في 15 أيار/ مايو بعد أيام قليلة تحل الذكرى السابعة والسبعين لنكبة فلسطين عام 1948 ،وتتزامن هذه المناسبة مع استمرار نكبة العصر التي أرادها نتنياهو "حرب نهضة" الكيان وحرب "الوجود الصهيوني". وكما أرادها داعمه وشريكه التاجر المستثمر ترامب "جحيماً" يحرق الأطفال والنساء في خيامهم التي لا تختلف كثيرا عن تلك الخيام التي سكنوها مع آبائهم وأجدادهم في نكبة 1948 في منافي الدول المجاورة عقب التهجير القسري الذي تم برعايةٍ بريطانية ، والذي أيضا بدوره لا يختلف عما يخطط له ويسعى إليه اليوم قادة الحرب الصهاينة وداعميهم في الإدارة الأمريكية الترامبية ؛ ذاك التهجير، الذي كانت وراءه عصابات شتيرن والهاغاناه والأراغون الصهيونية عقب المجازر التي ارتكبتها هذه العصابات.
ما أشبه اليوم بالأمس ضحايا هنا وضحايا هناك ، صمت وتخاذل الأشقاء إلا من قليلهم الفقير في اليمن الذي كان يوماً سعيداً. هنا وهناك وصرخات ومواقف خجولة من بقايا الشعوب المقهورة وقواها العاجزة ، قتل ودمار هنا وهناك والعالم يتفرج وكأنه يشاهد مسلسلاً أميركياً هوليوودياً تهزه مشاهد الإبادة والتطهير العرقي لحظياً، ثم لا يلبث إلا أن ينسى ما شاهده وآخرون من ذوي القربى أو الصداقة يكتفون بالندب والعويل أحياناً ، ويطلقون تصاريح وبيانات الإدانة و الاستنكار والاستهجان لما حدث. ذات الشيء حدث عقب نكبة 48، مع فارق تقدم التكنولوجيا والإعلام وأسلحة الدمار الفتاكة وظهور نازيين جدد تفوقوا على أقرانهم في تلك الحقبة، وزيادة سطوة اليمين الديني المتطرف والإنجيليين التوراتيين على صنع القرار في العالم.هناك ثمة فارق كبير بأعداد الضحايا الفلسطينيين في نكبة غزة ؛ فقد بلغت إعداد المهجّرين من بيوتهم ما يزيد على مليونين ،
أما الشهداء تجاوزوا ( 52 ) ألفاً والجرحى (117) ألفاً و المعتقلين نحو (5000) والمفقودين ما يزيد على
( 10) آلاف ،ولقد قتل الجيش الإسرائيلي ما يزيد على 1200 أسرة بالكامل، وقد مُحيت من سجلات القيد المدني، وهذه الأعداد إلى تزايد مع قادم الأيام ، بينما طرد نحوه (750) ألف فلسطيني إلى دول الجوار، واستشهد نحوه 5000 مواطن. المشهد في غزة كان ولا زال مختلفاً ؛ هناك دمار كامل لكل البنى والمرافق الحيوية والحياتية من مستوصفات ومشافٍ ومدارس ومراكز إيواء ودوائر رسمية وجامعات ومدارس ومراكز ثقافية وعلمية ومساجد، وكنائس ومحطات مياه وكهرباء وآبار. دمار كامل لمدن بأكملها ، ونسف لمربعات وأحياء سكنية في مخيمات اللجوء.أما في نكبة 48 فقد مُحيت عشرات القرى الفلسطينية من الوجود. لقد كانت حربا إجرامية في نكبة 48 لكنها في نكبة غزة كانت أكثر إجرامية ؛ فهناك قاذفات القنابل الثقيلة الأمريكية الصنع و الطائرات الحربية الأمريكية أف 35التي تسلّمت "إسرائيل" أعداداً منها مؤخراً من إدارة ترامب ، الذي يدّعي أحياناً حرصه على تحقيق السلام ووقف إطلاق النار ، وهناك المسيّرات الهجومية المفخخة التي لا تغادر سماء القطاع إلا بعد موسم حصادٍ يومي للشهداء لايقل عن خمسين شهيداً وضعفهم جريحاً ، وهناك الأحزمة النارية وسياسة الأرض المحروقة والقوة العسكرية المفرطة التي لا تبقِ، ولا تذر شيئاً ، وهناك سياسة التجويع والتعطيش التي لم يمارسها أحد عبر التاريخ بهذه القسوة وهذا الإجرام من خلال منع المساعدات وإغلاق المعابر ، إضافة إلى نشر الأوبئة والأمراض وكل تفاصيل وأنواع الموت.
ويبقى الاختلاف قائماً ؛ عقب نكبة 48 كانت الدعوة من الشرفاء والوطنيين آنذاك لحمل السلاح وإطلاق الكفاح المسلح لتحرير فلسطين وعودة اللاجئين وقد تحقق ذلك، لكن بقي التحرير. أما اليوم فالدعوات لتسليم سلاح المقاومة والخضوع لشروط المحتل تأتي من "فخامة رئيس السلطة" ، والمدافع عن التنسيق الأمني مع العدو، والحريص على مستقبل الشباب الإسرائيلي ، ومهندس اتفاقات أوسلو التي وصفها ذات يوم الرئيس الراحل عرفات " أنها فخ ، وقد وقعنا فيه ".
في نكبة 48، استطاع الشعب الفلسطيني أن ينهض من جديد وشكل مقاومته، بدعم من الشعوب العربية وبعض القادة الشرفاء العرب ، لكن غزة اليوم وحيدة لا تجد لقمة ًتسد رمق طفلٍ جائعٍ ولا جرعة ماء تروي ظمأ مسن أو امرأة حامل على وشك الإنجاب. غزة أسطورة الصمود تحتضر اليوم فلا ماء ولا غذاء ولا دواء ولا مأوى، ولا أمان ، كل شيء انتهى إلا الكرامة والعزة والإباء ، وبقيت مقاومة المحتل والتمرد على الواقع المرير. خلال 77 عاما دقت فلسطين ورجالها كل الأبواب الموصدة ، ودقت جدران الخزان ، لكن ما من مجيب ،استصرخت الضمائر، فصمّ العالم أذنيه ، وكَثُرت مشاهد الإبادة الجماعية والمجازر بحق الأطفال والنساء، لكن العالم أغلق عينيه وكُمّت الأفواه. هبت غزة لتغيث أخواتها وتمحو آثار نكبة 48 ، فأصبحت هي النكبة والمنكوبين ، وأضحت غزة هولوكوست القرن الحادي والعشرين على يد النازي الجديد سيد الإبادة والإجرام نتنياهو وبمباركة الإدارة الأميركية السابقة والحالية، واجتمع قادة الاحتلال على اختلاف انتماءاتهم وألوانهم ومشاربهم وتوجهاتهم على إراقة الدم الفلسطيني، ومحو وجود الشعب الفلسطيني. وهكذا بقي المشهد في نكبة فلسطين ونكبة غزة المعاصرة يطرح سؤالاً مهماً : ما العمل فلسطينياً وعربياً ودولياً ؟
أمام هذا الواقع المرير ،
لابد من إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية على أسس وطنية تحظى بموافقة كافة فصائل العمل الوطني ؛ وهذا يتطلب عقد مجلس وطني لفلسطينيي الداخل والشتات تشارك فيه الفعاليات والشخصيات الوطنية المعروفة بتاريخها النضالي وغيرتها على القضية والوطن والشعب، بدلاً من عقد مؤتمرات واجتماعات تقسيمية جانبية ذات لون واحد لا تحظى بالحد الأدنى من الإجماع الوطني.
والمطلوب أيضاً انتخاب قيادة وطنية فلسطينية تحظى باحترام الشعب وترتقي إلى مستوى تضحياته والعمل، وفق برنامج سياسي واضح ،
يأخذ بعين الاعتبار الواقع الفلسطيني والعربي والدولي لمواجهة التحديات و المشاريع السياسية المطروحة ،
وعدم التنازل عن حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على ترابه الوطني وعاصمتها القدس ، وتأكيد مشروعية سلاح المقاومة ؛ كونه سلاح الحرية والتحرير وضمان حماية شعبنا و صيانة حقوقه. والمطلوب أيضا، الترفع عن سياسة المهاترات والتخوين والإساءة للمقاومة والشعب اللذان صمدا ولازالا لأكثر من 18 شهراً ، واللجوء إلى الحوار تحت سقف المؤسسات والأطر الشرعية ، والارتقاء إلى مستوى نضالات وتضحيات شعبنا.
اما عربياً المطلوب وضع قرارات القمم العربية موضع التنفيذ سيما تلك التي دعت إلى دعم الشعب الفلسطيني، وتمكينه من إقامة دولته المستقلة، وصيانة حقوقه الوطنية المشروعة الثابتة. والمطلوب وقف التطبيع وقطع العلاقات مع العدو وطرد السفراء الصهاينة ، وتبني الإجراءات الرادعة بحق دولة الاحتلال وشركائها ، والعمل على إشراك الشعوب العربية وقواها في مواجهة مخططات الاحتلال التوسعية التي تهدد الأمن العربي والإقليمي خاصة، تلك التي تتعلق بمشروع نتنياهو "الشرق الأوسط الجديد" الهادف إلى التوسع وتقويض اقتصاديات الدول العربية، أيضاً التوجه إلى الهيئات والمنظمات الدولية لوضع قراراتها موضع التنفيذ ، خاصة فيما يتعلق بانسحاب "إسرائيل" من الأراضي المحتلة، ومحاسبة مجرمي الحرب الصهاينة لارتكابهم مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين ، وجرائم حرب ضد الإنسانية وذلك بالاعتماد على نفوذها الاقتصادي والتجاري، ومكانتها العالمية بين الأمم.
أما دولياً ، فإن العالم مطالب اليوم بالعمل سريعاً عبر مجلس الأمن وهيئات الأمم المتحدة الأخرى على استصدار قرار بالإيقاف الفوري للحرب وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة وعودة النازحين وإدخال المساعدات وفتح المعابر ، وإعادة العمل بالبروتوكول الإنساني الذي نصت عليه المرحلة الأولى من اتفاق الهدنة ، ورعاية أممية نزيهة لمفاوضات التوصل إلى إبرام اتفاق تبادل الأسرى بعيداً عن الأمريكي الذي لم يعد وسيطاً نزيهاً خاصة بعد الانسداد الميداني، وفشل الضغط العسكري بالإفراج عن الرهائن ، والحديث عن تغيير في الموقف الأمريكي مؤخراً، وتشكيل صندوق دولي لإعادة الإعمار ، كذلك العمل من جهة أخرى على إحياء وتطبيق كافة قرارات الشرعية الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية ، ووضع حد للغطرسة الإسرائيلية ، والتوقف عن سياسة ازدواجية المعايير ونبرة معاداة السامية التي تجيدها الدوائر الغربية والدول العميقة الداعمة للكيان الصهيوني.
ختاماً ، على الرغم من نكبة العصر في غزة، فإن مفتاح العودة لازال في عهدة أطفالنا وفي أعناق نسائنا وفي أكف رجالنا، وأن ما أنجزته المقاومة في السابع من أكتوبر وما تلاه من عمليات نوعية أكدت على حقيقة هزيمة الكيان ، ولعل الانقسامات الحادة والخلافات العميقة التي يشهدها الداخل الإسرائيلي في المستويين العسكري والسياسي إلا نتيجة لتلك الهزيمة. إن التاريخ يشهد إن النصر دوماً حليف الشعوب المناضلة ، فمن لا يقرأ التاريخ لا يستطيع أن ينجو بحاضره نحو المستقبل المنشود.