Menu

فلتثبتوا أن اليمن على الخطأ!

ثائر أبو عياش

في لحظة بدت لكثيرين وكأنها مستحيلة، خرقت صنعاء صمت الجغرافيا، وأطلقت صاروخًا فرط صوتيٍّ باتجاه مطار اللد في يافا المحتلة، ليصيب هدفه بدقة، وليصيب معه أعصاب كيان الاحتلال الإسرائيلي، وربما أعصاب النظام الدولي الذي طالما تعوّد على أن يسكت حين تتكلم الدبابات الإسرائيلية، وينطق حين تصرخ غزة. لم تكن العملية مجرّد تطوّر عسكري، بل كانت صدمة سياسية وأخلاقية، زلزلت مفاهيم اعتاد البعض على اعتبارها ثابتة: أن اليمن محاصر، أن فلسطين وحيدة، وأن المقاومة العربية لم تعد موجودة. لكن الواقع تغيّر، وربما إلى الأبد.

ما حدث ليس مجرد ضربة، بل موقف متكامل. رسالة موجّهة لا إلى "تل أبيب" وحدها، بل إلى كل عاصمة قررت أن تخلع عباءة الشرف، وتلبس قناع التطبيع. اليمن، الذي أرادوه مكسورًا ومنكفئًا على جراحه، خرج من تحت الركام ليُعلن أنه ليس على الهامش. أنه ليس تابعًا. أنه يرى، ويسمع، ويقرر أن يفعل. والصاروخ الذي اخترق السماء، لم يحمل شحنة متفجرة فقط، بل حمل معنىً وجوديًا: أن المقاومة ليست مشروعًا مغلقًا، ولا حكرًا على جهة أو جغرافيا، بل فكرةٌ تنبض في قلب كل من يرى الظلم ويرفض أن يصمت.

لكن من قال إن العملية تستهدف الإسرائيليين فقط؟ هي أيضًا، وربما بشكل غير مباشر، تُخاطب عيون الفلسطينيين. في مخيمات غزة، في حارات نابلس، في حواري جنين و القدس ، كانت ردود الفعل مفعمة بدهشة ممزوجة بالفخر: "اليمن معنا". في زمن الخذلان، لم يعد الفلسطيني ينتظر جيوشًا جرّارة، بل ينتظر موقفًا صادقًا. ضربة واحدة قادمة من جبال صعدة، قد تعني له أكثر من ألف قمة عربية. ليست مجرد قوة عسكرية، بل دفء إنساني. شعور بأن الدم الفلسطيني لم يُنسَ، ولم يصبح مجرد ملف سياسي يُساوَم عليه.

المفارقة أن الاحتلال، الذي تفنن لعقود في تفكيك الجغرافيا العربية، وجد نفسه فجأة أمام خريطة تتوحد من جديد بغير إذنه. فها هو اليمن المحاصر، في أقصى جنوب الجزيرة العربية، يضرب في عمق "المركز". وهذا وحده يكفي لإرباك العقلية الإسرائيلية التي اعتادت على "ضبط الصراع" داخل حدودها المباشرة. هي ضربة فلسفية، قبل أن تكون عسكرية. ضربة تقول إن فلسطين ليست جغرافيا منعزلة، بل وجع مشترك. وإن الردّ قد يأتي من حيث لا يحتسبون.

سيُقال الكثير عن هذه العملية: من يشكك، ومن يدين، ومن يبارك. لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن اليمن، بهذا الفعل، تجاوز ما يُفرض عليه. قرّر أن يخرج من كونه ساحة مستهلكة للنزاعات الإقليمية، ليصبح لاعبًا فاعلًا في معادلة إقليمية جديدة. ليس هذا ترفًا، بل نتيجة حتمية لصبرٍ طويل، ونضج سياسي، وامتلاك القدرة والجرأة معًا. فالقرار لم يكن سهلاً. أن تضرب في قلب "إسرائيل" هو إعلان موقف لا تراجع فيه، ومعه يتحمل اليمنيون ما يفوق العواقب العسكرية: يتحملون ثقل المعنى.

في الشارع الفلسطيني، كانت الردود عفوية، لكن مشحونة بالأمل. الناس الذين يعيشون تحت النار كل يوم، لا يحتاجون إلى تحليل استراتيجي. هم يدركون من يقف معهم ومن يساوم على دمهم. والعملية، بهذا المعنى، حرّكت فيهم شيئًا أكبر من السياسة: حرّكت إحساسًا بأنهم ليسوا وحدهم. أن هناك من يملك القدرة، ويملك الإرادة، ويملك الاستعداد لدفع ثمن الانحياز لهم. وهذا الشعور، ببساطة، لا يُقدر بثمن.

ولأن الفعل العنيف لا يُفهم إلا بقراءته ضمن سياقه الأخلاقي، فإن ما فعله اليمن ليس عبثًا، بل توازٍ أخلاقي مع حقيقة مريرة: أن ما يحدث في غزة إبادة معلنة، وأن الصمت الدولي تواطؤٌ موثّق، وأن أحدًا لم يحرّك ساكنًا لوقف المجازر. هنا، يصبح الفعل – أي فعل – هو الصواب في وجه عالم مقلوب. يصبح استخدام القوة ضد المحتل دفاعًا عن الروح، لا مجرد عنف. ويصبح الموقف السياسي الذي يتجسد في الصاروخ، أكثر وضوحًا من ألف بيان أممي.

من زاوية أخرى، فإن العملية اليمنية تطرح إشكالية جديدة أمام العالم: هل ستظل الدول تُصنّف المقاومة كـ"تهديد" وتُبرّر الاحتلال تحت عنوان "الدفاع عن النفس"؟ هل الصمت العربي الرسمي سيبقى كما هو بعد أن خرج اليمن من صمته؟ وهل القوى الإقليمية التي حاولت عزل صنعاء ستحاول إعادة قراءة المشهد، بعدما اتضح أن اليمن قادر على تغيير قواعد اللعبة، وليس فقط التأقلم معها؟

ما حدث في مطار اللد، لا يُختزل في لحظة تفجير، بل في لحظة صحوة. لحظة كُتب فيها أن الشعوب لا تُقهر بسهولة. وأن القضية الفلسطينية، رغم كل ما حدث، لا تزال قادرة على إحياء شعورٍ عربيٍ مشترك، حتى من بين الأنقاض. فلتثبتوا أن اليمن على خطأ، إن استطعتم. لكن الحقيقة أن منطق المقاومة لا يُهزم بمنطق الإدانات. وأن من يختار أن يقف في الصف الصحيح من التاريخ، سيُذكر ولو طال الظلم.