Menu

الوداع الأخير

ركان حسين

نشرت في مجلة الهدف العدد (70) (1544)

في الصباح استيقظ بحر غزة على يوم جديد من عمر الإبادة، تجمعت النساء والأطفال والشيوخ حول ركام البيوت. أعمدة الدخان تتصاعد من كل مكان، والهواء مليئ برائحة الموت، والأخبار تصل إلى الأسماع مبتورة. ومن زاوية مظلمة، ظهر رجل بلا اسم. يرتدي ثيابًا مزركشة لا تشبه ملابس أهل غزة، ويحمل بيديه طبلاً كبيراً. ملامحه لم تكن فلسطينية، لكنها لم تكن غريبة أيضًا. كأنه تسرب إليهم من قبيلة نسيتها الجغرافيا وتجاهلتها كتب التاريخ.

جلس وسط الخراب، وأخذ يضرب الطبل. كان صوته ناعماً، لكنه أوقف الضجيج. حتى الطائرات، المبرمجة على القتل الأعمى، توقفت للحظة في الجو، كأنها تنصت.

قال بصوت متلفع باليقين:

لم يبق أمامكم إلا الوداع على طريقة الغجر، وإن لم تسمّوها بعد. قلوبكم نزفت ما يكفي من الحزن حتى باتت صدوركم قبور مفتوحة.”

اقترب منه طفل فقد والديه في الغارة الأخيرة، وسأله:

هل ستأخذنا معك؟

ابتسم الغريب وقال:

لا. أنا لا آخذ أحداً. أنا فقط أُعلمكم كيف ترحلون… دون ضجيج.”

 

في تلك الليلة، استعارت غزة ذاكرة غجرية قديمة، خرج الناس جميعًا. لم يتكلم أحد. لم يصرخ أحد. فقط تبادلوا نظرات طويلة، كأنهم يودّعون ما تبقى من ملامحهم.

ثم بدأ الطقس الغامض.

طقس الفراق كما يمارسه الغجر عند الانقسام الأبدي.

تصاعد الغضب من تحت الأرض، النساء صفعن وجوههن، الرجال تشاجروا بلا سبب، الصغار رجموا الهواء بالحجارة، الشيوخ بصقوا على الأرض وهم يبكون.

كأن الحرب تحرّض ضحاياها على نزع كل أثر للود، كي لا يتذكّروا بعضهم لاحقًا.

طقوس وداع أبدي لا يعود اللقاء بعده ممكنًا.

 

وواحدًا تلو الآخر، بدأوا بالتلاشي. لم يسقطوا. لم يموتوا. فقط تحوّلوا إلى دخان خفيف، صعد نحو السماء، واستقروا هناك، على هيئة غيمات تتأمل الأرض بعيون مبلّلة.

في اليوم التالي، جلس المذيع على مقعده الوثير، وقد ضبط ربطة عنقه بمزاج رائق، ثم قال:

لم يبقَ في غزة أحد. حتى الموت نفسه، غادر المدينة، ولا أحد يعرف إلى أين.”

وفي نومهم، رأى سكان العالم حلماً مشتركاً.

أطفال غزة يضحكون، يطيرون فوق الحدود، دون أن يسألهم أحد عن جواز السفر.

لم يكن في الحلم جدران، ولا قنابل، ولا نشرات أخبار.

كانت نغمة الطبلة لا تزال تتردد في السماء، تقول:

لقد أخرجتنا الحرب من حياتكم… دون أن نكلفكم دمعة واحدة.

لقد ودّعنا بعضنا، كما يليق بشعب خذله الجميع.”.