أطفال غزة لا يعانون من الجوع فحسب؛ إنهم ضحايا مجاعة ممنهجة تُنفذ بدم بارد، وبمرأى من عالم صامت. ليس الأمر ناتجًا عن زلزال أو فيضان، بل عن قرار متعمد من الاحتلال الإسرائيلي بمنع الغذاء والدواء عن أكثر من 2.3 مليون إنسان. ومع تصاعد حدة الكارثة، لا يقدم العالم سوى بيانات جوفاء، واحتجاجات عقيمة، في وقت تُبَثّ فيه مجزرة التجويع الجماعي على الهواء مباشرة.
أعلنت منظمة الأغذية العالمية نفاد المواد الغذائية في غزة. المستشفيات توقفت عن العمل، والأمهات لجأن إلى غلي الأعشاب البحرية بمياه مالحة، وطبخ علف الحيوانات، وطحن نوى التمر، في محاولة يائسة لإسكات صراخ أطفالهن الجائعين. وفيما تواصل المؤسسات الدولية إصدار بيانات الإدانة، تتولى آلة الدعاية الأمريكية، بدعم من إدارة ترامب، تبييض جرائم إسرائيل وتبريرها، بينما يصرّ قادة الاحتلال علنًا على استخدام التجويع كسلاح جماعي لتنفيذ ما يُعرف بـ”رؤية ترامب” لغزة.
هذه ليست تبعات حرب، بل سياسة ممنهجة لتجويع سكان غزة، تنفذها إسرائيل بإصرار وبدعم دولي ضمني. ما نشهده هو جريمة حرب واضحة وفق القانون الدولي، تذكّر بأبشع ممارسات الأنظمة الفاشية في التاريخ الحديث، حيث يُحرم شعب كامل من ضروراته الأساسية بلا مساءلة.
الأسبوع الماضي، وقفت أربعون دولة أمام محكمة العدل الدولية تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية. خطوة رمزية مهمة، لكنها فقدت معناها حين لم تُترجم إلى فعل واحد عملي لكسر الحصار. الإدانة كانت صاخبة… لكنها خاوية من الإرادة.
الاستثناء اللافت كان اليمن، الدولة التي تعاني من حصار وحرب مستمرة منذ أكثر من عقد. ورغم غيابها عن جلسات المحكمة، إلا أنها كانت حاضره في ساحات الكرامة، مسلحه بموقف اخلاقي يصارع التنين الصهيوامريكي بحرب تقودها امريكا نيابة عن الكيان الصهيوني، في تناقض صارخ مع صمت الدول العربية، التي تمتلك نفوذًا أكبر لكنها اختارت الحياد والتصالح مع الإبادة.
مصر، التي تسيطر على معبر رفح، كان يمكنها أن تكون بوابة النجاة، لكنها اختارت أن تكون بوابة الحصار. وبينما تدين الإبادة إعلاميًا، تسمح عمليًا بمرور أدواتها، كما حدث حين رست السفينة الألمانية MV Kathrin المحمّلة بمتفجرات متجهة لإسرائيل في ميناء الإسكندرية. تركيا ، من جهتها، فتحت ميناء مرسين لسفينة تحمل مكونات طائرات F-35 تُستخدم في ضرب غزة. بدلاً من تسهيل القتل، ينبغي على هذه الدول أن تطلق أسطولًا إنسانيًا لإيصال الغذاء والدواء لأطفال غزة.
وفي ظل استعداد حكومة نتنياهو لتصعيد عدوانها، لم يعد هناك متسع للبيانات البلاغية. على من يدّعون معارضة الإبادة أن يتحركوا سياسيًا وشعبيًا، ويطالبوا بالمساءلة والمحاسبة.
إن استقبال السعودية المحتمل لترامب، مهندس الحصانة الأمريكية لجرائم إسرائيل، سيكون لطخة أخلاقية في سجلها. إدارة ترامب لم تكن مجرد داعم سياسي، بل مموّل مباشر للقتل والحصار، وسلاحٌ بيد المحتل ضد المدنيين.
أما أكثر صور النفاق فربما جاءت من الأردن، حين ظهر ملكها متباهياً بزيٍّ عسكري يُسقط مساعدات جوية فوق غزة، في وقت كان من المصداقية له ان يتصور مع شاحنات الطماطم الأردنية التي تُصدّر إلى الأسواق الإسرائيلية، عندما لا يجد أطفال غزه ما يسكت قريع أمعائهم الخاوية. مسرحيات الإيماءات الرمزية لا تطعم الجياع، خصوصًا حين تستمر الدول العربية في التربح من علاقتها الاقتصادية مع إسرائيل بينما يُحاصر أطفال غزة حتى الموت.
فلماذا، نسأل، لا تتحرك الدول الأربعون، تحت قياده مصر وتركيا والأردن، لكسر الحصار؟ لماذا لا تقطع هذه الدول علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل؟ لماذا لا يُطلق جسر جوي إنساني، أو تُرسل سفن إغاثة وأطباء ومراقبون قانونيون؟ إن كانوا صادقين، فليُظهروا ذلك بالفعل، لا بالكلمات الرخيصة لتخدير ضمائر شعوبهم.
لكن الخذلان لا يقتصر على القادة. صمت الشارع العربي والإسلامي مدوٍّ ومؤلم. بينما تخرج مظاهرات في عواصم الغرب، تغيب الجماهير عن الساحات العربية، وهو غياب يُغذي تواطؤ الأنظمة ويمنحها الغطاء اللازم للاستمرار في الصمت، أو الأسوأ، في التعاون.
إلى قادة الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة: لا نريد مزيدًا من العبارات الفارغة حول ضرورة “الالتزام القانوني" لإسرائيل بدخول المساعدات إلى القطاع، من دون خطوات قانونية رادعة، فإن بياناتكم لا تساوي شيئًا. هذا ليس حذرًا دبلوماسيًا، بل شراكة في الجريمة. كما مكّن صمتكم جرائم النازية في الماضي، فإن تواطؤكم اليوم يُمكّن إسرائيل من تجويع غزة.
الحقيقة موجعة: أطفال غزة يموتون جوعًا، ليس فقط بسبب إسرائيل، بل بسبب ضمير عالمي ميت. لا معنى للقانون الدولي إن لم يُطبَّق، ولا قيمة للتضامن إن لم يُترجم إلى فعل. لن تنقذهم الكلمات، بل الغذاء، الدواء، والكرامة الإنسانية المسنودة بالشجاعة السياسية.
يوم يُسجل فيه التاريخ هذه الجريمة لا كفصل من فصول العدوان الإسرائيلي فحسب، بل كخيانة جماعية للعالم بأسره – عربًا، مسلمين، وغربيين – ممن ادّعوا الدفاع عن الإنسانية، ثم تركوها تتعفن على أبواب غزة.