لم يترك بشار من خلفه جيشاً منظماً أو قوياً، ولم يترك مؤسسات خالية من الفساد، بل ترك هيكل دولة كانت على وشك الانهيار التام. حمل الرجل أمواله وأولاده وغادر البلد، تاركاً الحكم الجديد أمام سلسلة من المآزق يصعب حلّها داخلياً، وأولها تأمين شرعية لهذا الحكم.
سوريا اليوم دولة لا يوجد فيها جيش منظم، ولا احتياط نقدي كبير أو عملات صعبة.
هي دولة لا تملك إلا حكومه تسعى إلى تقوية سلطتها والحصول على شرعية دولية تضمن تسيّدها على الحكم باعتراف دولي.
تحقيق هذا الهدف لا يمكن أن يتم إلا بعد ارضاء مجموعة من الدول التي تطمح للفوز من الكعكة السورية بأكبر حصة ممكنه وخاصة بعد التوافق الدولي على الاطاحة بنظام الاسد . فكيف ستكون حصة كل من أميركا، إسرائيل، روسيا، فرنسا، تركيا ، والدول الخليجية من "الكعكة" السورية ليؤمن الحكم الجديد انطلاقته بخير وأمان؟.
ما إن توضع الكعكة على المائدة حتى يحوم حولها الذباب. ليس الوصف السابق مقدمة لكتاب عن آداب المائدة، بل عن حال الكثير من الدول الضعيفة مثل سوريا اليوم. ما إن يقوم حكم جديد، حتى تحوم الدول الأخرى حوله وتحاول تأمين ما تستطيع من مصالح وخيرات .
الكعكة الأكبر التي ستوزع على الدول ستكون من نصيب تركيا. أنقرة حققت هدفاً مهماً لها وزادت من نفوذها في الشرق الأوسط بعدما قبض حلفاءها السوريون على السلطة في دمشق ومعظم الأراضي السورية. ليس من قبيل الصدفة أن تكون تركيا أول دولة تعيد افتتاح سفارتها في الشام، أو أن يكون مسؤولوها أول الزائرين إليها
ما تريده تركيا هو حكم سوري قوي يحارب المنظمات الإرهابية الموجودة في بادية الشام وشرق البلاد، ويقوّض إمكانية ظهور جماعات متطرفة أخرى.
كما تسعى تركيا إلى تعزيز قدرتها على الاستثمار في سوريا، لا سيما في حلب، الرقة، وحمص، وغيرها، على غرار كثافة استثماراتها في المدن العراقية القريبة من حدودها.
لقد حققت تركيا هدفاً مهماً، وحصلت على النصيب الأكبر من الكعكة السورية بعد أن تحولت سوريا من دولة معادية لها إلى دولة حليفة.
فرنسا تسعى للحصول على مكاسب من الغاز، الفوسفات، والموارد الطبيعية السورية الأخرى، خاصة وأن عينها كانت على هذه الموارد منذ اليوم الأول للثورة
رغم إصدار عقوبات قاسية على الصادرات السورية من قبل فرنسا والاتحاد الأوروبي. عين فرنسا على موارد سوريا الطبيعية، وهو هدف يمكن أن تحققه بعد خروج روسيا المذل من أغلب أراضي سوريا وفقدانها لموطئ قدم في معظم البلاد وعلى مواردها الطبيعية
أما روسيا، فلها حسابات أخرى تتجاوز الاقتصاد، وهي الإبقاء على حضور ولو رمزي في موانئ الساحل السوري
تحقيق ذلك يتطلب التنسيق والقبول من قبل الرئيس الشرع، الذي له ثلاث مصالح مباشرة مع روسيا .
الأولى هي الإبقاء على بعض النفوذ الروسي في سوريا ليكون عامل توازن أمام النفوذ الأميركي المتنامي .
الثانية هي الاعتراف الروسي بشرعية الحكم الجديد .
أما الثالثة، والأهم، فهي استرداد بشار الأسد ليخضع للمحاكمة في بلاده .
قد لا تستجيب روسيا لهذه المصالح الثلاث، لكن تحصين حضورها الرمزي على السواحل السورية لا بد أن يُقابَل بتحقيق بعض هذه الشروط والمصالح .
أما الدول الخليجية، فلها مصلحة كبيرة في أن تكون، إلى جانب تركيا، رائدة في مجال إعادة الإعمار، وفتح أسواق سوريا للاستثمار الأجنبي، وإعادة بناء ما تهدم. هذا الأمر مفيد لسوريا ولهذه الدول على حد سواء، وهو أيضاً ضرورة لا مفر منها إذا أراد حكام سوريا الجدد الحصول على شرعية عربية لحكمهم وضمان استقراره .
أميركا ستحصل على ما يهمها في سوريا دون شك:
في مقابلة له على شبكة "سي إن إن"، أجاب الرئيس السوري أحمد الشرع عن مصير القواعد والجنود الأميركيين على الأراضي السورية، مؤكداً أن وجود جيوش أجنبية "أمر طبيعي وموجود في الدول الأخرى"، لكن بشرط وجود معاهدة تنظم الأمر. أبدى الرجل براغماتية لافتة في هذا الجواب، فلم يذهب إلى حد الدعوة لخروج الجيش الأميركي، ولا إلى حد الإعلان عن عزمه قتاله، على الرغم من أنه لا يزال على لائحة الإرهاب، ومنظمته "هيئة تحرير الشام" كذلك ..
ستؤمن أميركا لإسرائيل أمنها القومي كذلك. زمن قتال إسرائيل انتهى، وللجميع عبرة مهمة ومحسوبة فيما حلّ بـ"حزب الله" في الأشهر القليلة الماضية. الجنوب السوري لن يكون منطلقاً لعمليات عسكرية ضد إسرائيل، بينما ستترك هذه الأخيرة جارتها السورية ما أن يستقر الحكم فيها. ستحصل إسرائيل، ومن خلفها أميركا، على نصيبها من الكعكة السورية، بما يشمل الأمن، الحضور العسكري، وتأمين الاستقرار والسلام.
على العكس منها، لا تكترث دول أخرى للأمن بقدر ما تكترث بالمكاسب الاقتصادية التي يمكن أن تحققها من الحكم السوري الجديد .
الدول الخليجية، بخبراتها المالية الضخمة، يمكن أن تكون شريكاً رئيسياً، لكن ذلك مشروط بضمان بيئة آمنة للاستثمار، وإجراء إصلاحات اقتصادية، وتقديم ضمانات سياسية للحكومات والمستثمرين.
من جهة أخرى، التنافس بين القوى الدولية والإقليمية قد يؤدي إلى صراع خفي على النفوذ في سوريا
يبقى السؤال الأكبر:
يأمل الكثير من السوريين، في تحسن أحوالهم المعيشية والاقتصادية، التي تردت طوال فترة حكم نظام الرئيس السوري السابق ، في وقت يعاني فيه الاقتصاد السوري، من تداعيات أزمات متعددة ، أبرزها الفساد والعقوبات الدولية وسوء الإدارة، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم، ودفع 90% من السكان إلى خط الفقر، إذ تقول أرقام
برنامج الغذاء العالمي، إن نحو 12 مليون سوري، يعانون من انعدام الأمن الغذائي
حيث يمثل التحدي الاقتصادي، واحدا من أهم وأكبر التحديات، التي تواجه سوريا الجديدة، إذ تحاول الحكومة، ضخ دماء جديدة، في شرايين الاقتصاد السوري، بعد دمار طال البنية التحتية، خلال حرب عصفت بالبلاد، على مدار أكثر من عقد.
السؤال هنا
هل يمكن لسوريا الجديدة أن تحقق استقلالها السياسي والاقتصادي، أم ستكون رهينة لمصالح القوى الدولية؟ الحكم الجديد أمام اختبار صعب لتحقيق التوازن بين الداخل والخارج. فداخلياً، تحتاج البلاد إلى ترميم الثقة بين مكوناتها المختلفة، وإطلاق مشاريع تنموية تخفف من وطأة الأزمات الاقتصادية، كما تحقيق عدالة انتقالية غير ثأرية. أما خارجياً، فيجب عليها إدارة علاقاتها بحذر مع الدول الطامعة، بما يضمن مصالحها الوطنية دون تقديم تنازلات تمس بسيادتها.
إن الكعكة السورية، في النهاية، لا ينبغي أن تكون مجرد مكاسب اقتصادية وسياسية للقوى الإقليمية والدولية،
بل يجب أن تكون من أجل السوريين أنفسهم. ومع ذلك، فإن حال الدول الضعيفة يتكرر في كل زمان ومكان، مما يجعلها طريدة سهلة للدول الأكبر والأكثر استقراراً، وساحة لمد النفوذ والسطوة وتحقيق المصالح. هكذا يُعلمنا التاريخ في كل مرة، وكم من دولٍ التُهمت على موائد الدول الكبرى وطموحات حكامها .
.