Menu

النكبة وجدلية الألم

ياسر جميل فياض

يصادف اليوم مرور 77 عامًا على أهم حدث في تاريخ فلسطين الحديث، النكبة. في الترجمة الحرفية من العربية، تعني كلمة "النكبة" "الكارثة"، إلا أن هذا لا يعني أن الحدث التاريخي الذي تحاول الكلمة التقاطه كان حدثاً "عشوائياً"، مثل بعض ما يسمى "الكوارث الطبيعية". أما النكبة، على العكس من ذلك، فقد كانت حدثاً مخططاً له بعناية فائقة ومنفذاً بعناية، وتضمن قدراً كبيراً من القسوة المتقنة من جانب المستعمر، أكثر من ذلك... فقد كان مرغوباً فيه بوضوح من قبل المشروع الصهيوني اليهودي في فلسطين.
النكبة هي الطرد من خلال العنف المباشر والإرهاب واليأس الذي خلقته مجموعات شبه عسكرية يهودية، مسلحة بشكل كبير ومدربة تدريباً صارماً، والتي أصبحت فيما بعد القاعدة الأساسية للجيش الإسرائيلي الإبادي (نفس الجيش الذي ذبح المدنيين في قطاع غزة لمدة 580 يوماً). لقد تم تنفيذ "النكبه" على السكان الفلسطينيين الأصليين دون أي وسيلة للدفاع عن أنفسهم. وفي واقع الأمر، كان نزع سلاح السكان المدنيين الفلسطينيين، والذي لعبت فيه الإمبريالية البريطانية الدور الأساسي، أحد العناصر التي شكلت التحضير للنكبة.
لم يكن الهدف فقط سرقة الأراضي الفلسطينية ومصادرتها وضمها لاحقاً بمزارعها ومنازلها ومبانيها وصناعاتها وطرقها وموانئها وسككها الحديدية وغيرها، ولا فقط طرد نصف السكان الفلسطينيين، الذين بلغ عددهم في ذلك الوقت 700 ألف فلسطيني من أراضيهم التي يعود تاريخها إلى ألف عام... بل كان الهدف الأعظم للمستعمر اليهودي الصهيوني هو تدمير الشعب الفلسطيني ،
فكان أمل المشروع الاستعماري هو أن يكون العنف والإرهاب واليأس قادراً على تهجير السكان الفلسطينيين إلى الدول العربية المحيطة وأنهم سوف يستسلمون إلى الأبد نتيجة تفكيك نسيجهم الاجتماعي، كانت الأطروحة الصهيونية اليهودية هي أن الفلسطينيين سوف "يمتزجوا" في محيط من العرب، أي أن الفلسطينيين سوف يتوقفون عن امتلاك سماتهم الخاصة وسيصبحون في غضون جيل واحد أو جيلين أو ثلاثة على الأكثر "عربياً عادياً" منسياً عن أراضيهم القديمة.
إن روايات الفلسطينيين الذين عاشوا خلال هذه الفترة مأساوية إلى حد المؤلم: تشتت الأسر، وعدم اليقين بشأن المستقبل، وحمل مفاتيح المنازل على أمل العودة، والشوق الشديد للحياة في القرى وللأصدقاء، وفقدان ممتلكاتهم المادية، والتي كان الكثير منها إرثًا تاريخيًا عمره قرون أو آلاف السنين، والموت والتقارير عن العنف الوحشي والمروع الذي مارسه اليهود الصهاينة، وما إلى ذلك.
النكبة ألم عظيم!
وأصبح ألم الطرد والقتل ألم الولادة وحياة الفلسطيني الجديد، بمعنى آخر، إن الألم الذي كان يهدف إلى تدمير الشعب الفلسطيني ومحوه تاريخياً هو نفس الألم الذي أعاد بناء الهوية الفلسطينية جدلياً، لقد استطاع الفلسطينيون أن يتعاملوا مع المأساة التي حلت بهم، ليس من دون معاناة كبيرة، بالوحدة، وتعزيز الروابط الاجتماعية، والتضامن، وغير ذلك، كشعب حقيقي وليس كمجموعة من الناس كما توقع المستعمر ،هكذا تعامل الفلسطينيون مع المعضلة الوجودية التي مثلتها النكبة: لن نمحى أو ندمر، نحن الشعب العريق في أرض فلسطين وسندمج هويتنا الماضية في متطلبات النضال من أجل المقاومة والتحرير في الحاضر والمستقبل.
بالنسبة لي، النكبة هي يوم ألم، بسبب العنف البغيض الذي كان الفلسطينيون ضحايا له، ولكنها تمثل أيضًا "ميلاد" أحد أكثر الشعوب شجاعة وجرأة وتسييسًا في العالم، في هذه الرحلة الطويلة، حوّل الفلسطينيون، من خلال نضالهم، قضيتهم إلى أعظم وأهم قضية إنسانية في عصرنا التاريخي، كل هذا بكثير من الألم والمعاناة... مثل النكبة.