحد الماضي خيمة للصحفيين بجانب مستشفى ناصر الطبي في خان يونس، ما أسفر عن استشهاد صحفيين وإصابة آخرين، مؤكداً أنّ القتل كان متعمدًا بهدف ترهيبهم ومنعهم من نقل الحقيقة للعالم، في إطار جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.
وذكر المركز في بيانه، وأنّ عدد الصحفيين الذين قتلهم الاحتلال منذ 7 أكتوبر 2023 ارتفع إلى 211 صحفياً، مما يجعل قطاع غزة الأعلى في عدد القتلى الصحفيين في العالم، مشدداً أنّ استهداف الصحفيين يأتي ضمن سياسة تهدف لتغييب الحقيقة ومنع نقل جرائم الاحتلال ضد المدنيين في القطاع.
وطالب المركز الحقوقي المجتمع الدولي بالضغط على الاحتلال لوقف استهداف الصحفيين وتوفير حماية دولية لهم في غزة، محذرًا من استمرار انتهاكاته، كما دعا الاتحاد الدولي للصحفيين للتحرك العاجل لمحاسبة الاحتلال على قتل الصحفيين في فلسطين، خصوصًا في القطاع.
هكذا سقطت الكلمة تحت قصف الظلم، وحُرقت الخيمة التي كانت ملاذًا للصحفيين الشجعان الذين حملوا الحقيقة في مواجهة آلة القتل. استهدافهم لم يكن مجرد عدوان على أجسادهم، بل كان هجومًا على الحقيقة نفسها، في محاولات لطمس ما لا يمكن محوه، لكن الحقيقة تظل ثابتة في وجه آلة القتل الصهيونية، بأنّ الصحافة لن تموت، والكلمة الحرة ستظل حية، مهما حاول الاحتلال إسكاتها.