في لحظة فارقة تتسم باحتدام الحرب التجارية بين العملاقين الاقتصاديين، الولايات المتحدة والصين، ودخول العالم مقدمات فوضى اقتصادية ومالية وسياسية مرجح أن تخلف تبعات إجتماعية وأمنية على المستوى العالمي، اتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارا برفع الرسوم الجمركية على مختلف دول العالم، اعلاها على الصين التي تتهيئ لإزاحة واشنطن من التربع على المركز الاقتصادي الأول في العالم. ويبدو أن القرارات الترامبية كانت مغامرة لم تحسب بدقة، بل اتكأت على التهديد باستخدام القوة العسكرية عبر تحريك القطع الحربية الامريكية من بحار العالم الى بحر الصين الجنوبي، واتهام بكين بأنها تزعزع استقرار الدول الحليفة للولايات المتحدة في جنوب آسيا. وقبل ذلك هدد ترامب بضم كندا وجزيرة جرين لاند التابعة للدنمارك وأكمل بوضع مخطط لتهجير فلسطينيي غزة وتحويلها إلى ماخور سياحي.
شملت حرب الرسوم والضرائب الجمركية أغلب دول العالم، بما فيها دول حليفة ومنها دول عربية، بينما تواجه واشنطن رعب التنين الصيني القادم بقوة لإنتزاع دفة قيادة الاقتصاد العالمي في وقت أقرب مما توقعت مراكز الابحاث والدراسات وجماعات العصف الذهني الامريكية. تعتبر الصين شريكا تجاريا رئيسيا والند الأول للولايات المتحدة الامريكية، وتاتي بعد المكسيك في حجم التجارة مع امريكا. وتبوأت الصين هذا الموقع المتقدم اقتصاديا في عقود قليلة نسبيا، فخلال أربعة عقود تضاعفت التجارة بين واشنطن وبكين من 3.86 مليار دولار في العام 1985، إلى 583 مليار دولار في العام الماضي 2024، وتفيد معلومات مركز الاحصاء الامريكي أن الصين صدّرت في شهري يناير وفبراير من العام الجاري 2025 للولايات المتحدة ما قيمته 73 مليار دولار، واستوردت منها بقيمة 20 مليار دولار. وتفيد نفس البيانات أن العجز التجاري بين امريكا والصين قد بلغ في العام الماضي 295.4 مليار دولار لصالح الصين، الأمر الذي يثير حنق واشنطن ويجعلها تتصرف بالطريقة التي أعلن فيها ترامب عن الزيادة الكبيرة في الرسوم الجمركية. لاشك إن ذلك يترجم حالة الهلع التي سبق وعبر عنها الرئيس السابق جو بايدن عندما تولى منصبه للمرة الثانية، حيث قال لزعماء الحزبين: "علينا التحرك الآن قبل أن يأكلوا غذائنا"، يقصد الصينيين.
يشكل السلوك الأمريكي الذي عبّر عنه دونالد ترامب بقراراته الزلزالية، عمق أزمة النظام الرأسمالي، ويعكس حالة التوتر التي تسيطر على البيت الأبيض بسبب خوفها من تراجع مكانتها الاقتصادية والسياسية في قيادة العالم، بعد أن تمكّن المحافظون الجدد وامسكوا بتلابيب القرار الاقتصادي والسياسي في امريكا لتبرز الليبرالية الجديدة وتبلغ أعلى مراتبها التوحشية والشعبوية، فكان تصرف دونالد ترامب المتعالي وادعاءه بأنه ليس رئيسا على امريكا فقط، بل رئيسا على العالم أجمع!!
في هذا الصدد تنبأ الدكتور رمزي زكي أزمة الليبرالية الجديدة بالقول: "أدت الممارسات الليبرالية إلى نشوء ازمة المديونية العالمية، وفوضى نظم أسعار الصرف وإضطراب أسواق النقد الدولية، وبروز نزعة الحماية والكتل الاقتصادية الاقليمية شبه المنغلقة، واندلاع حروب نقدية وتجارية ضارية (وقد تجلت في حرب الرسوم الجمركية الامريكية على العالم). اما بلاد العالم الثالث التي كانت ضحية هذه الليبرالية في صعيدها العالمي فالامور فيها بالغة التردي والتعاسة ولا تحتاج لبيان، خاصة بعد وقوعها في فخ المديونية الخارجية وبعد أن حاصرها الدائنون وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليجبروها على أن تتكيف مع الأوضاع المضطربة للاقتصاد العالمي وأن يضمنوا، من خلال هذا التكيف، استعادة ديونهم، وإعادة تشكيل التوجهات الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلاد على نحو يكفل لهم إعادة اساليب السيطرة المباشرة على اقتصاداتها، وهي الاساليب التي كانت الدول الاستعمارية قد فقدتها بعد نوال هذه البلاد استقلالها السياسي في اعقاب الحرب العالمية الثانية".
لكن الأزمة بلغت رأس النظام الرأسمالي، حيث تعاني الولايات المتحدة من دين فيدرالي يبلغ أكثر من 36 تريليون دولار، ما يعادل 34.6 من حجم الاقتصاد العالمي، ويعتبر ألاكبر على مستوى العالم. وفضلا عن هذا الدين، تسجل قطاع الصناعة تراجعا كبيرا في الولايات المتحدة لصالح الخدمات، فاقتنصت الصين ودول ناشئة أخرى مثل كوريا الجنوبية وفيتنام ولاوس وكمبوديا الفرصة وراحت تُصنع ما تخلت عنه امريكا.
كل هذا التوتير الذي أحدثه ترامب ونظّر له اقتصاديوه وأصحاب الاموال الفلكية، سيؤدي إلى زيادة الأسعار وعقيد العلاقات الاقتصادية بين أكبر اقتصادين في العالم، خصوصا بعد أن أمعن ترامب في زيادة الرسوم الجمركية على الصين لتصل إلى 145 بالمئة، ما حدى ببكين رفع رسومها على الواردات الامريكية لتصل إلى نسبة 125 بالمئة، وأعلن قادة الحزب الشيوعي الحاكم أن الصين لن تتنازل وأنها "ستمضي في القتال حتى النهاية"، في تحد واضح للقرارات الترامبية.
صلابة الموقف الصيني أدى إلى بعض التراجعات في خطاب الإدارة الأمريكية، ولمّح رئيسها إلى مفاوضات سيعقدها مع الصينيين، في الوقت الذي بدأ فيه اركان الليبراليين الجدد في طرح آرائهم وإن كان بحذر المتوجس، ومن بينهم نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق لشؤون آسيا والمحيط الهادئ، ديفيد سيدني، الذي قال "إن ما يجرى بين الولايات المتحدة والصين ستكون له تبعات على الصين والتأثير سيكون واسع النطاق"، بينما حذر مراقبون من "آثار اقتصادية عالمية محتملة، تشمل موجة تضخم حادة، واضطرابات كبيرة في سلاسل التوريد، إضافة إلى أضرار جسيمة تلحق بالدول النامية والأسواق الناشئة". ومع أن سيدني توقع أن هذه الاجراءات "ستنعكس سلباً على الاقتصاد الصيني، وقد تؤدي إلى تراجع مكانة الصين على الساحة الدولية"، لكنه قال أيضا أن "الصين لا تنوي التراجع عن موقفها، ولم تظهر أي نية للدخول في حوار مع الولايات المتحدة بهدف التوصل إلى حل لهذه الأزمة التجارية، وأن الهدف الذي وضعه ترامب من خلال هذه الخطوة، وهو إعادة المصانع إلى داخل الولايات المتحدة، لن يتحقق في الوقت القريب، لأن بناء هذه المصانع من جديد سيتطلب عدة سنوات من العمل والتخطيط، وأن الصين ستكون هي الرابح الأكبر في هذه الحرب التجارية، لأنها تمتلك القدرة على تعزيز علاقاتها التجارية مع دول أخرى، ما قد يؤدي إلى نشوء نظام تجاري جديد يرتكز في أساسه على الصين، وستلعب الهند فيه دوراً محورياً كذلك".
تحالف أم تبعية؟
تصَرّف ترامب تجاه "حلفاءه" كما خصومه، ولم يستثني أحدا بما فيهم الكيان الصهيوني الذي فرض عليه رسوما تبلغ 17 بالمئة، فسارع رئيس وزراءه بنيامين نتنياهو إلى الاعلان أن فائض دولة الكيان في الميزان التجاري مع الولايات المتحدة والبالغ 7.5 مليار دولار سيتم تصفيره. أي سوف يستورد المزيد من السلع الامريكية على حساب حلفاءه الاخرين.
هذه الغطرسة بلغت مداها مع الدول العربية وخصوصا الخليجية. طلب ترامب من السعودية التي تستثمر نحو 770 مليار دولار في الولايات المتحدة وأعلنت عن استثمار 600 مليار أخرى..طلب ترامب منها زيادة الرقم إلى تريليون دولار (ألف مليار دولار)، بينما أعلن البيت الابيض أن الامارات التزمت باستثمار 1.4 تريليون دولار في السنوات العشر المقبلة في قطاعات البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات والطاقة والتصنيع. يذكر أن اليابان تتربع على رأس قائمة الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة في الولايات المتحدة بـ1.9 تريليون دولار، تليها بريطانيا بـ1.4 تريليون دولار ثم كندا بـ1.1 تريليون دولار.
كما أن نسبة كبرى من أموال صناديق الاستثمار السيادية الخليجية تستثمر في الولايات المتحدة وأوروبا، وتبلغ قيمة خمسة صناديق منها 3.389 تريليون دولار تعود إلى إمارة ابوظبي والسعودية والكويت و قطر وإمارة دبي، وأن الاستثمارات في الاسهم الامريكية من قبل ثلاث دول خليجية، هي الكويت والسعودية والامارات، تبلغ 650.6 مليار دولار. لكن الادارة الامريكية لا ترى أن ذلك كافيا، والمطلوب مضاعفة المبالغ الفلكية لكي تواجه الولايات المتحدة دينها الفيدرالي الكبير وإعادة هيكلة اقتصادها بما يعيدها إلى الوهج الذي اقتنصته الصين ودول آسيوية أخرى، وبالتالي بدء تقلص النفوذ السياسي، رغم أن واشنطن تطالب العالم بدفع ثمن الأمن والسلام العالمي الذي تدعي واشنطن أنها تحميه ببوارجها الحربية وقواعدها العسكرية المنتشرة في كل مكان معزز بسطوة الدولار الذي تعتبره الادارة الامريكية عنصرا رئيسيا في الاستقرار الاقتصادي والمالي العالمي بإعتباره عملة التداول الرئيسية، بينما الحقيقة صارخة إزاء دور امريكا في تأجيج الصراعات ومشاركتها في الحروب وخصوصا في المنطقة العربية.
هذه العجرفة التي يمارسها ترامب تجاه العالم نالت منها الدول العربية قسطا كبيرا، بما فيها تلك التي تمتلك علاقات وثيقة تحت يافطة الحلفاء. إلا أن الرئيس الأمريكي تصرف مع أغلب الدول العربية بأنها تابع للولايات المتحدة وفرض الرسوم التي اقترحها عليه مستشاروه.
تتراوح الرسوم الجمركية على الدول العربية بين 10 بالمئة و41 بالمئة، وكانت النسبة الصغرى من نصيب الإمارات، مصر، السعودية، المغرب، سلطنة عُمان، البحرين، قطر، لبنان، السودان ، اليمن والكويت، بينما بلغت على الأردن 20 بالمئة، وتونس 28 بالمئة، والجزائر30 بالمئة، وعلى ليبيا 31 بالمئة، والعراق 39 بالمئة وكانت الأعلى من نصيب سوريا برسوم بلغت 41 بالمئة.
لا شك أن الرسوم الجمركية تشكل عبئا إضافيا على اقتصاديات الدول العربية التي تعاني أغلبها من أزمات اقتصادية وسياسية ومعيشية، وكأن الإدارة الأمريكية ارادت إغراق هذه الدول في تبعيتها أكثر مما هي عليه اليوم بخضوعها لشروط البيت الأبيض والدول الدائنة والمؤسسات المالية الدولية التي صادرت القرار الوطني ووضعت السيادة على الرف. وبدلا من تحويل التحدي إلى فرصة ومواجهة الغطرسة الامريكية، سارعت بعض العواصم إلى إعلان الغاء الرسوم كلية، مع أن الدول العربية مجتمعة تُصدِّر 22 مليار دولار فقط من السلع غير النفطية في العام 2024، وكانت 14 مليار دولار في العام 2013، بينما تراجع اجمالي الصادرات من 91 مليار دولار سنة 2013 الى 48 مليار دولار العام الماضي، وفق لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، التي لفتت إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي سوف تواجه مصاعب إضافية بسبب تراجع اسعار النفط الى متوسط 66 دولار للبرميل بينما كان يحوم سعره حول أكثر من 80 دولار للبرميل.
يمكن للدول العربية بدء الخروج من الازمات المتناسلة على كافة الاصعدة بالعودة للداخل الشعبي واشراك شعوب المنطقة في اتخاذ القرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بما يضعها على سكة التنمية المستدامة التي طال انتظارها، وبتعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي من خلال الإسراع في تنفيذ اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، والاتحاد الجمركي الخليجي، واتفاقية أغادير، ما من شأنه دعم التجارة البينية العربية وزيادة القدرة التفاوضية الجماعية، وهذا ما ذهبت إليه توصيات (اسكوا). كما أن الشروع في مفاوضات مع امريكا على شروط تجارية أكثر ملاءمة، وإعادة تموضع الدول العربية ضمن سلاسل القيمة العالمية، من خلال الإستثمار في البنية التحتية اللوجستية، وتحسين الأطر التنظيمية، وتعزيز مرونة سوق العمل. إن المنطقة العربية "تقف عند مفترق طرق اقتصادي حاسم. فرغم التحديات الفورية التي تفرضها هذه الرسوم، إلا أنها تتيح فرصة غير مسبوقة لبناء اقتصادات أكثر مرونة وتنوعًا وتكاملًا في مختلف أنحاء العالم العرب، حسب تأكيد الدكتورة رولا دشتي، الأمينة التنفيذية للإسكوا.
فهل تفعلها الدول العربية مرة واحدة بدلا من القمم التي تعقدها ولم يعد أحد يتابع مخرجاتها؟
ثمة شك كبير في ذلك!!