في العام ١٩٩٩ كان لقائي بهم صدفة ، صعدت في سيارة من منطقة المشرفية قاصدا جسر الكولا، في الطريق وعند المدينة الرياضية ، ألقيت نظري على مدخل مبنى الأونروا ، لأشاهد علم فلسطين مرفوعا على خيمة بالقرب من مدخل المبنى ، طلبت من السائق أن يتوقف ، صعدت جسرا للمشاة للوصول إلى الجانب الآخر، حيث الخيمة ، عندما وصلت وجدت عشرات الشبان والشابات يجلسون داخلها، وبعضهم يتمشون بالقرب منها، دخلت الخيمة وجلست معهم ، لم يسألني احد عن سبب زيارتي ، بدأت أتأمل الحضور، لاختيار فرصة مناسبة، وسؤال أحدهم عن سبب وجودهم في هذا المكان ، وبعد أكثر من ساعة ، أجابني أحدهم أن هذا التجمع اعتصام احتجاجي ، هدفه الضغط على مؤسسة الأونروا من أجل الإبقاء على المدرسة الثانوية في مخيم البداوي في شمال لبنان ، وذلك بعد أن أقدمت الأونروا على تقليص موازنتها ، الأمر الذي دفعهم إلى إغلاق المدرسة التي تأوي المئات من طلبة المخيم ، محدثي أخبرني أن اسمه نضال ، ولم أكن أعلم حتى لحظة استشهاده العام الماضي أن نضال اسمه الحركي ، حاولت أن أغادر الخيمة وكانت الشمس قد شارفت على الزوال ، طلب مني نضال البقاء حتى أتناول طعام العشاء معهم ، لقائي التعارفي مع نضال تجاوز حد المألوف، بعد أن شعرت باهتمام خاص من قبله ، خاصة بعد أن عرف أنني من الداخل المحتل ، وبتلقائيته وعفويته وافقت على البقاء لتناول العشاء، وقفلت عائدا إلى البيت ، لكنني وجدت نفسي أعود إلى الخيمة في ظهيرة اليوم التالي ، وبقيت مداوما على زيارة الخيمة بشكل يومي ، وفي تلك الزيارات المتكررة بدأت أتعرف على الحضور، لكن هذا التعارف بقي بحدوده الدنيا ، باستثناء العلاقة مع نضال ، أذكر أنه طلب مني الذهاب إلى محل "سبنس" القريب من مكان الاعتصام ، لشراء العصائر، مصحوبا بعماد ، في الطريق سألني نضال سؤالا مباشرا يقتضي الإجابة المباشرة، هل أنت من حركة فتح ؟ أجبته بالنفي المطلق ، ثم جدد السؤال هل أنت من الجبهة الديمقراطية وكان جوابي بالنفي ، هنا شاهدت حالة من الدهشة على وجه نضال وكذلك عماد ، ثم وجه نضال كلامه لي إذا أنت لست من فتح ولا من الديمقراطية والأكيد أيضا إنك لست من الشعبية، فما الذي دفعك للمشاركة في الاعتصام ، ومن أخبرك عنه ، أجبته أن صدفة المرور بالقرب من الاعتصام ومشاهدة العلم هي من دفعتني لذلك ، نظر نضال إلى عماد بابتسامة خجولة ، والتي تعد أحد ميزات شخصيته التي لاحظتها عليه ، واتفقنا بعد نهاية الاعتصام على اللقاء ، وهذا ما حدث بالفعل ، حيث بدأنا نقاشات معمقة ، طالت الحالة الفلسطينية برمتها ، والصحيح أن نضال وعلى الرغم من قسوة كلامي في اللقاءات ، كان مستمعا جيدا ، حاول أن يقدم إجابات لينئى بالجبهة التي ينتمي إليها، من كلامي الجارح أحيانا وأحيانا تهكمي على مجمل السلوكيات والخطايا التي تعيشها القوى السياسية الفلسطينية، حاول كثيرا أن يبحث عن مشتركات بيننا ، والأهم قناعته بأن ما يبدر مني مرتبط بانتمائي الحقيقي وليست نابعا من حالة ترف فكري ، كثيرا ما التقينا في مناسبات عديدة ، وفي كل مرة يقدمني لأصدقائه ، بأني" اصولي متنور" وكنت أرد عليه " باليساري المؤمن ".
في مخيم مارلياس ، وقعت معنا حادثة طريفة ، حيث استمر نقاشنا الصاخب حتى ساعات الفجر الأولى، وبدون انتباه منا كانت أصواتنا تلعلع في أزقة المخيم الصغير ، حيث صرخ أحد الجيران" نريد أن ننام ، لدينا عمل في الصباح " ولم يكن يدري أن نقاشنا الصاخب يعد في عرفنا عملا طالما المقصود منه الشأن العام ، نضال أو محمد لا فرق في الأسماء، كان ينتمي إلى الزمن الحقيقي الذي كنا نبتغيه ، بعد أن ضاع زماننا في أزقة الالتباسات المصنعة لنا في كل زاوية من زوايا يومياتنا، حتى تداخلت الأزمنة ببعضها ، واستوى الغث عليها جميعا ، نضال وعماد ختما حياتهما دفاعا عن ما آمنوا به بالشهادة ، وبهذا القياس تصبح كل ذكرياتنا امتدادا لحضورهم في حياتهم وموتهم ، وتبقى الخيمة التي التقينا بها ، والعلم المرفوع فوقها ، تذكرنا بنكبتنا الأولى، لكنها عن كل الخيام التي نصبت وتنصب لنا ، تبقى هي من تحدث الفرق .