لا يخفي الرئيس الأمريكي ترامب إعجابه ببعض المصطلحات مثل " الرسوم الجمركية " التي فرضها على عشرات الدول قبل أسابيع وتراجع عنها بعدما أدت إلى ارتباك شديد في الأسواق الأمريكية بداية وأثارت الرعب في صفوف إدارته بحسب بعض التفسيرات أو تبريرات أخرى . وفي سياق المصطلحات غير المحببة لديه يبرز مصطلح " المقاومة " بوصفها أحد أكثر المصطلحات التي يمقتها ترامب لكنها تنجح مرات عدة في التعبير عن نفسها لكبح جماحه سواء حين " يرف جفنه أولاً " نتيجة سياساته الارتجالية أو يواجه فرملة لقراراته من إدارته وزمرة مستشاريه أو حين يلقى صدّاً من القضاء أو غضباً يعبّر عن نفسه في الشارع أو في استطلاعات الرأي وصناديق الاقتراع !..
كل ذلك يجعل من انطلاقة ولاية ترامب الثانية ارتجالية نرجسية حيث يواصل اختبار حدود غطرسته بنمط جديد من السياسة الأمريكية قائم على مبدأ " الصدمة ورفع الدوز " إلا أن الكثير من الانتكاسات أصابت هذه الاختبارات باكراً مما اضطره للتراجع خطوات إلى الخلف رغم عدم إقرار إدارته بذلك . أما الحديث عن نظرية مضادة مفادها : " إن القرارات والعودة عنها تتم عبر خطط مدروسة "حسب تأكيد وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت يوم 9/4/2025 :" إن التراجع كان هو الخطة الأساسية لترامب لإجبار باقي الدول على الجلوس حول طاولة المفاوضات ".
رغم هذه التبريرات إلا أن الرئيس الأمريكي أذعن مرة أخرى لحقيقة " أن الرياح لا تأتي بما تشتهي سفنه " فتراجع صاغراً عن الرسوم الجمركية الإضافية التي فرضها على عشرات الدول حول العالم، فيما وصفه بـ" يوم التحرير " في 2/4/2025، مكتفياً بتخفيض الرسوم إلى 10% " وتعليق قرار رفعها " 90 يوماً " انسجاماً مع قوله :" استجابة للدول التي طلبت التفاوض مع واشنطن بشأن الاتفاقات التجارية "!.
بينما يرفع ترامب بأثر فوري الرسوم الجمركية على الواردات الصينية إلى " 145% " - دخلت حيّز التنفيذ يوم 9 /4/ 2025 – فإن هذا القرار قد يكون بدوره عرضة للتراجع بعدما ردت بكين بإجراءات انتقامية ودعت واشنطن للتفاوض من أجل " حل وسط " !.
مهما يكن ، فإن التشويش الكبير الذي أحدثه ترامب بقرار رفع الرسوم الذي وصل إلى " 50% لبعض الدول – إذا ما استثنينا الرسوم على الصين – تعادلها تلك التي أحدثها بتراجعه، فالأسواق العالمية تنفست الصعداء. وهذه ليست المرة الأولى التي يعود فيها ترامب خطوات إلى الوراء فيما يتصل برفع الرسوم الجمركية لا سيما أنه هدد منذ كانون الثاني الماضي بفرضها على كندا والمكسيك وتراجع عنها أكثر من مرة !.
كشفت صحيفة نيويورك تايمز يوم 10/4/2025 ، أن نائب ترامب جي دي فانس ، ووزير خزانته بيسنت دفعا من أجل مقاربة لمسألة الصراع التجاري تقضي بالتركيز على عزل الصين بوصفها " الطرف الأكثر تأثيراً وإضراراً بالمصالح الاقتصادية الأمريكية " .
ليست الرسوم الجمركية التراجع الوحيد الذي أقدم عليه ترامب منذ عودته للبيت الأبيض بالرغم من أنه هذه المرة كان أكثر جرأة على تشكيل فريقه من الموالين له والمؤمنين لما يقول إنه " يلحق به حدسه " في اتخاذ القرارات .. رغم ذلك فإن جبهات صد تشكّلت منذ 20/1/2025 جعلت ترامب غير قادر – كما في ولايته الأولى – على الذهاب بعيداً ببرنامجه الفوضوي المتطرف، وينطبق ذلك على صغائر التفاصيل وأكبرها متزامناً مع فرض الرسوم الجمركية بنسب غير مسبوقة، والتي أسفرت عن حالة ذعر في الأسواق الأمريكية تراجعت إدارة ترامب عن خفض مساعدات غذائية طارئة طالت " 14 دولة " مستأنفة تقديم المساعدات لست منها , ولا يأتي ذلك عن عبث بعدما خرجت التحذيرات من وقف المساعدات عن دول مثل السودان ولبنان وسورية وارتداد ذلك على الأجندة الأمريكية في هذه الدول !.
ويطال هذا التراجع مسائل لا تحصى ابتداءً من " احتلال المريخ " إلى وقف العمل بالتوقيت الشتوي وصولاً إلى إلغاء " حق المواطنة بالولادة " وكل ذلك وجد صدّاً إما قضائياً أو سياسياً .. ويذكّر ذلك ببداية ولاية ترامب الأولى حين تساءل عن السبب الذي يدعو واشنطن للتمسك بالاعتراف بسياسة " الصين الواحدة " قبل أن تثور بكين غضباً إثر اتصال ترامب هاتفياً بالرئيسة التايوانية آنذاك تساي إنغ وين في خرق مكشوف للدبلوماسية التي تعتمدها واشنطن منذ عقود ليعود لاحقاً ويؤكد في اتصال مع نظيره الصيني شي جين بينغ " التزامه بسياسة "الصين الواحدة " !.
مع انطلاقة ولايته الثانية أبدى ترامب استحسانه لفكرة الاستيلاء على قطاع غزة وتهجير سكانه الأصليين ثم تراجع عن فكرة الاستيلاء وتمسك بتهجير السكان وفي 26/1/2025 لمّح إلى إمكانية عودة الولايات المتحدة إلى منظمة الصحة العالمية بعدما كان قد وقّع أمراً تنفيذياً بالانسحاب منها في أول يوم عمل له بعد العودة، وفي 21/2/2025 قررت إدارته العدول عن وقف مجانية برنامج اختبارات " كوفيد 19 " الذي كان أمر به، وفي 27/2/2025 عادت إدارة ترامب عن قراراها بوقف المساعدات الفيدرالية وبرنامج " قروض ومنح " تحت وطأة الرفض الشعبي كما تراجعت عن قرار تحويل معتقل غوانتنامو في كوبا إلى مركز لاحتجاز المهاجرين غير الشرعيين نتيجة ما أثاره القرار من تشكيك بمعايير سياسات الهجرة، كما منع النظام القضائي العمل بقرار ترامب إنهاء " حق المواطنة بالولادة " لمواليد الأشخاص الموجودين في البلاد بشكل غير شرعي .. وعندما وقّع ترامب الأمر التنفيذي لإنهاء سياسات التنوع والمساواة في الحكومة الفيدرالية أيضاً صد القضاء ذلك القرار وأوقفه !.
وفيما يخص الصين تراجع ترامب عن تنفيذ قانون بيع أو حظر تطبيق " تيك توك " بعدما وعد بذلك خلال حملته الانتخابية منتظراً " صفقة " مع الصين حول التطبيق، وكان في ولايته الأولى قد أدرج شركة الاتصالات " هواوي " الصينية في اللائحة السوداء للمصدرين. لكن اعتبارات عدة دفعته سريعاً للعودة عن الحظر بعدما علا صراخ الشركات الأمريكية أما روسيا فيواصل ترامب التعامل معها بتذبذب رغم المحادثات الجارية بين البلدين .
هروب الاستثمارات الأجنبية وإقبال الخليجية :
أحد الأهداف الرئيسية للحرب التجارية التي يتزعمها ترامب ضد دول العالم عبر فرض الرسوم الجمركية المبالغ بها هو زيادة الاستثمارات الأجنبية داخل الولايات المتحدة، ودفع الشركات العالمية الكبرى نحو إقامة مصانع وشركات لها بأمريكا لتفادي دفع رسوم أيضاً مبالغ بها تصل إلى " 145% " كما هو الحال مع الصين وجذب تريليونات الدولارات من الخارج تساعد على توفير فرص عمل لملايين الشباب الأمريكي العاطل عن العمل وزيادة الإنتاج المحلي وتوفير احتياجات الأسواق، وهو ما يقلل نسب التضخم ويدفع البنك الفدرالي نحو خفض سعر الفائدة وهو أحد أبرز مطالب لوبي" وول ستريت " والملياديرات الداعمين لترامب . لكن حساب البيدر لم يتطابق مع حساب الحقل .. ! الذي واجه العواصف من كل جانب، فقد كشفت صحيفة فاينانشال تايمز يوم 6/4/2025 أن عدداً من الأثرياء الأمريكيين – داخل أمريكا وخارجها – بدؤوا بوضع خطط احتياطية لنقل أصولهم وسنداتهم المالية إلى عدد من دول العالم أبرزها سويسرا في ظل حالة عدم اليقين والفوضى التي تثيرها إدارة البيت الأبيض، وتعيد تلك الإجراءات إلى الذاكرة ما حدث عقب الأزمة المالية العالمية في العام 2008 حيث هرب مستثمرون ورجال أعمال أمريكيون أموالهم إلى أسواق العالم عقب تهاوي بورصات " وول ستريت " !.
العزوف عن الاستثمار في الولايات المتحدة حالياً لا يقتصر على الأمريكيين فحسب، بل على المستثمرين الدوليين أيضاً الذين وجدوا مخاطر شديدة في أسواق الولايات المتحدة وتخبّط في صناعة القرارات داخل البيت الأبيض وتشاؤم فيما يخص مستقبل الاقتصاد واحتمال تدحرجه نحو الركود. كما أن حالة العزوف تلك انتقلت إلى حلفاء الولايات المتحدة، فدعا الرئيس الفرنسي ماكرون شركات وبنوك الاتحاد الأوروبي إلى تجميد استثماراتهم في الولايات المتحدة وخصّ الشركات الفرنسية بتعليق جميع المشاريع والخطط الاستثمارية حتى يتضح الموقف بشأن الرسوم الجمركية !.
- العزوف الدولي المتنامي تجاه الاستثمار في الولايات المتحدة برز إقبال شديد من قبل دول الخليج نحو ضخ تريليونات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي، ففي 22/3/ 2025 أعلنت إدارة ترامب استثمار الإمارات العربية " 1,4 " تريليون دولار خلال السنوات العشر المقبلة في الاقتصاد الأمريكي، وقبلها أعلنت المملكة السعودية رغبتها بزيادة استثماراتها في أمريكا بمقدار " 600 " مليار دولار خلال السنوات الأربع القادمة، كما أعلن ترامب أنه يخطط لزيارة الرياض مشيراً إلى صفقة لاستثمارات كبرى من السعودية في الولايات المتحدة قيمتها تريليون دولار!..